“أدب الطواعين”.. هكذا اهتم المعاصرون بحركة الأوبئة في القرون السالفة

إن الأوبئة التي اجتاحت مناطق متعددة من العالم في مختلف العصور، وهزت بعنف بناها الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، لم تخل من ترك بصمات على الحياة الفكرية، كما تجلى ذلك في كثرة ما كرسه لها المفكرون المعاصرون من رسائل ومقالات، سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي.

الترجمات الأوربية للرسائل العربية

ويقول الدكتور محمد الأمين البزاز إن الأوربيين قد اهتموا بتجميع تراثهم في هذا الميدان، نشرا وتحليلا، منذ مدة طويلة، كما أن اهتمامهم انصب أيضا على دراسة وترجمة أدب الطواعين الذي خلفه الكتاب العرب، المشارقة منهم والأندلسيون، والذي يرجع في معظمه إلى العصر الوسيط.

ففي عام 1863، نشر م.ج.موليير (Muller) رسالة ابن الخطيب بعنوان “مقنعة السائل عن المرض الهائل”، وبعده بحوالي 17 سنة، نشر ألفرد كرمر (Kremer) دراسة مفصلة عن تاريخ الأوبئة في العالم الإسلامي القروسطي، مستغلا للمرة الأولى رسائل الطواعين العربية المكتوبة بعد الطاعون الأسود.

ويبرز الأمين البزاز أنه في العقود الأخيرة، تجدد الاهتمام بهذا النوع من الأدب، فترجم ويت (Wiet) إلى الفرنسية رسالتين عربيتين “السلوك” للمقريزي، و”النجوم” لابن تغري بردي، بينما اهتمت جاكلين سوبليت (Sublet) بدراسة رسالة ابن حجر العسقلاني “بذل الماعون في فوائد الطاعون”، وفي عام 1977 قام دولز (Dols) باستغلال كثير من الرسائل العربية في كتابه الذي نشره بجامعة برنسون حول الطاعون الأسود، وأخيرا، يشير الكاتب إلى اهتمام لورانس كونراد (Conrad) على ترجمة رسالة ابن حجلة إلى الإنجليزية والتي تحمل عنوان “دفع النقمة في الصلاة على نبي الرحمة”.

بيد أن الكاتب، يلفت الانتباه إلى أن الرسائل المغربية التي كتبت في الموضوع بقيت مهملة حتى المرحلة الحالية، تنتظر من ينفض عنها غبار النسيان، معتبرا أنها رسائل لا تخلو من فائدة، وذلك بالرغم من كونها نادرا لا تحتوي على تاريخ الأوبئة، أو تحديد تأثيرها على حياة البلاد، على غرار ما فعله المقريزي أو ابن إياس، ذلك أن هذه الوثائق تفيد على الأقل في معرفة منظور المعاصرين إلى الطاعون، وأسباب ظهوره وطرق علاجه والسلوك الذي ينبغي على الرجل المسلم أن يلتزم به في زمانه، وبالخصوص فإنها تعكس الجدل الذي احتدم بين الفقهاء حول إشكالية العدوى ومشروعية الوقاية في الإسلام، فهي تشكل مادة ذات طابع مميز للجو العقلي في مغرب الأمس، يقول الكاتب، وهو ما من شأن دراستها أن يلقي أضواء أخرى على واقع الحياة الفكرية للبلاد.

رسالة ابن هيدور

ومن نماذج الوثائق المغربية، يقدم الدكتور البزاز رسالة ابن هيدور (توفي عام 816هـ/1413) والذي نشأ بفاس حول “ماهية الأمراض الوبائية”، حيث يحاول المؤلف في المقدمة تحديد كلمة “وباء”، التي يستعملها والذي حدده بكونه المرض المميز عن بقية الأمراض الأخرى فهو يقول “إن الأمراض المفاجئة التي تأخذ فجأة وبغتة كثيرة، وأما الشامل منها هو المرض الوبائي وهو الذي أردت أن أخصصه في هذه المقالة”، وهنا يرى البزاز على أن هذا التمييز إنما هو ذو دلالة في حد ذاته، وبالأخذ بعين الاعتبار أن ذكرى الطاعون الأسود لم تكن قد انطمست بعد، عندما كتب رسالته، حيث يرى صاحب الكتاب أن ابن هيدور يعني بكلمة الوباء الطاعون..

ويقول ابن هيدور: “أخبرني شيخي… قال ليلة من الليالي عام أربعة وستين وسبعمائة قد أخذت مضجعي ففكرت في حالة الوباء الثاني.. وهالني أمره”. حيث يشرح د.البزاز ذلك بكون الوباء الثاني الوارد ذكره يحيل على وباء أول، وهو الطاعون الأسود الذي حدث قبل الثاني المشار إليه بحوالي 15 سنة، أو يدل هذا على أن الناس يؤرخون بالطاعون الأسود الطواعين التي أخذت تتعاقب بصورة دورية، بيد أن الكاتب يشير إلى تأليف ابن هيدور لرسالته إنما جاء وليد الهاجس من تجدد ظهور الوباء: “وهذا الزمان وقت كيانه ونفوذه وإتيانه فبادرت بإلقاء ما قالته الحكماء في دفعه ومداراته وحسم علته”. وهنا يعتبر البزاز على كلمة الوباء التي استعملها المؤلف المذكور هي من المؤكد أنها الطاعون.

