مجلة “آفاق مسرحية” تخصص عددها السادس للدراماتورجيات الجديدة

>  محمد سيف – باريس
صدر العدد السادس من مجلة (آفاق مسرحية) المجلة الفرنسية التي تصدر مرتين في العام، بثلاثة لغات عن جامعة بوردو الفرنسية، والتي يديرها ويشرف على إصدارها الباحث المغربي عمر فرتات، أستاذ الدراسات الشرقية وقسم دراسات الفرجة. وذلك باختيار مجموعة من المداخلات التي قدمت في المهرجان العاشر للمركز الدولي لدراسات الفرجة في يونيو 2014، تحت عنوان (الدراماتورجية البديلة).
وبدلا من هذا العنوان اختار عمر فرتات عنوانا آخر مختلف (الدراماتورجيات الجديدة)، لانفتاح هذا الأخير على مساحات ومجالات أكثر اتساعا. وتقترح مجلة (آفاق مسرحية)، من خلال تعدد أبوابها ومداخلاتها المتنوعة، دراسة التطور الدلالي “والتاريخي” لمفهوم الدراماتورج. من المصمم الأصلي للعمل الدراماتيكي، إلى هذا الذي صار الآن يدرس عملية مروره على الخشبة “der Dramaturg”؛ مثلما تحاول امتحان المفهوم المعاصر للدراماتورج، ووظيفته الحديثة التي ولدت مع / أو تعود إلى “جوتلد ابراهام ليسينغ “G L Lessing”. حيث صار دور الدراماتورج اليوم بفضله واضحا: فهو الذي يقوم بدراسة مستقبلية أولية تصاحب المجال الناشط في العمل المسرحي، ويبلور المفاهيم الملموسة في الإخراج على حد سواء.
ويستعرض العدد أيضا، هيئات مختلفة للدراماتورج، ويدرس في نفس الوقت العلاقات التي تربط هذه النوعيات المختلفة والأساليب المتنوعة لكتابتها، ومدى علاقاتها بالمخرج والمتعاونين معه في نسج النص الدرامي الذي سيتم اقتراحه لتفسير المشاهد.
إن تعريف كلمة “دراماتورج” تشير وفقا لقاموس التراث الأمريكي إلى “فن المسرح والكتابة المسرحية”. ويبدو اليوم، أن هذا التعريف الغامض في شموليته، قد أخذ في الاتساع وصارت له وظائف وأدوار في جميع المهارات النظرية والتطبيقية للمسرح الحديث. لهذا نجد أن البحث فيه والتعمق في نحته وإبراز ملامحه، أمرا ضروريا وملحا ليس بالنسبة للمختصين فقط، وإنما حتى للمتفرج الذي اعتاد ارتياد المسرح والتمتع بجمالياته الغير محدودة.
وتماشيا مع الخط التحريري لهذه المجلة، وبانفتاحها على التجارب وعلى فنون الخشبة في العالم، يحتوي هذا العدد على مجموعة من المقالات والبحوث المكتوبة من قبل منظرين وممارسين وباحثين، تناقش التجارب الدراماتيكية المبتكرة، والطليعية، أو الثورية التي تحدث في أجزاء مختلفة من العالم.
إن الاضواء التي تسلط على هذه التجارب تبين وتؤكد في نفس الوقت، بأن الدراماتورجية تبقى بمثابة مفهوم جمعي، على الرغم من الاختلافات النظرية في فعالياته المسرحية. وهكذا فإن باتريس بافيس، على سبيل التقديم، يقدم صورة بانورامية للمظاهر الدراماتيكية الحديثة، التي عرفها المسرح المعاصر. فهناك الكثير من الدراماتورجيات تعطي مكانة للتجديد التطبيقي وللمقاربات المسرحية، وذلك من خلال استخدام مختلف التقنيات والتخصصات والوسائط الفنية، مثل، وسائل الإعلام، والتكنولوجية الرقمية، الرقص، والأداء…الخ
يقول خالد أمين في مقاله، إن الثورات العربية لم تنتج نقلات سياسية فقط، وإنما وقفات احتجاج فنية. فإلى جانب الفنون الكرافيكية (الرسوم الكاريكاتورية، الجداريات …) كان المسرح واحدا من التجارب التي حملت تطلعات الشعب العربي من أجل التغيير والديمقراطية. والدراماتورجية البديلة ظهرت لتتحدى بعض الدراماتورجيات التوافقية. ففي المغرب، ومن دون أن تحدث اضطرابات، بدأت الأجيال المسرحية الجديدة في التعبير عن مشاعر وحساسيات جمالية جديدة، تطرح من خلالها أسئلة نابعة من الواقع اليومي للناس. ولتوضيح أفكاره المطروحة في هذا المقال، يقوم خالد أمين، بتحليل ثلاثة عروض مسرحية تنتمي في شكلها ومضمونها لمسرح (ما بعد الدراما).
