أبو الفنون خيال وليس وهما.. المسرح حي يمنح الحياة

يا مسرحنا الوطني.. كلما حضر يومك، وآن أوان الاحتفاء بك ترانا متوجسين من قيمة بعض إنجازاتك، ومشككين في سلوك بعض رجالاتك، بل ومرتابين من بعضنا.. أ نسعد بما تقدمه؟ ونتباهى بما تعطيه؟ أم نأسى على واقعك؟ ونخجل من حالك؟.. نعرف جميعنا أنه ما من كناش مسافر إلينا إلا ووجدنا في ثناياه قدرتك على التسامي بالإنسان، ومداواة واقعه المريض والمختل، وفيه أيضا أنك تحقق المتع المختلفة، والإفادات المتنوعة.. حفظت الأجيال المتعاقبة أدوارك في تهذيب النفس، وسمو الذوق، وترقيق الطبع، وتحقيق الإنسانية.. لذلك نشفق على كل من توانى من أبناء جلدتنا عن دخول قاعاتك طوعا أو كرها لأنه يفوت على نفسه أرباحا طائلة، ولا تبقى بين أصابعه غير الخيبات المتعاقبة.. ونجرم كل من صد الناس عن دخول تلك القاعات للنتيجة ذاتها.. وقد لاحظنا بأم العين، وأصغينا بآذاننا جهرك أنك لا تفيد أي إنسان في أي شيء، إذا كان يبحث عن نفع مادي مباشر. ومع ذلك لا يزال إيماننا أنك كل شيء..وأنك نافع لنا جميعا في الحياة.. بل أنت الحياة نفسها.. الحياة الجديدة المتجددة المشعة من فوق الخشبة على العالم، في تلك اللحظة فقط تتطاير شراراتك الخيرة لتمس كل القلوب والعقول والمشاعر…
يا مسرحنا الوطني.. نحن نوقن بأنك بالنسبة لنا العيد المستمر، والابتهاجات الرائعة في الحياة، بدونك تقسو القلوب، وتتعاند النفوس، وتغيب الأنوار، ويحضر الارتياب.. نحن نؤمن بأنك رأس كل الإبداعات القادرة على توجيه بوصلة الإنسان والمجتمع نحو آفاق أخرى، أرحب مجالا، وأعمق أثرا في التنوير، وفي فضح واقع المقهور فينا، وذلك بحكم طبيعتك الجماهيرية، فأنت الفن الساحر القادر على التصادي السريع مع التحولات المجتمعية.. فتبدل الأذواق والحساسيات والأوعاء لدى الأجيال كلها.. نحن ندرك أنك مُنتَج خيالي غير أنك لست وهما.. بل أنت حي وموجود تمنح الحياة لموجودات ما كانت لتنوجد لولاك، إنك الفن الجامع والأصيل والعميق والضروري والمؤثر والنافع للإنسان وللمجتمع.
يا مسرحنا الوطني.. ركب أبناؤك من الجيل الأخير بساطا جديدا سما بهم عربيا في قرطاج وعمان والقاهرة.. فعادوا بأكاليل على رؤوسهم.. فرحنا بها ورقصنا على إيقاعها حين تم إنصافهم.. وحين ظلموا وعادوا خائبين بكينا لسرقة أحلامهم.. وفي الغالب من الأوقات كانت حقائبهم ملأى بإبداعات باذخة مغلفة براية الوطن، تجاوزوا بها التاريخ ولحقوا بسماوات الجغرافيا الإنسانية وبأزمنتها وأمكنتها.. أنت تعلم أنهم حققوا ذلك حين تدثروا بنظريات وشعريات جديدة على مقاسنا نحن، وعلى قَدّ طموحنا نحن.. وتعلم أيضا أنهم تمسكوا بالعروة الوثقى المتمثلة في المعرفة والفكر والحلم وجوهر الحقيقة الإنسانية، وكان خير زادهم حبهم لذلك الكائن الهلامي الذي يظهر ويختفي الساكن في المتفرجين والمشاهدين والجماهير..
