“أصيص الأحلام ” للقاص المغربي البشير الأزمي: بين لغة الحلم وتوظيف الرمز

منذ ظهور القصة القصيرة جداً في العالم العربي، اتخذت نسقاً من حيث الحجم واللّغة والمكونات التي تميزها عن باقي فنون السّرد الأخرى، وإن كان هناك ما يشبه التّقاطع، أو التّداخل enchâssement ألأجناسي والذي رغم ذلك، يحافظ كلّ جنس على شكله و مقوماته. دون السّقوط في التّماهي و التّجانس..
ولكن حين يطلع القارئ على نصوص حديثة، مدرجة في إطار القصة القصيرة جداً، لا يجد ما ألفه، وتعوّده من مقومات نمطية typiques سابقة، فينتابه بعض الاندهاش والتّساؤل.. وذاك ما يحدث فعلاً عند قراءة المجموعة الجديدة: “أصَيصُ الأحلام” للقاص البشير الأزمي، ــ وهو عنوان أحد نصوص المجموعة ــ ولعلّ الغرابة تبدو من العنوان نفسه، وتنسحب على النصوص. فالمجموعة من الحجم المتوسط، تضمّ اثنين وستين نصاً، في طباعة جيدة و أنيقة، عن مطبعة الخليج العربي/تطوان/2017 و تزين الغلاف لوحة معبرة للفنان التّشكيلي محمد العمراني. وتتصدر المجموعة قولة لمارسيل بروست “Marcel Proust “: ” إن كان القليل من الأحلام قد يضر بنا، فالعلاج ليس بالتّوقف عن الحلم، بل بأن نحلم أكثر وأكثر طوال الوقت” وقد استأنس بها القاص في معظم نصوص المجموعة.. التي جاءت بعد ثلاث مجموعات سابقة: الضفة الأخرى /2007 و أحلام معلبة/2013 و أطياف الفرح/2015

1 ــ شكل النّصوص:

ألفنا أنّ النص القصصي القصير جداً، يأتي في شكل فقرة، فعدد الأسطر في الغالب ومن حيث الطول بين ثلاثة وخمسة أسطر. وقد تزيد قليلا . وإن كانت عند بعض القاصين في المشرق تملأ صفحة كاملة. وقد يجعل بعض القاصين ما بين نص و ثلاثة نصوص في الصفحة الواحدة. بينما في مجموعة”أصَيصُ الأحلام ” للبشير الأزمي ، تختلف قاعدة الشّكل المتعارف عليها كلياً.إذ يرتئي القاص أن يأتي بنص واحد في كلّ صفحة. وأن يقتدي بنظام القصيدة الّعريية الحديثة من حيث الأسطر، إذ نجد السطر بين جملة قصيرة ، أوجملة و شبه جملة، إلى ثلاث جمل متناهية في القصير .
أمّا من حيث العنونة، فعنوان المجموعة جاء جملة اسمية “أصيصُ الأحلام” حذف المبتدأ وذكر الخبر والمضاف إليه، وتقديره هو أصَيصُ الأحْلام. وأصَيص تصغير”أَصيص” اسم، جمعه أصائِصٌ، وأُصُصٌ، ويُراد به: وعاءٌ خزفي كالجَرَّة له عُروتان، أو بدونهما يُحمل فيه الطّين.أو تغرس فيه نباتات وأزهار تزين الشّرفات..
عناوين النّصوص منها المفرد سبع و عشرون عنواناً ، و المركب خمس وثلاثون عنواناَ. منها ثمانية معرفة: (الظل، البطل، الرّحلة الأخيرة، المناضل، العصا البيضاء، الرجل ذوالياقة الحمراء، المثقف العضوي، الكاتب.) والبعض معرف بالإضافة والباقي نكرة. كما هناك أربعة منها رمزية تراثية: (زرقاء اليمامة، سهام كيبوبيد، ريشة السيمورغ، يولسيس) وكلّ العناوين عبارة عن مصادر، أو أسماء، أو جمل اسمية. ولا أثر للفعل، أو الجملة الفعلية. و يلاحظ أنّها لا تعني دائماً فحوى النّص، بل تتخذ لها أبعاداً أخرى، قد لا تخطر على بال المتلقي .. كالسخرية، و الانتقاد، و السّخط، و الرّغبة، التّناقض .. ما يجعلها في حاجة إلى دراسة خاصّة.. في إطار دلالة العنونة..

