الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة العاشرة

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

طرد أحمد بورة من الثانوية بعد مشاركته في مظاهرات الدار البيضاء

تجاذب المغرب احتقان داخلي بسبب موقف بعض قواه التقديمية من حشر القوات المغربية في الزايير، إثر اغتيال باتريس لومومبا لحسابات صارت ضد مبادئ الدعم والتضامن مع حركات التحرر بالدول الإفريقية، خاصة وأن الشهيد باتريس لومومبا كان صديقا للمغرب وسبق له أن حل ضيفا على ملك المغرب المغفور له محمد الخامس، الذي أبدا له دعم المغرب ملكا وشعبا لاستقلال كل أقطار القارة الإفريقية ومن ضمنها شعب الكونغو.
لكن شكل نبأ الاغتيال هذا وبتلك الطريقة المأساوية، صدمة لنا كشباب بمرجعيتنا النضالية التقدمية، وكان بمثابة الشرارة التي ألهبت الشعب المغربي وأذكت نار الحماسة والتمرد في الحركة الطلابية.
كان أحمد بورة  رفقة العديد من إخوانه ضمن آلاف الحشود التي ملأت شوارع الدار البيضاء بالمظاهرات الهاتفة بالتصدي لكل أشكال وتمظهرات الكولونيالية الجديدة.
واعتبرت إدارة ثانوية مولاي الحسن المسيرة التي نظمها طلبتها الداخليين انطلاقا من خارج أسوار المؤسسة حتى مقر الولاية، عملا مخلا بالأنظمة الداخلية للثانوية.فكان أن قررت عقوبة الطرد من المؤسسة في حق أحمد بورة وفي حق محمد البيضة ومحمد أوتنكزة وآخرون …الخ.
كان القرار جائرا بالنسبة للجميع، لكنه كان أكثر إيلاما لأحمد بورة دون بقية المعنيين بالطرد، لكونه الوحيد الذي، زيادة على إحساسه بتوقف مشواره الدراسي وضياع مستقبله، لم يجد بدءا من الليلة الأولى من صدور القرار مأوى يأويه إلا العراء.
بعد يومين من هذه الواقعة استدعي أحمد بورة  لمكتب الرقيبGuymartinez    Censeur السيد جي مارتيني، وواجهه متضايقا من تصرفه، فكان بينهما الحديث التالي :
أنت تعلم أن قرارا بالطرد قد شملك وأصدقاؤك، لكنك على حد المعلومات التي بلغتني لا زلت مقيما خفية بداخلية المؤسسة، وهناك بعض الطلبة متورطين في التستر عليك، مما قد يعرضهم بدورهم لقرارات قد تسئ لهم كثيرا.
أنت تعلم سيدي أن فصلنا عن المؤسسة بهذه الطريقة كان جائرا وتعسفيا، كما لا يخفى عليك أن لا وجود في اللوائح الداخلية للثانوية لنص صريح يمنعنا من حق المشاركة في مظاهرات أو احتجاجات أو مسيرات خارج أسوار مؤسستنا.. علاوة على كوني الوحيد الذي لا يتوفر على مسكن يعوضني عن غرفتي بداخلية الثانوية، خاصة وأن أسرتي تقطن في بني ملال بعيدا عن الدار البيضاء، وألا معارف لي بهذه المدينة.
لماذا لا تقصد بيت إبن عمك وكفيلك لدى إدارة المؤسسة ؟
ابن عمي عبد القادر ينحدر من عائلة فقيرة وأجره لا يكفيه لإعالة أسرته.. كيف لي أن أثقل كاهله بإيوائي وإعالتي أيضا؟. لكل هذا ألتمس منك سيدي أن تسارع إلى إنصاف مطرودين كان من الأجدر أن تصدر في حقهم في أقصى الحالات إنذارات لا قرارات طرد تعسفية.
ساد الصمت بين الاثنين لبرهة، قطعه السيد مارتيني بعبارات تفيض تعاطفا وأملا :