يا مسرحنا الوطني.. أنا مواطن حالم بوطن تسوده الحرية والديمقراطية، وتواق إلى غياب ظواهر الفساد والقبح والرشوة والكذب والتزلف والتملق، والتهافت، والادعاء والغش.. لذا أشكو لك بلوانا الكبيرة الكامنة في أولئك المتنكرين وراء أوجه متعددة، يضمرون ما لا يظهرون، تحت خطاباتهم الرنانة أياد لا تكف عن سرقة جهد الفنانين بمختلف تلاوينهم، هم يفعلون ذلك لأنهم يشهدون تفرق مبدعينا المسرحيين طرائق قددا، غالبيتهم لا تكف عن الاستجداء والتهافت وطلب الإعانة بقلة حياء، متوسلة في ذلك بشعارات تتستر بالتملق والتسلق وازدراء الذات أمام المعونات، صعب علينا تمييزهم، وفضحهم، لأنهم أعنف لسانا، وأصلف معاندة، وأبرع أسلوب مراوغة، وأقدر على تبيان فضيلة كلام على كلام، وأحسن طمسا للحقائق، وأدرى إتقانا للتظاهر بالود، والحقيقة أن قلوبهم فقيرة حدّ الإفلاس… ووحدها الخشبة قادرة على كشف أغطية رؤوسهم..
يا مسرحنا الوطني.. أنت تعلم علم اليقين أن بعض ربائبك سعوا لقتل الأب، وتبخيسهم حقه، وتقزيمهم دوره، وسعوا متنكرين إلى المتاجرة بعطاياه.. وأما البعض الآخر فراح – بكثير ادعاء – يجهر بتقواه وورعه، ونفيه لكل الخلان والزملاء، سلاحه في ذلك غزل اللوم الإبداعي للآخرين، وإلصاق تهم الانتساب كرها للممارسة، باصما على وثيقة الغدر والمحسوبية والانبطاح.. مقابل صفاء السريرة، وخلاص النية.. هؤلاء يا مسرحنا يسعون لقتلك بالمتاجرة في أركانك.. هؤلاء بتكوينهم العقيم ينسجون ظهير التفرقة من جهة، وينفون أن يكون المسرح من طبيعة فلسفية، فترى أجفانهم مغمضة بالإضحاك الرديء، لا همّ لهم غير إفراغ حياتنا من جوهرها.. بإلحاحهم على طمسها وتحويلها الى أرض بوار.. ومساحات آسنة.
يا مسرحنا الوطني.. دعك من هؤلاء فهم كالزبد في كل الشطآن.. ذاهبون جفاء.. أنت تعيش معنا زمننا المختلف، وتعاين انتشار التقوقع والانطوائية والانزواءات.. وليس لنا، والحال هذه، سواك، فأنت الكريم الجامع لأشتات من الناس في بوتقتك، تغدق عليهم الفرح ونعمة الألفة والتواصل والتفاعل والتفكير الجماعي محققا بذلك عمق الإنسانية، والمرآوية الصقيلة التي تسمح للإنسان بأن يتعرف ذاته والآخرين، ويحيا حياته وحياة كثيرين غيره على امتداد الآفاق الزمانية والمكانية، وهو لذلك يمتطي صهوات إبداعات خالدة في كل الحضارات، لمسرحيين وسموا الفن بمياسم خاصة تعاقب عليها خالدون من ثيسبيس وأسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس إلى.. شكسبير، ولوركا، وديستوفسكي، وبيكت، وارطو، وابيا، وسارتر، وبريشت، وتوفيق الحكيم، وسعد الله ونوس، وصولا إلى أعلامنا المغاربة الذين تضيق هذه الورقة عن ذكرهم جميعهم هواة ومحترفين، روادا وشبابا، الأحرى سرد عطاءاتهم..