وفي البداية، فسر المؤلف ابن هيدور الطاعون بظروف فلكية وأخرى مناخية، إذ أن تأثير المناخ والكواكب في انتشار الأوبئة، يعد تفسير تقليدي طبع بطابعه تفكير الأطباء والمنجمين منذ عهد أبقراط، “أما الأطباء فإنهم يزعمون أن سبب فساد الهوى يكون من تغير الفصول، ويكون فساده أيضا من الأبخرة المتعفنة الصاعدة من الأرض، وذلك أن ترتفع أبخرة فاسدة متعفنة من السباخ والبطائح المتغيرة… والأوخام والتربة الراكدة في الهوى (كذا) وأقدار الناس وفضلاتهم والقتلى في الملاحم… فيتغير الهوى عنها ويتعفن ويحدث عنه الوباء”.

غير أن المؤلف، يردف صاحب الكتاب،  لم يكن مقتنعا بهذا التفسير الذي يربط الطاعون بعالم السماء والأفلاك، إذ يقدم تفسيرا آخر يعتبره أساسيا وهو مرتبط بالعامل الاجتماعي: “ويحدث هذا المرض أيضا من فساد الأغذية المستعملة في زمان المجاعات وغلاء الأسعار فيضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن لطول زمانه، فينفسد المزاج من هذه الأغذية وتحدث الأمراض القاتلة”، ويعتبر المؤرخ المغربي أن ابن هيدور وانطلاقا من هذا التعريف ينتقل من التأليف إلى التنظير، فيقدم قانونا عاما على الشكل التالي (الغلاء=المجاعة=الوباء)، إذ يقول “ولا يكون هذا الموت إلا بأثر الغلا فهو لازم من لوازمه.. وإذا كان الغلا وطال واشتدت أسبابه لزم عنه الوباء وهذا علم صحيح وقانون مطرد لا يحتاج فيه إلى تعليل ولا نظر في النجوم”.

في هذا السياق، يورد البزاز أن هذه العلاقة التي ذكرها المؤلف بين الوباء والغلاء والجوع، تجد ما يزكيها في الوقائع بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها العلمية، إذ أن كثيرا من الطواعين التي تعاقبت على المغرب كانت مسبوقة بالمجاعات، مع العلم أن هذه العلاقة بين الوباء والمجاعة يعتبرها كثير من الباحثين المحدثين علاقة جدلية ويحاولون على ضوئها تعليل ارتفاع عدد ضحايا الطاعون.

وبالعودة إلى حديث ابن هيدور عن العامل الاجتماعي وعلاقته بظهور الوباء، يشير المؤرخ إلى أن هذا المؤلف حاول أيضا تعليل ظاهرة الغلاء، إذ ينزع نزعة عقلانية بعيدة عن التصورات الميتافيزيقية، فقد أرجعه أولا إلى أسباب طبيعية، وثانيا إلى عامل اجتماعي/سياسي، وهو تفشي الفتن والحروب: “كما أن الغلا لحدوثه سببان، إما احتباس المطر في البلاد المحتاجة إليه، وإما لظهور الفتن والحروب بسبب خروج الخوارج على الملوك، فإذا دامت الفتنة وقع الفساد في الحواضر والبوادي وفسدت حبوبها المختزنة وانقطعت الطرق وعدمت المرافق لأجل ذلك، وهذا الوباء لازم من لوازم الغلا، كما أن الغلا لازم من لوازم الفتنة الدائمة”.

وبعد هذا، ينتقل ابن هيدور إلى تحديد طرق العلاج، وهي تنقسم عنده إلى نوعين: النوع الأول ويعتد على ما يتعين قراءته وذكره عند نزول الطاعون، فينصحها بترديد هذا الدعاء “يا حي يا حليم يا حنان يا كريم”، مضيفا أنه كان يستعمل بالمشرق حيث كان الناس ينقشونه على خاتم ينضاف إليها ثمانية حاءات، بالإضافات إلى أدعية أخرى.

ويرى البزاز أن هذا الجانب من خطاب ابن هيدور يوحي بسيطرة الفكر الغيبي الميتافيزيقي، وقد يبدو اليوم متجاوزا، إلا أنه يعكس العصر الذي كانت تروج فيه هذه الابتهالات، وهذا ليس على الصعيد العقائدي، لأن المجتمع المغربي كان وما يزال دينيا يلعب فيه الدين الدور الرئيسي في تشكيل القيم وتوجيه السلوك، وإنما على المستوى الطبي، فالمجتمع إذ ذاك كان يجد نفسه أعزل تماما أمام قوة الطاعون، وكانت جميع الأدوية المستعملة ضده لا تجدي فتيلا. وأمام انعدام أي وسيلة أخرى، لم تكن هناك سوى مزاولة الأساليب الروحية.

