مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات
ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..
< إعداد: زهير فخري
مع القاص إبراهيم زرقاني
ارتماءة غريبة في عالم عجائبي
لا أتذكر جيدا كيف مرت كل إجراءات التسجيل في المدرسة الابتدائية، التي توجد على مرمى حجر من منزلنا. مدرسة المسجد. هكذا تمت تسميتها لقربها من المسجد. رغم أن نوافذ الأقسام كانت تطل على مقبرة الولي الصالح “سيدي عثمان”، فلا أحد من المسؤولين عن إطلاق هذا الاسم فكر في تسميتها بمدرسة المقبرة، ربما لأن الاسم لا يبعث على الحياة، خاصة أن صراخ الأطفال وعبثهم كان يحرم هذه المقبرة من أن تلبس ثوب الحزن يوميا. في اليوم الأول، وبما أن المدرسة على بعد خطوات، ارتأت أمي أن تتركني وحيدا لمواجهة هذه اللحظة التي بدت لي كارتماءة غريبة في عالم عجائبي مليء بالألوان والألغاز. ألبستني ملابس العيد التي احتفظت بها ككنز ثمين بعدما نزلت أطياف الليل على يوم استثنائي كالعيد. مازال العطر ينام في ثنايا تلك الملابس التي، يحرجني وأنا طفل، أن أجلس في أي مكان خوفا من أن تتلطخ وأسمع الكلام الذي لا يعجبني. وقفت حيث تجمهر الأطفال، كانت الضوضاء شبيهة بسقوط مروع في فخ أصوات مزعجة. لم تهدأ العاصفة إلا حينما فتح الباب الحديدي الكبير وخرج منه رجل بدا من ملامحه أنه لن يكون شخصا جديرا بالمحبة… لم أنتبه للعصا في يده إلا حينما لمحت موجة من الأطفال تتراجع إلى الوراء وتدهس كل من كان يقيم في لحظة تأمل… تصاعد الغبار ولم أعد أرى شيئا، سمعت فقط صوته الجهوري وهو يقول: “الأطفال الجدد فليتقدموا”… نظرت إلى ملابسي الجديدة وعرفت أنه يعنيني واندسست وسط هؤلاء الأطفال الذين تقدموا رغم أن أغلبيتهم لم يلبسوا لباسا جديدا.
كثيرا ما حكيت هذه الحادثة لأصدقائي الذين كانوا يسرفون في تخيل مواقف أخرى لو أن أمي لم تلبسني تلك الملابس. المهم أنني عرفت آنذاك أني دخلت عالما جديدا من جدران ومعلم أنيق وكتب ملونة وأشياء أخرى لم تكن لتجد لها مكانا في المسيد، حيث الفقيه الجبلي يتفنن في صياغة كل أشكال الإيقاع بأحدنا كي يأخذ حصته من الضرب والتعنيف. كنت أكره المسيد. لم تكن تعجبني رائحته.
كنا نجلس القرفصاء على حصيرة تشبعت برائحة الرطوبة وعرقنا، خاصة في الأصياف.
ولم يكن يعيرنا الفقيه أي اهتمام. كان يجلس قبالتنا على منصة صغيرة صنعها أو صنعت نفسها من أعداد اللحاف التي أخذت لها مكانا خاصا. على مقربة منه، صندوقه الخشبي الصغير وقد أطلت منه أقلامه القصبية بعنفوان صبية صغار، أقلامه التي صنعها من القصب وأصبحت لها رؤوس مدببة تنتظر، بشغف، الانزلاق على الأوراق البيضاء التي كان يحرص على تقطيعها إلى مربعات، إذ بعدما يغمس رأس تلك الأقلام ويبدأ في رسم أشكال غريبة ويضعها بعد ذلك على الأرض كي تتشرب ماء الزعفران والخليط الأسود. بعد ذلك يطويها بعناية ويمدها للمرأة التي أتت لتستعين بتلك الأشياء في قضاء مآربها الخاصة؛ بعد ذلك كنت أسمع ذوي سقوط النقود المعدنية في قعر الصندوق.
