أدباء مغاربة وعرب وضعوا حدا لحياتهم..

إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة

صنع أسطورته من العبقرية المبكرة والانتحار

رمى بنفسه تحت عجلات القطار في أحد أيام أكتوبر من سنة 1988 بعد أن خلف ديوانا شعريا واحدا، صدر بعد وفاته بمدة طويلة، تحت عنوان “فجيعة التروبادور”.

ولد الشاعر عبد الله بوخالفة في مدينة بسكرة بالجزائر، وتوفي في مدينة قسنطينة، بعد عمر قصير، يناهز الرابعة والعشرين سنة.
تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي في بسكرة، ونال شهادة البكالوريا سنة 1984، فأهلته للالتحاق
بجامعة قسطنطينة بقسم الفلسفة، غير أنه لم يكمل دراسته ومات منتحرًا.
عمل لفترة مفتشًا في الخزينة العامة للدولة ببسكرة،
سنة 1984، التحق بالسلك السياسي مع حزب اشتراكي يعمل في السر في منطقة قسنطينة، واشترك في الاتحاد الرياضي البسكري لاعبًا بكرة القدم.
شارك في مهرجانات شعرية منها: مهرجان الشاعر محمد العيد في بسكرة، ومهرجان الأدب والثورة بسكيكدة.

له قصائد منشورة في عدة مجلات وصحف. على الرغم من حياته القصيرة، فإن شعره تجديدي ينبئ عن موهبة كان يمكن أن تكون لها مكانة بين جيل الثمانينيات الشعري الذي ينتمي إليه، يتخذ الشكل التفعيلي ويعتمد السطر الشعري بديلاً عن البيت ذي الشطرين، يعبر في قصائده عن الحب والنفس الإنسانية، والطفولة، والموت، وفلسفة الحياة والكون، وتنتمي قصائده في إجمالها إلى الاتجاه الوجداني والامتزاج بالطبيعة وتحريك جوامدها عبر استعارات وصور رمزية مبتكرة، تظهر في قصائده المفارقة بين الحياة والموت، والأمل والحزن
فاز بجائزة الشعر السنوية لمهرجان محمد العيد آل خليفة ببسكرة.
قال عنه الناقد سعيد الخطيبي:
“يقترن الحديث عن عبد الله بوخالفة، بأمرين بارزين: العبقرية المبكرة والانتحار. هذا ما صنع أسطورته بوصفه شاعرا ومبدعا استثنائيا في تاريخنا الأدبي الجزائري القريب. ورغم أن الأمرين لا يتلازمان ضرورة، إلا أن قدره كان قد حسم رسم منحى حياته القصيرة الفاجع. إن الأمر الجدير بالذكر هنا، هو أن الراحل كان قد بدأ فعلا في حفر مسار أدبي متوهج وحضور نقدي قوي من خلال إسهاماته الكثيرة التي كان ينشرها في الصحف الوطنية كجريدة “النصر” اليومية، ومن خلال مشاركاته في المهرجانات والملتقيات الأدبية المختلفة. وكان، في غالب الأحيان، يستقبل كشاعر شاب متفرد وذي صوت متميز. كما كان يعتبر من القلة التي يمكن أن نقرأ في حضورها الأدبي رجة الحداثة بما هي خلخلة للجاهز، وبما هي سؤال كياني يؤسس لوجود الإنسان في أفق المغامرة والإبداع والثورة.
لا يسعني هنا، شخصيا، إلا أن أتذكر أنني كنت أرى فيه صورة المبدع الحقيقي الذي يدرك جيدا أن الكتابة موقف شامل من الوجود، وأنها معاناة إنسانية وسؤال مطروح على الثقافة والعالم. أذكر، كذلك هنا، أنني كنت أقف مشدوها أمام تميز إبداعه وقوة نبرته، ملاحظا الفرق الجلي والكبير بينه وبين الشعراء الشباب الذين لم يكونوا ينطلقون، مثله، من رؤية فكرية وفلسفية متماسكة، ولم يستطيعوا، فنيا، أن يصنعوا أجنحتهم الخاصة داخل شرنقة السائد الأدبي.
عبد الله بوخالفة لم يكن عبقرية مبكرة فحسب، بل ظاهرة إنسانية بلغت الأقاصي وغامرت بكيانها كله من خلال فعل الانتحار كذلك.
لقد اختار موته. ربما كان، وراء ذلك كله، حاجة حارقة إلى سفر يطمس جمرة الوعي الشقي. ولكنني أستبق فأقول إن انتحار عبد الله بوخالفة، لم يكن مرتبطا بقضية، وإنما بأزمة الإفاقة على العراء الوجودي الذي لم يستطع مقاومة لفحاته، رغم محاولته الأخيرة اليائسة في تأثيث باقي أيامه بمصابيح المعنى الديني الذي وفرته له ثقافته، بالمعنى السوسيولوجي. لقد ابتلعت الرمال المتحركة لهذه الثقافة، بوصفها عنفا رمزيا، الطفل الجانح، وأطفأت سمومها فوانيسه في بداية رحلته إلى نداهة المعنى الذي اعتقد عبد الله، ككل الأطفال الثوريين، أنه يلبس وجه الإنسان في الجزر البعيدة”.
من قصائده
الكفن الماطر

قاطراتٌ
وعماراتٌ
قفارْ
هُوَّتي المصباحُ
أثوابي بذارْ
ضعفي القوةُ
أنفاسي عروقْ
صَبني الترحال والشوك العطيرْ
أي شوكٍ
يجعل الدمع بروقْ
يجعل الدمع مطرْ
أي شوكٍ يرضع المحزون من ثديِ
الشجرْ
كيف يشويني الخللْ؟
خلل المغرب والشرق وتجار المدنْ
إن أنا قلت سلامًا للطفولة
وسبقتُ الريحَ
سَيَّجتُ الحصونْ
كَبُرَتْ رؤيا الجنونْ
كبر الأطفال من غدر الضواري
والرحيلْ
يا دهاليزي الجديدة
ضالَّتي فتح الحدودْ
ضالتي تغيير قانون الوجودْ
أُبصر اليَنبوع ينأى
أقرأ النهرَ
ومرفوعًا على حبلٍ جليلْ
أمّه الجوهرُ
نورٌ من تراب الصبحِ
أفواجٌ من الأطفال يبنون الولاياتِ
صبايا من بنات الشمسِ
يغزلنَ الينابيع، صبايا لونهنَّ البحرُ
يكنزنَ العذابْ
في مروج الحقلِ
يسخو الحقل أعمارًا من الأشجارِ
تفاحٌ
وتمرٌ
وكتابْ
يا دهاليزي الجديدة
طالتِ الهجرة في الأريافِ
مالَ البحر صوبَ الشاطئ المدفونِ
ذرَّاه على الأمواجِ
صار الموج أطباقًا من الصحراءْ.

> إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top