الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة الثامنة

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

*كسر بعد مباراة في كرة القدم عشية الإعلان عن نتائج الباكالوريا

ينظرون ويتابعون ويشجعون ويهتفون كما لو أنهم عصافير تتحد مع سرب الطيور في فضاء المباريات الرحب. إنهم أصدقاء أحمد بورة في مختلف مراحل العمر، أطفال ومراهقين وشباب، الذين تابعوا معه،  بشغف الكبار، مباريات عديدة. كان أحمد بورة كثير المرح، فتجده  تارة يشجع فريقا محليا، وطورا يحمل علم البلاد  مشجعا المنتخب الوطني. وكثيرا ما  يقلّد لاعبا يحبه عندما يلعب مع أقرانه. .عالم طفولة  ومراهقة أحمد بورة مليء بألوان الطيف السبعة حيث البراءة ، والنضوج والوعي ، والأحلام ، والإثارة، والشغف، والتملك وأخيرا القيادة .
كان أحمد بورة، كباقي أقرانه، يسمع عن وجوه كثيرة  أنجبتها المدينة القديمة في الرياضة كما في الفن والمسرح والمقاومة … لم يكن بالمدينة القديمة “كودرون”، كان التراب  يكتسح الفضاء.أما الحجر الذي بلطت به زنقة الحناجرة، فجيئ به فيما بعد من أبي الجعد ، وذلك مع أول مجلس بلدي، و الذي كان يرأسه محمد بنعمو، وهو من الرجالات الوطنيين ، نفته  فرنسا من بني ملال إلى مكناس رفقة 20 وطنيا آخرا. أما ساحة المسيرة ، فكانت بها نافورة جميلة،  وكانت مشهورة بالحلقة التي تعقد بها
 يتذكر أحمد بورة أن الفريق الذي حقق أمجاد بني ملال ،كله من هذا الفضاء الصغيرالذي كان عدد سكانه لا يتجاوز 6000نسمة.
كان عالما مغموسا بشغف الكبار بكرة القدم. فطريقته في اللعب كانت تلفت الانتباه وتجعل المحيطين يتساءلون عن طبيعة هذا الطفل الذي ما زال يستنشق هواء الحياة بنفس البراءة ولكنه في الجانب المقابل يفكر بطريقة ناضجة ويحاور بطريقة أكبر من عمره فتجد في عينيه براءة الطفولة ورجولة المتابعة والتشجيع ليظهر الطفل بأنه الشاب الموهوب.
نعم كان أحمد بورة  يجيد ويهوى لعبة كرة القدم قدر إجادته للمطالعة وهوايته للسينما، وقد كان يجد تقديرا ضمن فرق كل المؤسسات التعليمية التي تدرج بها، كما لعب لفريق مدينة مولده ونشأته. إنه فريق رجاء بني ملال الذي تم تأسيسه سنة 1956، بعد اندماج فريقي المدينة آنذاك الاتحاد الملالي والمولودية الملالية، من طرف السيد عبد اللطيف المسفيوي، الذي كان أول رئيس للفريق. وتعاقب على رآسة الفريق الملالي بعد ذلك 16 رئيساً، كان آخرهم الحاج عبد الواحد العسري. فاز الرجاء الملالي ببطولة المغرب القسم الوطني الأول سنة 73-74، كما وصل الفريق 3 مرات إلى المربع الذهبي لكأس العرش سنوات 1965 ، 1971 و 1995. وشارك في كأس محمد الخامس.
يذكَر أن التاريخ الكروي في مدينة بني ملال بدأ قبل الاستقلال وبالضبط سنة 1946، التي عرفت ميلاد أول نادي في المدينة تحت اسم النادي الرياضي الملالي، الذي كان يلعب بأقمصة مخططة أفقيا بالأبيض والأخضر. هذا النادي اختفى بعد الاستقلال.
أنجب الفريق لاعبين كبار أمثال الولد 1و2، واعشيبات هداف االبطولة الوطنية موسم 78 ب 17هدف، باباي، و مازي، و الحاج كبور، و الحبيب، حسن، القداري، بوعالم، جرديني، عليبو، سفير، بدراوي و اخرهم مديحي. و يعد أحمد نجاح من بين أنجح اللاعبين الذين أنجبتهم الكرة الملالية وشاركوا رفقة المنتخب الوطني.
ويذكر أحمد بورة أن ليلة إعلان نتائج الباكلوريا الثانية سعى إليه بعض رفاقه لينضم إليهم للعب مباراة. ونزل عند رغبتهم رغم أنه أبدى اعتذارا لم يتقبلوه. كان الفريق خصما عنيدا مما جعل المباراة تعرف ندَية ملحوظة بلغت حد الخشونة الزائدة التي توجت بعض مشاهدها العنيفة بإصابة الفتى بكسر في يده اليسرى، وانتهت به إلى قسم المستعجلات بمستشفى بن رشد.
وأشد ما أغاضه أنه لم أحض بحضور ليلة إعلان نتائج الباكلوريا مثل العام الماضي، ولم يعش أجواءها المتوترة. وكيف له أن يفعل بعد أن أجريت له عملية جراحية وشلت حركته بثقل الجبص. ويذكر أن صديقا له اسمه محمد لبيضة عاده بالمستشفى قرابة الساعة الثالثة صباحا وهنأه بعبارة هزلية لا زالت ترن بمسمعه حتى اليوم : “هنية عليك أحمد هاذ الهرسة، ومبروك عليك الباك”.
ففاضت مدامعه، وراح يبكي فرحا كما لم يبك من قبل. فرحا بليل قاتم انجلى ومشوار تحصيل مرير انتهى به على عتبة مستقبل مبشر بالخير.
لا مراء في أن كل شخص علي وجه الأرض يحب النجاح، كما يحب أن يكون متفوقاً على أقرانه وزملائه فيها . وهذه سنه الله في خلقه. وليس النجاح فقط في الحصول علي درجات تامة في الاختبارات والحصول علي الشهرة العريضة …الخ، بل إن النجاح الحقيقي هو شعور ذاتي داخلي بتحقيق ما يصبو إليه الإنسان من خير، وزيادة الثقة بالنفس وتنمية القدرات الذاتية الكامنة.
إن أشقى الأشقياء، وأتعس التعساء هو الذي حرم نفسه من كافه الخيارات المتوفرة له للنجاح في هذه الحياة،  
ولابد من توفر المواهب والإمكانات لتحقيق المزيد من الأحلام والطموحات والآمال الواسعة العريضة .
وإن الثروة الذاتية التي حبا الله بها أحمد بورة في شخصيته، وعقله، وفكره، وطاقته، ومواهبه الخاصة هي خير رصيد يمكن استغلاله والإفادة منه لتحقيق أعلى مستويات النجاح التي يريدها المرء في حياته .
ولا غرو أن أحمد بورة ينتمي لجيل لم يكن يعتبر نجاحه مجرد ضربة حظ حالفته، بل كان هذا الجيل يعتبر  فرحة التفوق تتويجا لحصيلة سنوات من جد بلا ملل وجنيا لثمار جهد بلا كلل، وكان ينسب الفضل في توفقه، بعد الله، إلى كل القوى المخلصة، من مدراء، وأساتذة، وإداريين، وعاملين ساهموا، برعايتهم الفاضلة، في دعم مشوار هذا الجيل الدراسي، وكذا إلى شديد رغبة الطلبة في بلوغ ذاك المبتغى المضيء.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top