أمضيت وقتا طويلا في ترديد الآيات القرآنية ببلادة من يعيدون الكلام كالببغاوات في المدرسة. تغيرت أشياء كثيرة. الرائحة لم تعد كما عهدتها بالمسيد، كان لها طعم الغبار وما تخلفه رؤوس الطباشير عندما تندحر بكرامة على السبورة السوداء. كان المعلم أنيقا بشكل جعلني أحلم أن أكون مثله عندما أكبر. كان يلبس قميصا وسروالا ويدخن سيجارة رفيعة، لم أدون اسمها إلا بعدما تعلمنا الأبجدية الفرنسية سنوات بعد ذلك الدخول الغريب. فوق السبورة السوداء كانت هناك صور ملونة.. طبيعة ميتة..
صور ترافقها بعض الوصايا. كان الجو مختلفا بعد ما التحقت بنا الفتيات وجلسن في الصفوف الأخيرة، لذلك كانت المنافسة شرسة لالتقاط كل الاهتمام الذي يولينا إياه المعلم.
كنت سعيدا بهذا التغير خاصة أن المدرسة كانت لها طقوسها الخاصة. الوقوف أمام العلم الأحمر والذي تتوسطه نجمة خضراء. نبدأ بالنشيد الوطني ونتوزع بعد ذلك إلى صفوف كمقطورات متحركة لنلتحق بالفصل. اللقاء الأول بالريشة التي تلمع والحبر الأسود في محبرة من البلاستيك المقوى. بذل المعلم مجهودا كبيرا لكي يعود أناملنا الصغيرة على ضبط هذه الريشة ورسم الحروف الأولى. كان للورق طعم خاص وملمس غريب تنزلق عليه الريشة كخدش رفيع لتترك أثر الكلمات التي بدأت تتشكل شيئا فشيئا. لكن كل هذه الالتماعات ما فتئت أن تسرب إليها المحو، عندما بدأ التعنيف وأصبحت حصص الدراسة مباريات في الانفلات من العقاب. أتذكر أن تلميذا لم يكن، رغم سنه المتقدم، يستطيع كبح جماح البول لكي يرسم على سرواله هالة من الظلال القذرة. فما أن يلمحه تلميذ وقد تبلل بالعرق خوفا، حتى يقدم الخبر بشكل عاجل، مما يجعل التلميذ عرضة لكل أشكال الحط من كرامته، إذ يعمد الأستاذ إلى كتابة “أنا تلميذ بوال” على لوحة صغيرة يحملها التلميذ على رأسه الجميل ويتجول بها في كل الأقسام إذ تسمع فرقعة الضحكات كلما دخل التلميذ إلى قسم. أتذكر عودته بعد هذه الجولة وقد اكتسى وجهه حزنا قاتما ومريعا…
الخوف كان هاجسا يوميا.. كثير من الأطفال عمدوا إلى اختراع كل الأشياء التي يمكنها أن تخفف ألم العصا، خاصة في الشتاء حينما تتجمد أيدينا وتصبح العصا شكلا رهيبا ينضاف إلى هذا العذاب.
لكن هذا كان يحفزنا لكي نقوم بمجهوداتنا الخاصة ونتفنن في شغبنا الطفولي مما كان يجلب علينا غضب المعلم.
أتذكر كيف كنا ننتظر العطلة كما لو كنا سننعتق من سجن رهيب. كنا نسميها “التحريرة”. التحرر من قيد الدرس والحفظ وحقد المعلم. كنا ننسى اللحظات الرهيبة ونحن نسمع صرخات الأطفال في القسم المجاور مما كان يعني لنا أننا سنمر من الطريق نفسه.
حينما أسترجع كل تلك اللحظات وأستأنس برحابة الزمان والمكان وهشاشة الطفل الذي كنته، أحس كما لو أن ثقلا ما قد انزاح عن صدري. وجوه كثيرة فقدت ملامحها والرجل الذي فتح الباب الحديدي وأدخلنا إلى عالم تلك المدرسة الشبيهة بالثكنة، مازال يعد الآن أيامه المتبقية. تلاشت ملامح القسوة من وجهه وأصبح مثل الطفل يرنو إلى المارين كما لو يطلب صدقة. مازالت المدرسة تستقبل كل عام أفواجا جديدة من الأطفال.. أنظر إليهم كما لو كانوا أشباحا من الماضي الذي ذهب أدراج الرياح. شيء ما كالعطر الذي لا يسكن سوى التيه.