بيد أن ابن هيدور لم يهمل الجانب الطبي، وهذا النوع الثاني من طرق العلاج، حيث يقول “فينبغي للإنس أن يدبر الهواء الذي يتنفس به إذا لا يمكنه تبديله ولا له مندوحة عنه لسواه إذ هو مادة حياته وتنفسه القلبي.. فيجب عليه إذ ذاك إصلاح جواهر الهواء ورده إلى مزاجه الملائم لمزاج الإنس بما ذكرته الأطباء ورسمته العلماء من اتخاذ البيوت العالية ورشها بالرياحين الباردة… ورشها بماء الورد الممزوج بالخل والتطيب به ومسح الوجه والأطراف بذلك والمواظبة (كذا) على شمه وشم الأرنج، وأما الطعام والشراب فيكون موافقا للعادة والوقت والسن ويترك الثمل منه خصوصا عند النوم وكذلك، يحذر كثيرا من إدخال الطعام على الطعام وحض جالينوس على استعمال الترياق الكبير وذكر أنه ينفع نفعا عظيما من العفونات التي تكون من الوباء”.

 في هذا الصدد، يلاحظ المؤرخ المغربي أن وسائل العلاج أمر أقرب إلى النظافة وتنظيم الغذاء منه إلى وصف العقاقير، معتبرا أن ذلك ليس بغريب في وقت كانت الأدوية المتوافرة عديمة الجدوى لعلاج دواء وبال كالطاعون، فكان أكثر ما يستطيع الطبيب أن يرجو في علاج المريض أن يلطف ألمه ما أمكن وينشط جسمه ويقوي معنوياته، مبرزا أن ما هو جدير بالذكر تركيز المؤلف على وجود صلة بين الطاعون والهواء الذي يعتبر عاملا من عوامل نقل العدوى، منوها بهذه الفطنة التي اكتسبها المؤلف واعتقاده بإمكانية تلافي المرض بتطهير الهواء.

رسائل الطاعون في القرنين 18 و19:

منذ نهاية القرن الرابع عشر دخل المغرب كغيره من البلدان الإسلامية، في فترة زمنية طويلة ترتبط بالنكسة الحضارية والارتداد بالفكر إلى حقبة مظلمة، فقد انحسرت أهمية التفكير العقلاني أمام انتشار الفكر الخرافي، وانحصر النشاط العلمي في المدونات الفقهية الجامدة واجترار ما قرره السلف الصالح، وانعكست روح هذا الجمود الفكري فيما وصل من رسائل الطواعين في القرنين 18 و19، إذ أنها، يقول الكاتب، عبارة عن توجهات ميتافيزيقية صرفة، ينصب فيها الاهتمام على رصد مفهوم الطاعون ومسألة العدوى والاحتراز على ضوء الأحاديث النبوية والتراث الفقهي الوارد في الموضوع، وذلك من أجل تحديد الموقف الشرعي الذي يتعين على الرجل المسلم اتخاذه زمن الطاعون.

كما أن تعريف الطاعون في هذه الفترة ارتبط بالتوجهات الغيبية، حيث يصور هذا الوباء على أنه جملة من البلايا التي سلطها الله على بني إسرائيل والطوائف الماضية لما عصوا أنبيائهم، أما عن الاحتراز منهم فهو كذلك مأخوذ من القاعدة الشرعية التي تؤكد أنه لا يجوز لأحد أن يفر من أرض هو بها إن كان الطاعون موجودا بها، كما لا يجوز له القدوم عليه إذا كان خارجها”.

وبالرغم من ذلك، يكشف د.البزاز أن الاختلاف قد ورد بين الفقهاء والعلماء بين من أجاز الفرار وبين من لم يجزه وبين من أخذ بالوقاية وبين من أكد بوجوب تسليم القدر، وهو ما نتج عنه اتجاهين، وهو اتجاه مناهضة لحقيقة العدوى، والآخر هو الاتجاه المضاد للأول أي يؤكدون العدوى، حيث ينقل صاحب الكتاب مجموعة من الكتابات في كلا الاتجاهين لعدد من الفقهاء المغاربة.

ويخلص الدكتور البزاز إلى أن أدب الطواعين، الذي كان الجميع يتوقع منه أن يمد بما من شأنه أن يغني المعلومات عن تاريخ الأوبئة ومدى تأثيرها في حياة البلاد، إنما يوجه الاهتمام أساسا إلى البحث النظري الشرعي المتعلق بالسلوك الذي ينبغي للرجل المسلم في زمن الطاعون، معتبرا أن ذلك لا يدعو إلى التقليل من أهميته، والتي تكمن في تعبيره عن طريقة التفكير السائدة خلال القرنين 18 و19 في ما يتعلق بمسألة العدوى والاحتراز، والذي كان محور اختلاف بين الأطراف الفكرية المتباينة، تبعا لتباين ظروف كل مفكر ولشدة أو ضعف ارتباطه بالفكر الطرقي السائد…

 إعداد: يوسف الخيدر- محمد توفيق أمزيان

الوسوم ,

Related posts

Top