أدب الغرابة في “رقصة في العواصف..”

بمعية نص “رقصة في العواصف..” للمبدع اللبناني الألمعي جورج شكر الله، يعيش المتلقّي غطرسة النّص العجائبي المطلي بعصارة الانتماء، بما يفجّر أسئلة وجودية وفلسفية منبثقة من خلفيات السّليقة، مثقلة بقطوف سخاء البصيرة وجودها اللامحدود، في أفق كتابة العماء وألوانه المنجدة من حقول ألغام الصّنعة المقزّزة والتكلّف المجامل.
نقتبس له ههنا بعض درر البوح، إذ يقول مذبذبا بين خطي تواز للخطاب السردي والشعري، راشقا الذائقة والوعي، بوابل من التصويرات الفنية، تماما كما عوّدنا مؤكّدا فرادته وخصوصية بصمته، غير مهادن في إرباك مريديه وعشاق سيره الأعمى في كلمته التي يتشاطره عبرها معنيان: صياغة شفيفة تجعل من المألوف غرائبيا تحصل به الوظيفة الأسمى من الممارسة الإبداعية، وأخرى قيمية، دورها أن تزرع المثل وتستثير مكامن النبل والجمال والغضاضة في المنوّم والمخدّر داخل مركزية إنسانيتنا النازفة.
يقول في موضع من هذا النص: [ أيّ أصابع جرداءَ، سحبتهُ من شعره جهةَ مغاور السّفر الأعمى، وطمستْ مقلتيه بأحجية البعد الأبكم، وكبّلتْ يديه ورجليه، بشعر امرأة عاهر ،تمشي أمام قافلة خطاياها، حادية؟
أي أصوات خرساء أومأت له أن يقتربَ. وبعد أن وأدت خرير السواقي الشجي في حنجرته ،جرّته إلى زاوية الصمت اليابس، وأجهضت على صبايا الأمل والفرح والشباب في صدره؟](1).
من هنا، ونحن نطالع لجورج كتابه الذهبي هذا، وأصرّ على وسْمه بهذا النعت الذي تتكلّفه كلمته الغنية والجميلة، في زمن داج كالح ندرتْ أقماره القادرة على بعث روح جديدة، في أمجاد أدبياتنا العربية، حدّ نأي المسافة واختناقها، مابين جيل هجين الثقافة ملطّخ بهوية الببغاوية، ديدنه التطبيع والتقليد بدل الخلق والابتكار، داخل خارطة إبداعية يعْربية بامتياز، فصيحة قلبا وقالبا.
هو بوْن بيننا وبين تلك الرموز التي تقبرها الذاكرة، عوضا عن أن تنفخ في شموع ميلادها، وفقا لسياقات مواكبة ومسايرة للتقدم والتطوّر الحضاري البشري الملحوظ.
مؤلفه الموسوعي هذا وهو يحوي بين دفّتيه، رسالتين إنسانيتين ساميتين، لكن ليس على حساب الوظيفة الجمالية للإبداع إجمالا.
ذات مبدعة، تتقاذفها هواجس الوطن وتنحاز كليا للقضايا الإنسانية العادلة، تبعا لدورة وجودية كاملة ومتوازنة، تصون ميكانيزمات التصالح في شموليته، وترعاه بثلج الأنامل المتوهجة، ومحراث الخيال المخصّب.
“رقصة في العواصف” كما سمّاها هو، نكاية في راهن الفوضى والدموية والاضطرابات وجنائزية المعنى والمشهد، بيد أن كلّ ذلك يتمّ، توسّلا بسبل سرية، تشقّها ذهنية المبدع، في روح إنسان خبر جور الوطن والمنفى، على حدّ سواء، فإذا بعزلته تتضاعف وتزداد معاناته، وإلاّ لم يكن ليحوز كامل هذه الطّاقة، كي يقامر إبداعيا، يهدم ليبني ويفكّك ليركّب.
وفي موضع آخر، نقرأ له الاقتباس التالي: [ بلادي يا مدينةً من النّبيذ القرميديّ، يا غابةً مُلوّنةً بأجنحة العصافير، يا ينبوع مراكب زرق تحبو فوق مياه العالم.