2 ــ الكتابة الحلمية / لغة الحلم:

غرابة نصوص المجموعة، تعود بالدّرجة الأولى إلى الكتابة الحُلمية. ونقصد بها لغة الحلم، يقول مصطفى صفوان في تقديمه لترجمة كتاب “تفسير الأحلام “لسيجموند فرويد: “إنّها  لغة  تتميز  بالفقر النّحوي  مع الإعمال المفرط للحذف في ترتيب السّياق، ثمّ بالثّراء البلاغي، فالتّكثيف المعنوي، من ثم يرى إريك فروم أنّ  فهم  الرّمزية في الأحلام وكذا اللّغة في الأحلام ، هي إذن فنّ من الفنون، وهو ككل  فنّ  يتطلب  شيئاً من المعرفة والمهارة والمِراس  والأناة”. 
وهذا يعني أنّ الحلمَ: كلمات لا يربطها رابط نحوي يجعلها منطقية، وذات دلالة واضحة، ولكن ذلك يشكّل لغة ما، اختزالية، لما يعتريها من حذف وإضمار وهي بذلك لا تشبه اللّغة المُتعارف عليها، بتراكيبها، و بنائها.. لأنّها تشكّل لغزاً وجملةَ رُموز، متناقضة، مختلفة، تصويرية. أي تنتج خطاباً تلميحياً يتمّ عن طريق اللّقطات التّصويرية، الذي بدوره يثير هاجس التّأمّل، و التّأويل، والتّفكير.. وذلك في شريط من الصّور المُبرقة، المُتتالية، والتي تستوفي كل خصائص المَرموز والمُصور بشكلٍ شاملٍ و كاملٍ، وكأنّها عَمدت إلى التّفصيل، وذكر الجزئيات، مع أنّها عكس ذلك، مقتضبة، واختزالية، وغير واضحة الدّلالة. لأنّ مصدرها الأساس ومحفّزها: اللاشعور، وتلك هي لغة الحلم، التي تشكّل السّرد الحلمي La narration Onirique التي استعارها القاص البشيرالأزمي، فأضفى على نصوصه شيئاً من الغرابة، والانغلاق، والإبهام المعنوي. وذلك من خلال وفرة الرّمز وعمليتي التّكثيف Condensation، و الإزاحةDisplacement  .
ويبدو ذلك واضحاً في معظم نصوص المجموعة. ففي نص “زرقاء اليمامة” فإنّ العنوان يشي بما هو متعارف عليه أنّ زرقاء اليمامة سيدة حادّة البصر تستطيع أن ترى قافلة على بُعدٍ لا يستهان به، وتخبر عنها، في الوقت الذي لا يرى أحد أثراً للقافلة، وحدث أن أخبرت قومها أنّ أشجاراً تزحف نحوهم خلفها رجال مسلّحون، فاستهزؤوا منها و لم يأخذوا كلامها مأخذ الجد. فهاجمهم عدوهم المتخفّي خلف أغصان الأشجار بغتة، وهم لاهون. وانتقموا من “زرقاء اليمامة” بسملِ عينيها. هذا ما ورد في “العقد الفريد”، و كتاب “أثر البلاد وأخبار العباد” فالقاص البشير الأزمي، اقتبس الحكاية بفنّية خاصّة، ليمرّر خطاباً سياسياً، ولكن بلغة الحلم، التي تختلف عن لغة الحكاية المتداولة.. ويبدو ذلك في النص:

“على مسيرة أيّام../ وقفت../ تكتحل بالإثمد../ تنذر القوم../ إنّ الديمقراطية خدعة./ اتهموها بالخبل../ فقأوا عينيها ../ فغشت الظلمة عيونهم ..”.

