أبطال ومعارك

لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”

الحلقة الثانية

صلاح الدين الأيوبي.. ومعركة حطين

المعركة التي حرر من خلالها الناصر لدين الله بيت المقدس من أيدي الصليبيين

هو يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان أبو المظفر المُلقب بالناصر صلاح الدين الأيوبي (ولد لعائلة كردية في تكريت بالقرب من بغداد في العام 532 للهجرة/1174 للميلاد) مؤسس الدولة الأيوبية الذي قاد بذكائه وحنكته السياسية والحربية العديد من المعارك التي كان من أشهرها واقعة حطين (بين الناصرة وطبرية الفلسطينية) في العام 583هـ/1187م وألحق بها هزيمة قوية بالجيوش الصليبية التي اندحرت عن بيت المقدس، أما نشأته فقد شهدتها مدينة بعلبك، فنشأ صلاح الدين وترعرع بها وتلقي علومه المختلفة، درس القرآن وسمع الحديث من الحافظ السلفي ابن عوف وقطب الدين النيسابوري مُتقناً الصيد وفنون القتال وغيرها من المَهارات والعلوم التي أخذ يشق طريقه العسكرية من خلالها عندما ذهب رفقة عمه (شيركوه) بأمر من نور الدين زنكي لصدّ الهجمات الصليبية وتحقيق المساندة والدعم للخليفة الفاطمي في مصر حيث الهجمات الصليبية المتوالية هناك، فحقّق العديد من الإنجازات الأمر الذي دفع بالخليفة الفاطمي إلى تعبئته وزيرا (لشيركوه) في مصر حيث اختلط بشعبها وتقرّب منهم وغاص في محبتهم وإعجابهم لما لاقوه منه من سمات التعفف والبطولة والعدل والحكمة، ممّا أهّله بعد ذلك ليَحلَّ مَحَلْ عمّه بعد وفاته بتأييد من المصريين ولخبرته الواسعة سواء على المستوى الحربي أو الإنساني.

السلطان صلاح الدين

يروي لنا عبد الله علوان من خلال كتابه (صلاح الدين الأيوبي: بطل حطين ومُحرّر القدس) لحظات تقلده لكرسي السلطة بالقول: “…عند وفاة الخليفة الفاطمي قام صلاح الدين بإعلان انتهاء الحكم الفاطمي في مصر ونصّب نفسه حاكما عليها، فنزل إلى قصر الخلافة جامعاً الأتباع الذين تعلقوا به من الشعب المصري مُعلنا استقلال مصر عن الفاطميين الذين ساروا بجيوشهم بقيادة نور الدين زنكي لاسترجاعها دون أن يحقق أمنيته بسبب وفاته عام 569هـجرية/1193 ميلادية، لتزول بذلك أولى العقبات الكبيرة من طريق صلاح الدين الذي سرعان ما سار بجيشه لضم الشام إلى حكمه وإخماد الثورة التي قامت هناك بسبب الطمع بملك نور الدين زنكي، ومكث بها قرابة العامين من أجل إعادة الحكم إلى حالة الاستقرار قبل أن يعلن استقلاله عن نور الدين زنكي وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب السلطان، ويتجه صلاح الدين (بعد استقرار الأمور الخارجية) إلى الإصلاح الداخلي في مصر، فعمل على إنشاء جيش قوي حقق من خلاله العديد من الإنجازات وسعى إلى نشر العلم وتقوية المَذهب السني بمصر عن طريق إنشاء المدارس التي تدرس الفقه والقرآن (المدرسة الناصرية والمدرسة الكاملية)، كما عمل على عزل القضاة الشيعيين وإحلال قضاة من السنة محلهم لتتوسع سلطته في البلاد حتى شملت النوبة جنوباً وبرقة غرباً إلى بلاد الأرمن شمالاً والجزيرة والموصل شرقاً..”.