يا مسرحنا الوطني.. إننا لا نزال نحس أن حركية مسرحنا واهنة لا تسير على وتيرة متنامية، يعضد لاحقها سابقها، ويزيد عنه، هي حركية واهنة لا تراهن على شيء، فالأطماع ينخر سوسها مسارها، والوصوليون يتربصون بها، والمصلحيون يرمون الحجر في طريقها.. والانتفاعيون يجهضون أحلامها، كثير من هؤلاء لا ينتجون غير المسروق بتغيير العناوين وأخذ صور أمام ملصقات رقمية وهاجة، يتنطعون أمامها للتصور بأسنان صفر وضحكات بلهاء، وينشئون فرقا تتناسل كالفطر على الورق للحصول على الدعم..، ويُوَرِّثونَ الفرق للأبناء والزوجات، ويعرضون أعمالا تافهة تترسخ بتبادل أوراق الاعتماد للدعوات المتبادلة والإكراميات المرذولة.. إننا أمام ظواهر جديدة كالتحكم، وتكديس البطولات، وفرقة العائلة، وصنع تكتلات غريبة، وخوض حروب بالوسائط، والاستعانة بالجمهور الغائب.. تتلهف جميعها في سباق محموم للاغتناء السريع.. ركام من الأمراض لا تنتهي تسطو فيها الرداءة لذلك نستغيث بك…
يا مسرحنا الوطني.. في عيدك هذا حُثَّ القائمين فينا على زرع الحياة في القاعات المتوفرة، وادْعُهُم ليوفروا لها كل مستلزماتها، وحُثَّهم أيضا على تشييد أخرى أجمل عمرانا في كل زوايا الوطن، وامُرْهم أن ينتزعوا تلك التي أحكم المنتخبون وأحزابهم التي لا مشاريع ثقافية لها إغلاقها طوال العام. وأن يسلموا مفاتيحها للفرق المشتغلة والنشيطة لتخدم الشعب وحقه في الفنون.
إلى جانب ذلك قل لأصحابك أن يوقفوا المجانية المذلة للمسرح والمسرحيين. وأخيرا اُدْعُ الفصائل النقابية كي تجدد اشتغالها وتغير مشاريعها وتفرض ذاتها.. وناشد جماعة المثقفين المغاربة من شعراء وروائيين وقصاصين، وسينمائيين وموسيقيين… إذ لم يعد مقبولا اليوم انصرافهم عن أب الفنون، ففي تضافر فنونا وآدابنا صناعة وطن ومواطن قويين..
يا مسرحنا الوطني.. أطْلُبْ من أهل الدار أن يهتموا بالنقد المسرحي، وأن يرفعوا عنه التهميش كي يكف التافهون عن التلاعب بالجمهور البسيط، فضرورته لازبة لأنه نبراس الإبداع وقائده، بموجبه نتحاشى النسخ والتكرار والسرقة وكل المظاهر المشينة إذا أعدنا له مكانته الحقيقية، ورفعناه عن الذيلية والتبعية والزبونية، فهو رأس الإنتاج الفكري والفني، متى كان صادقا، حرا لا يخشى الحقيقة. فلا يزال الناقد المسرحي بالمغرب دون موطئ قدم، بلا إقامة، وبدون فضاء في خريطة المسرح، يحاربه المبدعون المتخاذلون ويتواطأ ضده المفلسون من أشباه المسرحيين، ويغنم من ورائه المنتفعون إما بالتطبيل أو التجريح. حين تضرب لهم خيمة النابغة يتحكمون ويحاكمون ويقسون، وأما إذا أُجْزِل لهم العطاء فتراهم يَرْبِتون على الأكتاف في سعي مكشوف للاستفراد بالمسرح الشاب، فيجتهدون من أجل حشره في زاوية ضيقة ليحولوه إلى ثرثرة ولغو سعيا إلى تدجينه أولا، ولتسهل المتاجرة به وبأصحابه أخيرا..
يا مسرحنا الوطني.. سنظل نؤمن أنك ملاذنا الآمن، وأنك المحراب الذي نؤمه كلما سطا علينا الزمن، وكثرت بيننا مناشير المسرح.. وإلى أن نلتقي مستقبلا – إن بقي في العمر بقية – دام بهاؤك، وسما منجزك، وخلد مبدعوك…

< بقلم: لعزيز محمد: كتب د. لعزيز محمد هذه الكلمة لفرقة جسور المسرحية لمدينة آسفي
عبر خلالها عن هواجسه عن راهن المسرح المغربي

Related posts

Top