فالذي لم يطلع على حكاية “زرقاء اليمامة” الأسطورية يقع في خلط والتباس، وتنتابه حيرة وأسئلة:
ــ ما علاقة مسيرة أيّام، ووقوف الشّخصية، واكتحالها بالإثمد؟
ــ وما علاقة كلّ هذا بإنذارها لقومها بأنّ الدّيمقراطية خدعة؟
ــ وقدْ يتهمونها بالخبل ولكن لماذا فقأوا عينيها؟ وما علاقة العينين بكلّ ذلك؟
ــ ولماذا غشيت الظّلمة عيون قومها؟
هكذا، كما يستيقظ الحالم من حلمه، حائراً، قلقاً، متسائلا.. يحاول استرجاع الحلم و فهمه بخاصّة، ولكن دون جدوى، فقد تستعصي عليه لغة حلمه.. كذلك قارئ النص، فقد يقع في نفس الوضع، حتّى وإن كان على علم بالحكاية الأصل، لأنّ السّؤال ما علاقة “زرقاء اليمامة” بالديمقراطية؟ وهذا وجه الخلاف بين السّرد بلغة مألوفة، والسّرد بلغة الحلم التي تنسحب على كلّ الأزمنة والأمكنة، والتّيمات الممكنة، وغيرالممكنة.. بشكل تصويري ورمزي “فزرقاء اليمامة” مجرّد رمز، غابَ إبصارها العيني، في النّص واستبدل باستبصارها العقلي. فكلّ المحلّلين السّياسيين في العالم يتّفقون أنّ الديمقراطية مجرد خدعة، كباقي الخدع الأخرى السياسية: (المساواة، العدالة الاجتماعية، حقوق الإنسان..) لتلهية الشّعوب، وامتصاص غضبها واستهلاك جدل المجادلين.. فيما هو في حكم الوهم والخيال. وإنْ غيَّبتْ لغة الحلم العدو المتربص خلف أغصان الأشجار، فقد استبدلته بالسّلطة المحلية، التي لا يرضيها استبصار المُستبصرين، ونظرتهم المُستقبلية، لحال البلاد والعباد. فهي جادة في إحكام الطّوق عليهم، واجتثاثهم. فإذا تيسّر لها ذلك، خضع الشّعب لهيمة السّلطة المطلقة، وعمّت ظلمة الجهل واللاوعي.. “فغشت الظلمة عيونهم”.
ونجد ما يشبه هذا في نص “أحلام” ص/6 و”أصَيصُ الأحلام ” ص/7 وإن كانا معاً يغرقان في عتمة الرّمز، ويَستعصيان على التّأويل..ونجد فيهما بعضاً من حكاية النّص السّابق “زرقاء اليمامة ” وبخاصّة ما يتعلق بالعينين وسَمْلهما والرّؤية ففي نص “أحلام”:

[في الليلة الأولى، رأيتني أحلق فوق السّحاب../ في الثانية أرسم حماماً أبيض يهدل.. نشوان../ في الثّالثة استيقظت مَذعوراً../تحسّست عيني../ ثقبان يسيلان دماً.. و بقايا ريش ذابلة فوق وسادتي..].

في نص “أصيص الأحلام”: [ تعاطيت أحلاماً../ أدمنتها./ غرستها في أصيص../ رويتها..
فتحت عيني على خدر جميل../ وجدتني أقطف أفاعي رقطاء../ طوقتني..لدغتني../ تسمّمَتْ أحلامي..].