معركة حطين

ويستطرد عبد الله علوان بالقول: “…. اتجه صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه على عمق سورية (بعد انتهائه من الإصلاحات الداخلية) تاركا الصليبيين بحالهم مُرجئاً المواجهة معهم إلى أن تحين الفرصة المناسبة (كان غالبا يترك الصليبيين لحالهم مرجئا المواجهة معهم وكان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم)، وكان الاستثناء هو موقعة (مونتجيسارد) يوم الخامس والعشرين من نوفمبر 1177 حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ ترك الجنود تسعى وراء الغنائم وتتشتت، فهاجمته قوات
(بولدوين السادس) ملك أورشليم وارناط وفرسان المعبد وهزمته، إلا أن صلاح الدين عاد وهاجم الإمارات الإفرنجية من الغرب وانتصر على (بولدوين) في معركة (مرج عيون) في العام 1179، وفي موقعة (خليج يعقوب) في السنة الموالية لترسى الهدنة بين الصليبيين وصلاح الدين الأيوبي في العام 1180، لكن غارات الصليبيين عادت من جديد بعد انقضاء الهدنة (كان “ارناط” يتحرّش بالتجارة والحجاج المسلمين بواسطة أسطول له في البحر الأحمر) فحفزّت صلاح الدين على الرّد وعمد إلى بناء أسطول للمسلمين يوازي أسطول “ارناط” مُكون من ثلاثين سفينة لمهاجمة بيروت بعد تهديد هذا الأخير بمهاجمة مكة والمدينة عام 1182، فحاصر صلاح الدين حصن الكرك الذي يعد معقل “ارناط” الرئيسي مرتين (في العام 1183/1184) ورد “ارناط” بمهاجمة قوافل حجاج المسلمين حتى العام 1185…”.

  ما أن استعصى حصن الكرك المنيع على صلاح الدين حتى أدار وجهه وجهة أخرى وعاود مهاجمة (عز الدين مسعود بن مودود الزنكي)، في نواحي الموصل التي كان قد بدأ جهوده بضمها سنة 1182، إلا أن تحالف عز الدين مع حاكم أذربيجان من جهة، وحالة المرض التي دخل فيها صلاح الدين من جهة ثانية، حالت دون أن يحقق مراده فأرسيت من جديد معاهدة للهدنة 1186 التي لم تستمر طويلا، فلم يمر سوى عام تقريبا حتى شن الملك (أرناط) هجوما على قافلة مُتجهة من القاهرة إلى دمشق ونهب بضائعها وأسر أفرادها وزجّهم في حصن الكرك (يروى بأن تلك القافلة كانت لأخت صلاح الدين، بينما تروي رواية أخرى بأن “ارناط” قد أسرَ في غارة سابقة أخت صلاح الدين وإن كان ذلك غير مشهود في المصادر المعاصرة)، فما كان من صلاح الدين إلا أن طالب في الحال ملك القدس (غي دي لوزينيان) بالتعويض عن الضرّر والإفراج عن الأسرى ومُحاسبة الناهب، لكن الملك لم يجازف بمسّ تابعه القوي “ارناط”، فقرّر صلاح الدين الحرب على مملكة القدس، وعمد إلى تجهيز جيشه الجرار للقضاء عليهم في معركة حاسمة بدلا من الغارات المُتفرقة التي يَشنها من وقت لآخر لإضعاف العدو (نجح صلاح الدين من خلال تلك المناوشات في احتلال عكا وطبريا ونابلس ويافا وبيروت بالإضافة إلى بيت المقدس)، ليتأتي له ذلك من خلال معركة حطين التي وقعت في العام 58 للهجرة/1187 ميلادية والتقت بها جيوش صلاح الدين بجيوش الصليبيين المُجتمعة بقيادة (غي دي لوزينيان) ملك مملكة القدس و(ريموند الثالث) كونت طرابلس، والتي كللّت بالنجاح لصالح صلاح الدين وجعلها بصمة لا تنمحي في كتب التاريخ الإسلامي.