فلتعلم يا بني أنكم من الطلبة المتفوقين دراسيا، وأن ملفكم ليس به إنذارات سابقة تمنعني من الدفاع عن حالتكم أمام اللجنة التأديبية، وأن الثانوية ليس من حقها أن ترغم أبناءها على دفع ثمن يبث الحسرة في قلوب أهلهم وذويهم، ويخسر معه الوطن مهندسا أو طبيبا أو عالما قادرا على خدمة وصناعة أجيال الغد.
وحتى ذلك الحين، ليس لي إبني، إلا أن أطلب منك ألا تنسل إلى غرفتك إلا ليلا، وأن تعمل على إبقاء هذا اللقاء سرا بيننا.
أتت مجهودات السيد مارتيني ثمارها، لقد تمكن من إقناع المجلس التأديبي بتعويض قرار طرد التلاميذ النهائي بعقوبة توقيف محدد لمدة أسبوع فقط. ولولا دفاعه عنهم لأجهزت المؤسسة على مشوارهم الدراسي ولضاعت سنوات من عمرهم في مهب الريح.
لم تكن استماتته في الدفاع عن التلاميذ كأبناء وطن يعشقه شيئا خارجا على عادته، بل إن شمائل هذا الرجل المألوفة ومواقفه النبيلة تجاه المغرب ورجالاته الأحرار لا حصر لها ولا عدد.
والتاريخ لا ينسى له موقفه الرافض لخلع السلطان محمد الخامس عن عرش البلاد.. فبعد أن اشتعلت نيران المقاومة المسلحة. انقسم الفرنسيون المقيمون بالمغرب إلى فئة مؤيدة لسلطات الحماية أطلقت على نفسها سنة 1953 حركة الوجود الفرنسي، وفئة ثانية مناصرة لحق المغرب في الحرية والسيادة وهي “حركة الضمير الفرنسي” التي أنشأها سنة 1954 مجموعة من الليبيراليين الذين ساهموا وأثروا بشكل قوي وملموس في التعريف بالقضية المغربية بفرنسا وبمختلف المنابر الحرة بالعالم، بفضل قناتهم المغربية بفرنسا وبمختلف المنابر الحرة بالعالم، بفضل قناتهم الصحفية “يومية المغرب بريس” لصاحبها أنطوان مزيللا، وقد ووجهوا بمختلف وسائل القمع من الاعتقال والطرد بل حتى الاغتيال.
وبفضل مجهود وتنسيق محمودين لكل من الأستاذ جي مارتيني والطبيب جي دولانوي، تم لهذه الحركة الليبرالية للفرنسيين المقيمين بالمغرب تحرير الرسالة التي حملت 75 توقيعا ورفعت للرئيس الفرنسي روني كوتي يوم 8 ماي 1954، وبعد خمسين سنة بالتمام والكمال من تقديم هذه الوثيقة التي سطرت سيرة السيد مارتيني بمداد الفخر أسلم الرجل الروح لباريها بمدينة مونبولييه بفرنسا التي كان يزورها في رحلات علاج، وأوصى بدفنه بالدار البيضاء، المدينة التي شهدت ميلاده يوم 18 يوليوز 1921، وضمت جثمانه يوم فاتح يونيو 2013. وفقدت معه الدار البيضاء أحد أبنائها الأوفياء وأساتذة التاريخ الأكفاء بكل من ثانويات ليوطي ومولاي الحسن ومولاي عبد الله وأحد أبرز عمداء مدرسة البحرية الملكية، وأحد المؤلفين الذين خلدوا ذكراها بمؤلفه ‘ميلاد الدار البيضاء وتطورها التجاري” سنة 1983.
من جانب أحمد بورة، لا يمكن أن ينسى لهذا الرجل حسن صنيعه، وبعد انتقاله لكلية الطب ظلت الصلة وثيقة بينهما، وبقيي يثني على دعمه اللامشروط لليسار المغربي وجميل إحسانه بالطلبة المعوزين، وحتى بعد تخرجه كطبيب واظب على زيارة بيت هذا الأستاذ والمؤرخ والمسيحي والتقدمي، الذي اجتمع حول مجالسه وتعايش كل أبناء الأديان الأخرى، فصنف بذلك وباقتدار في خانة أنصار الحرية والسلام والتآخي الإنساني.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top