في النّص الأول “زرقاء اليمامة” أنذرت البطلة قومها بأن الديمقراطة خدعة اتهموها بالخبل، وفقأوا عينيها.
في النّص الثّاني “أحلام” بعد استيقاظ البطل مذعوراً، تحسّس عينيه فوجدهما ثقبان يسيلان دماً.
في النّص الثّالث “أصَيصُ الأحلام”، أدمن البطل الأحلام فتح عينيه، وجد نفسه يقطف أفاعي رقطاء، طوقته، لدغته، سمّمت أحلامه.
نلاحظ المأساة تأتي مباشرة بعد الوعي والاستيقاظ. و كأنّ الحلم أداة بُعدٍ ونفورٍ من واقع لا يطاق. وفي هذا مجال خصب للتّأويل وتفسير رموز النّصوص الثلاثة. ومن النّصوص التي تجسد لغة الحلم التي تعتمد الصورة/المشهد ، والرّمز المفعم بالدّلالة والإيحاء، نص “ثقافة ونضال”ص/40:
“صورة غيفارا../ قنينات خمر، ملأى وفارغة.. بقايا أعقاب سجائر../ كتب متناثرة هنا وهناك../ ثرثرة..خمر../ حرية..ثورة..مجتمع../ تحليلات..نظريات..مواقف..نهود تطل من أقمصة غير مزررة../ وروائح بول تزكم الأنوف..”.
الشّعور الذي ينتاب المتلقي وكأنّه في حلم حقيقي، والصّور تنثال عليه لقطات تلو لقطات.. لتحدّد بَانوراما مشهد عام، ينفتح على كلّ التّأويلات المُمكنة.
ومنَ النّصوص التي جاءت بلغة الحلم أيضاً، معتمدة الرّمز، والإشارة، والتّشفير: “لوحة” ص/9،”وشام ” ص/12،” جنازة” ص/35،” سرسر الفراغ “ص/36،” بوابة الفراغ ” ص/39، ” عودة الأبطال”ص/42 ،”ليل المدينة”ص/44، “سهام كيوبيد “ًص/46، “ريشة السيمورغ “ص/47، “تطور ملحوظ “ص/60 ..

3 ــ الكتابـة الرّمزيـة:

حقاً، إنّ الكتابة بلغة الحلم كلّها رموز وإشارات .. ولكنّها تبقى في إطار الحلم والشّعور به كأسلوب، ونسق فنّي تعبيري..أمّا الكتابة الرّمزية الصّرفة، فهي خارج لغة الحلم، فذاك نسق آخر مُختلف، كالذي سنراه من نصوص المجموعة.
لقد وظف القاص البشير الأزمي جملة من الرّموز المتنوعة ذات المرجعية المختلفة: العربية و الإغريقية في الغالب: [ زرقاء اليمامة، الوشام، الظل، العنقاء، غيفارا، كيوبيد، السيمورغ، جبل قاف، الشجرة الكونية، بورخيس، جوبتير،برومثيوس، جبل الأولمبوس، جرامشي، هستيا، يولسيس،فان جوخ، كرونس،هيكاتي].
يعمد القاص البشير الأزمي لتوظيف الرّمز، لغاية فنّية أساسها أنّ الأفكار، وخلجات العواطف البَشرية، وجملة الإحساسات النّفسية.. لا يمكن التّعبير عنها بعمق و فنّية بواسطة لغة نثرية عادية معيارية. فإنّ تلافيف ما بعد الواقع، يفترض لغة أخرى، قد تختلف عن لغة الحلم التّصويرية، إذ يُصبح فيها الرّمز علامة دالّة عن المَرموز له، يَعيها المتلقي من خلال فعله الذّهني، و لذلك جاء الرّمز يوحي بالحالة التي تبدأ في شكل صورة ذهنية سرعان ما تتّخذ أبعادَها التّكاملية، في شكل عَصفٍ ذهنيّ. يجعل من المتلقي مشاركاً في الكتابة، بدل التّلقي الاستهلاكي. فإن جاءتْ بعضُ النّصوص الرّمزية، يكتنفها بعضُ الغموض، فإنّ جلّ النّصوص جَمعتْ بين الوضوح الفنّي والشَّفافية التّلميحية والغموض التّأويلي.. وكلّها خصائص تُبعد النّصوصَ عن المباشرة و التّقريرية، كما تَقيها الغلوَ والسّقوط في رَدهاتِ الإبهام، وعَتمة الإغْماض.. وتُبقيها في إطارِ القصِّ الفنّي.. الذي يضمن حداً من الإيصال والتّواصل..ففي نص “نِعمة عظيمة ” ص/51 الرّمزي، والذي وضعه القاص أيضاً على ظهرغلاف المَجموعة، نجد ثلاثة رموز إغريقية: [ برومثيوس، جبل الأولمبوس، وجوبتير]
وهو من النّصوص التي كُتبت بشكلٍ عادي من حيث الشّكل:
” لما أطل ‘برومثيوس’إلى الأسفل، رأى ما يتخبّط فيه القوم من جهل وفقر وتخلّف..غادر جبل الأولومبوس..علّم القومَ القيم والكتابة والحساب وكيف يخضعون الثّور والحِصان..
بتعلمهم اعتقد القوم أنّهم أصْبحوا متساوين مع الآلهة.. انسلخوا عن القيم ..عمّت الفوضى..
إذاك فقط تذكر’ برومثيوس’ لماذا كان ‘ جوبتير’ يَخشى أن يُعْطي البَشرُ نِعمةً عظيمة ..”.

