أدباء مغاربة وعرب وضعوا حدا لحياتهم..

إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة

الشاعر مصطفى محمد: “في حياتي مشكلة ما كان من الممكن أن تحل إلا بهذه الطريقة” 

سنة 2006 ألقى بنفسه من بناء عال إلى ذلك الحيز الضيق والمعتم، الفاصل ما بين عدة بنايات متجاورة، ويسمّى المَنوَر.
جاء في موقع العرب الإلكتروني بمناسبة حلول ذكرى وفاته المأسوف عليها أن “الشاعر السوري مصطفى محمد لم يكن قد بلغ السابعة والعشرين من العمر، وهو في ذروة إبداعه الشعري، حين قرر أن ينهي حياته بطريقة غاية في القساوة.
(في حياتي مشكلة، ما كان من الممكن أن تُحل إلاّ بهذه الطريقة)، هذه العبارة هي آخر ما كتبه الراحل، وجدت في جيبه، مدونة على قصاصة ورقية.
مصطفى الشاعر المرهف، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، وعدا نبرة صوته الحميمة وأدائه العالي لقصائد له وأخرى لشعراء آخرين يحفظها عن ظهر قلب، إضافة إلى ثقافته النقدية الرصينة، كان يتحلى بكاريزما خاصة جعلت كل من يلتقي به يحبه وينسى أن هذا هو اللقاء الأول الذي يجمع بينهما.
بدأ مصطفى، قبل عقد من الزمن أو أكثر من سنة رحيله، بكتابة القصيدة العموديّة كباقي مجايليه من الشعراء الشباب آنذاك، ممن شاركهم الأمسيات والمهرجانات الأدبيّة في عدد من المدن السوريّة، إلا أنه سرعان ما تحرر من حدود قصيدة الشطرين وأوزانها والنبرة الخطابيّة الصارخة إلى قصيدة التفعيلة ذات الوزن البسيط والسهل الممتنع من العبارات، والزاخرة بعوالم إيمائية في صياغة مشاهد مذهلة وغاية في البراعةِ والذكاء.
تميزت قصائد مصطفى محمد إضافة إلى عمق الرؤى، المتجهة نحو الإنسانية برهافة، بالنفس المديد في المطولات التي كتبها تلك الفترة، ويمثل هذا الاتجاه مجموعته “النصف الآخر لدائرة دوّار الشمس”، ليتحول في ما بعد عن القصائد الموزونة نهائيّا ويبدأ مرحلة جديدة.
بدت لغته خافتة أكثر مما ينبغي، تدنو من الهمس والتأمل العميق في الوجود والأشياء والموجودات، فكانت مجموعته النثريّة “أبواب تتهيأ للخروج”، المختلفة كليا عن سابقتها، في اقترابها من الهم اليومي والتفاصيل المعيشة العابرة، عدا الرؤية الفلسفية التي اتسمت بها قصائد هذه المجموعة، سواء من جهة تناولها لكل ما هو حميمي وإدخال مفردات جديدة إلى متنها، وكذلك اعتمادها المفارقات والتضاد، أو من حيث أنها أخذت منحى جديدا لديه من حيث نمط الكتابة القصير والجمل الشعرية المكثفة والمقتضبة، فكانت كل قصيدة على شكل كتلة واحدة متماسكة، لتتداخل الأجواء والمناخ العام للقصائد في ما بينها، وكأن المجموعة عبارة عن قصيدة واحدة في صيغة اسكيتشات أو مقاطع متتالية.
القصيدة التي كتبها مصطفى، كانت مرآة حقيقية لما عاشه من التفاصيل اليومية التي اشتغل عليها بإتقان، تنقل من خلالها ما بين الهمين العام والخاص، فكان، الصدقُ في القول، السمة الأبرز لتلك القصائد”.

****
من أشعاره:
آهات مغترب

إليكمْ إخوتي أُهْدي السَّلاما
وبسم الله أبدؤُكم كَلاما

فراقُ أخِلّةٍ سكنوا شَغَافي
فشوقُ القلبِ قد أمسى ضِراما
ونارُ الشوقِ لَعْجٌ في فؤادي
وبُعد الصَّحبِ أورثني السَّقاما
بِقُربي من صِحَابي كانَ أُنْسي
ونأيُ أحبَّـتي جَلَبَ السَّآما
تلعثم نبضُ قلبي مِنْ وداعٍ
فلمْ أملِكْ لِجَارِحَةٍ زِماما
فهل يَلْتمُّ شتٌّ بعد دَهْرٍ؟!
وهلْ تَنْضَمُّ أشْتاتي تماما؟
ألا يا لاذقيّةُ أنْصِتِي لي
فلا تُلْقِي على واشٍ سَلاما
أُحِسُّ صَدَى شُجُونكِ في جَنَاني
فقدْ وَهَنَتْ ضُلُوْعِيَ والعِظاما
وطَيفُكِ حاضرٌ دوماً أَمَامي
يُنَاديني كَفَى بُعْداً، إلامَ؟
فأنتِ أنا، ونحْنُ معاً أَلِمْنا
رَمَونا دُونما ذَنْبٍ سِهاما
وَذِكْركِ غُصَّةٌ أشْجَتْ فؤادي
فطلَّقتُ المَبَاهِجَ والمَناما
أنا طِفْلٌ أضاعتْني المَنَافي
فزادتْني إلى تِيْهِي هيَاما
أنا طيْرٌ أُكَابِدُ مِن جِرَاحيْ
رأيتُ مَرَابِعيْ أضحتْ رُكاما
أنا البحَّارُ تِهْتُ عنِ المَرَاسيْ
فأمواجيْ تُلاحِقُنِيْ لِطَاما
أنا آهٌ تردّدها الثَّـكالى
يَضجُّ لِهَولِها كُلُّ اليَـتَامَى
أنا تَـنْهيْدةٌ جوفَ الليالي
ينوءُ بِسَتْرِها كلّ الأَيَامَى
أنا سِفْرٌ منَ التّاريخِ يَحْكيْ
جِنايَةَ ظالمٍ أرسىْ الظّلاما.

> إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top