بيت المقدس.. قلب الأسد.. الحملة الصليبية

في يوم الحادي عشر من رجب 583 هجرية الموافق ليوم الثاني من أكتوبر 1187 دخلت قوات صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس (استسلمت المدينة له نتيجة انتصاره الكبير بمعركة حطين) بعد منح أهلها المسيحيين العفو مقابل امتناعهم عن قتل المسلمين (خمسة آلاف مسلم) المتواجدين بها وامتناعهم كذلك عن تدمير قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وسمح لهم بالتالي بالخروج حاملين أطفالهم دون دفع الفدية لمن لا يتوفر عليها، وكان صلاح الدين قد استعاد قبل فتحه للقدس كل المدن تقريباً من الصليبيين باستثناء مدينة صور التي كانت المدينة الوحيدة المُتبقية تحت قبضة الصليبيين، نظرا لأسوارها العتيدة وتحت قيادة وإمرة (كونراد أمير مونتفرات) الذي حصّنها تحصيناً واسعاً بحيث صمدت أمام حصارين متواليين لصلاح الدين، وحتى يستعيد (كونراد) حكمه من جديد وهيبته التي أفقده إياها صلاح الدين ذهب لحصار عكا لاحتلالها، خاصة وأن فتح القدس من طرف صلاح الدين حفّز خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا وأجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عرفت (بضريبة صلاح الدين )، وقاد تلك الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوروبا هم: (ريتشارد قلب الأسد) ملك انجلترا، و(فيليب اوغست) ملك فرنسا، و(فريدريك بربروسيا) ملك ألمانيا والإمبراطور الروماني المُقدس الذي مات أثناء رحلته وقبل وصوله إلى بيت المقدس، ولدى وصول الجيوش سارعوا بالانضمام إلى جيش (كونراد) الذي يحاصر عكا حتى سقطت في العام 1191 وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مُسلم بمن فيهم نساء وأطفال، لتشتبك جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين في السابع من سبتمبر 1191 بقيادة ريتشارد الذي نجح في هزيمة جيش صلاح الدين دون التمكن من غزو القدس التي دفعت بريتشارد (بعد فشل المحاولات الكثيرة لاحتلالها) إلى توقيع معاهدة الرملة مع صلاح الدين 1192 مُستعيداً بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور، وفتح القدس أمام الحجاج المسيحيين، لتنتهي بذلك الحرب بين الطرفين بعد أن أصبحت القدس موطناً ومحجّا للمسيحيين الأوروبيين والمسلمين.

وفاة الناصر صلاح الدين

كانت المواجهة مع الملك (ريتشارد) ومعاهدة الرملة آخر أعمال صلاح، فلم يمض سوى وقت قليل على رحيل ريتشارد (تفيدنا الموسوعة الحرة) حتى مرض صلاح الدين الأيوبي بالحمى الصفراوية وتحديدا يوم السادس عشر من صفر سنة 589 للهجرة/العشرين من فبراير عام 1193 للميلاد، ولازمه أرق شديد وطويل لم يمنح عيونه النوم من الوقت القليل، وضعف جسده غاية الضعف، حتى اشتد مرضه ويأس معه الأطباء من حاله، ولم يبق أمامه سوى تسليم الروح إلى باريها (توفي يوم 27 من صفر سنة 589هجرية/4 مارس 1193 ميلادية)، فأفجع الحدث قلوب المسلمين وبكى لأجله الكثيرون حتى قيل بأن الدنيا كلها أصبحت صوتا واحدا من شدة البكاء، وتلاحمت النظرات الأخيرة وهو يوارى الثرى في العاصمة دمشق ويأخذ مرقده إلى جوار الملك نور الدين زنكي، ويقال بأنه لما فُتحت خزانته الشخصية وجدوا أنه لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما واحدا ذهبيا سوريّا، كونه أنفق معظم ماله في الصدقات، فنقش على قبره “ملك بلا خوف ولا ملامة علم خصومه طريق الفروسية الحق”، ويشكل لنا أهم شخصية من شخصيات التاريخ الإسلامي التي كان لها بالغ الأثر إلى وقتنا الحاضر.

سلسلة من إعداد: معادي أسعد صوالحة

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم بالمغرب

الوسوم ,

Related posts

Top