بلادي إليكِ أنت تحيّةُ جبالْ… وطني غابةٌ خضراءُ قديمة. وطني بوّابةٌ أرزيةٌ صلبة. إذا عبرتَ بين غاباته يومًا، لأدركتَ لماذا يلذُّ لبنيه خمر الفداء. لأدركتَ أيضا لماذا قفز إليه الفجر من السّماءْ] (2) .
تفيض الرّسالة الثانية في جزء “قمر الزمن والليل” عن كينونة تربي حسّ الانتماء، داخل دواليب المشترك الإنساني، بمعزل عن فوارق الطبقية والأعراق واللون والألسن والدين.
نحن نعرف أن القمر لا ينير إلاّ ليلا، فما الغرض من إضافة مفردة “الليل” إذا؟ بقليل من التأمل نهتدي إلى حكمة أراد أن يبطّن بها جورج شكر الله رسالته، واشيا بحقيقة جوهرية، وهو أقصى معنى يمكن أن يُستفاد من شرف الإضافة.
فما أغرب أن توضع الذات المبدعة، مراوحة بين إيقاعات سردية وشعرية، في آن، وأن تُحمل على خيوط ضمنية للمعنى المولّد في خطّ تماس بين ضدين أو متقابلين.
إنه إدمان الصور الإبداعية المركّبة: ذات داخل ذات، وزمن داخل زمن، ونص داخل نص. فليل جورج ليس عاديا، بل إنه مركّب أيضا ومعقّد ومضاعف، في إحالة على واقع الإبداع ضمن إكراهات معينة وبإرادة فولاذية واعتقاد بالتزام أبدي ومسؤولية تامّة.
في موقف ثالث يقول: [ إستفيقي يا حلوتي الصّغيرة .. الليل ليس على الجبال، ليس في الأودية. الفجرُ يندرئُ أنهاراً من الفضّة. . الشمس عروس الفضاء العظيمةُ، مثل برتقالة بيضاء .. بيضاءَ تتدلّى من يد الله.] (3).
هكذا يدع المبدع، بعدّه كائنا ليليا، ههنا في حالة جورج شكر الله، ليس يسطع إلاّ لتومض من خلاله وعبره، زوايا العتمة في الكتابة والحياة، أو بمعنى أدقّ يورّث رسالة مشرعة على تفاصيلها ووصاياها وحكمها الثمينة، محاولا تجنيب الخلف، دوخة المركب،علما أن متاهات الذات والحياة لا حصر لها، وأخطرها ما نُقش في ذاكرة طفولة الكائن، لينغّص عليه، لاحقا، أفق الأحجية كما يريدها مبدع أثيري وأصيل، من طينة اللبناني جورج شكر الله.
خبرة كاملة بالإبداع والحياة، تسمو بالفعل الإبداعي مراتب، ليس يضاهيها سوى ما يدغدغ الذائقة والإدراك سيان، من ثمالة ملء كنوز ما ورائيات ألوان النّص المفتوح تماما، وهو يرشقنا بنورانية متونه، ويلقّنا دروسا جمّة، من جملة معانيها أنها تمجد الأصوات المغرّدة خارج السرب، والمنتصرة لإبداع الغرابة معجونا بعصارة أحاسيس الانتماء والهوية ومنظومة ما يرفد في العمق والصميم الإنساني.
هكذا نجد المبدع جورج شكر الله وقد أفلح، في كلّ ذلك، صورة ورؤى وإيقاعا ولغة، لينقل لنا من ضمن ما ينقل، إخلاصه للغصن، لبنان، وقد ضرب لها معادلا موضوعيا، فأسقط عليها ممّا يؤنسن الجبل، ويمنحه طابع المقاومة والصلابة والشموخ، منقوعة في فروسية أبناء هذه الوطن المفخرة، والذين ليس تثملهم، سوى لذة فداء لبنان لأنه جنة الله في الأرض، وحقّ له أن يعلو ولا يعلى عليه.
نصوص تتنفّس عشق لبنان وتضاريسه وناسه، مبرهنة أنها مضغة من صاحبها المثقل بعناقيد الإبداع المستفز فينا ذاكرة الأمجاد وأعياد اللغة المشتهاة.
إحالات:
(1)نص كان قنديلا (ص) 124.
(2) نص نجوم من الوطن (ص) 11.
(3) نص حب فوق الجبال (ص) 88.
أنظر كتاب ” رقصة في العواصف وقمر الزمان والليل” 2018، مطابع معوشي وزكريا

> بقلم: أحمد الشيخاوي*
*شاعر وناقد مغربي

Related posts

Top