وتنشر مجلة آفاق مسرحية أيضا، بحثا للأستاذة والمخرجة والمؤلفة المغربية زهرة مكاش، تتحدث فيه عن تصوراتها المسرحية، التي تقاطع فيها عدة طرق: الإخراج، التأليف والترجمة. واصفة إنجازاتها المسرحية ومحاولاتها المتعددة والمختلفة في أكثر مجال بـ (التجريبية)، لأنها تخضع للاختبار والسؤال ومراقبة التطور. وبين اشتغالها على اللغة كمؤلفة وأستاذة جامعية، وإدارة الممثل، والإخراج، اختارت زهرة مكاش الكتابة المجزأة، المتشظية والسينوغرافيا المتفجرة، لتقترح دراماتورجية تطمح في شكلها ومضمونها، إلى صيغ متفردة تولد طاقة جديدة.
ويكرس عمر فرتات مقاله عن الكوريغراف والراقص التونسي رضوان المؤدب المقيم في فرنسا، والذي يروي وينشر من خلال جسده عوالم موضوعاته تحت إشارات أنثوية، إن صح القول. بحيث حتى إذا كان هذا الرقص غير مستحب ونادر، لأنه يؤدى بشكل علني من قبل رجل، فإن الفنان التونسي يتحدى هذه المحرمات ويتجاوز القوانين الاجتماعية. ويدعو في الآن ذاته مشاهديه للمشاركة في العرض، وتبادل الكون الحسي له من خلال الشم والرؤية البصرية، وأحيانا تذوق حتى الطعام.
في حين يتناول استيفان باربر، ممارسة تعتبر محورا للعديد من المناقشات في وقتنا الحاضر، وهي الأداء الأرشيفي. ومن أجل هذا يقودنا إلى عالمين مختلفين وقريبين: عالم الفنان الأمريكي ريتشارد هوكينز وعالم الراقص والكوريغراف والمنظر الياباني تاتسومي هيجينكاتا. وذلك بواسطة إعادة تشكيل أداء الفنان الياباني من خلال تشوهات الألبومات التي أخرجها هو بنفسه. ومن خلال تقنيات الكولاج واستخدام جهاز رقمي. أما الفنان الأمريكي هوكينز، فإنه وضع نوعا من السينوغرافيا التي اعتبرها استفان باربر، مثل دراماتورجية بديلة. ويمكن للدراماتورجية أيضا أن تأخذ شكل ممارسة احتجاجية لإحياء ثقافة الأجداد التي طالما انتقدها وأدانها المستعمر.
وهذه الحالة يتعرض لها ريك نولز، باستنطاقه تجربة متجذرة في جزيرة السلاحف التي تقع في منطقة البحر الكاريبي، متخذا من تجربة الفنان مونيك موخيكا وفرقته (Chocolate Weman collective)، مثالا. وقد استوحى دراما هذا العمل من تقاليد وثقافة سكان راباهانوك الأصليين.
وتحلل كريستل فايلر في مقالها عرض الكوريغراف الكرواتية الأصل ايفنا مولر، (while we were holding it Together). وتطرقت الباحثتان الفرنسيتان جولي باغيني وإميلي طغيزين، إلى تجربتين تحتلان مكانة خاصة في المشهد المسرحي الإفريقي. وهاتان التجربتان بمثابة ملتقيين هماLes Récréthéâtrales  و Mantsina اللذين يسهر عليهما كل من المخرج البوركينابي المعروف “ديودوني نينكونا” والمسرحي الكونغولي “إيتين مينوكنو”.
أما محمد سيف كدراماتورج، ومخرج مسرحي وممثل، فقد كرس مقاله عن المخرج العراقي قاسم محمد، الذي يعتبر واحدا من أهم رواد المسرح العراقي المعاصر. فمن خلال حضوره كمتفرج فعال لتمارين مسرحية (رحلة حنظله بين اليقظة والحلم)، لسعد الله ونوس، كان يراقب ويحلل في ذات الوقت، عملية تأليف المخرج قاسم محمد للمشهد وللحظة المسرحية، وعملية تكيفه للحدث وحصر الفعل وفق ميكانيكية مسرحية غير مألوفة آنذاك استطاعت أن تبرز تيمة العمل بشكل مباشر، وتجعل ممثليه ينفتحون على مساحات وفضاءات تمثيلية متنوعة ومختلفة، من خلال إشراكهم في مغامرته المسرحية كممثلين وشخصيات في آن واحد.
ويختتم العدد السادس لمجلة آفاق مسرحية، بحكاية بصيغة الشهادة، لباتريس بافيس، يتحدث فيها عن الكيفية التي تواجه فيها مع فنون المسرح والثقافة الكورية. وهكذا يعطينا، رجل المسرح الغربي المتخصص، وصاحب نظرية تعدد الثقافات، أفكارا ويزودنا بوجهة نظر، من خلال تغطيته لهذا الفن الذي لازال يعتبر حتى الآن أجنبيا. إن هذه الحكاية / الشهادة، بمثابة تأمل حول الغربة والتجديد، وحول كيفية فهم فن الآخر.

Related posts

Top