ولفهم القصّة من خلال رَمزيتها، ينبغي معرفة هذه الرّموز أولاً:
فبروميثيوس(prometheus) قام بمزج الطين مع الماء وصنع منه الإنسان على صورة الآلهة.. وجعل قامته منتصبة لينظر إلى السّماء والنّجوم، بينما بقيتِ الحيوانات تنظرُ إلى الأرض..
ــ بروميثيوس في الأسطورة الإغريقية أحد الجبابرة.. يعني اسمه التّفكير المسبق أو بُعد النّظر، وُكِل هو وأخوه إيبيميثيوس بصنع الإنسان على شكل الآلهة وتزويده بالقدرات الضّرورية لبقائه.. فمنحا كلّ حيوان ما يحتاجه وعندما جاء دور الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات نفدت كلّ المَمنوحات.. لذا سرق برومثبوس شعلة من الشّمس وأهداها للإنسان لتساعده في حياته، فعُرفَ بسارق النّار و مُعلّم البشر ..
ــ أما زيوس (Zeus ) في الميثولوجيا الإغريقية أو جوبيتر (Jupiter ) في الميثولوجيا الرّومانية فهو إله السّماء وكبير الآلهة وقائد جبل الأولمبوس يهتمّ بالنّظام والعدالة واحترام العهود والعلاقة بين الضّيف ومُضيفه، و له العديد من الزّوجات والأبناء.. و هو خصم لبرومثيوس الذي ساعد البشر.
ــ جبل الأوليمبوس: أو الأوليمب، أعلى جبل في اليونان حيث يبلغ 2,919 مترًا أو 9,570 قدمًا  وكان مقدّساً في الميثولوجيا الإغريقية القديمة.. اعتقد الإغريقيون أنّ آلهتهم تقيم في هذا الجبل .بما فيهم جوبيتر .
إذاً القاص البشير الأزمي، استعرض الميثولوجيا الإغريقية كما هو متعارف عليها في شخص برومثيوس ومنحه نفس وظيفته تعليم البشر، ولكن برومثيوس فوجئ بأنّ البشر بعد أن تعلّم طغِي و تجبر وأصبح يعاند الآلهة، وهذا ما كان يخشاه جوبيتر الذي رفض أن يمنحَ البشرَ النّعمة العظيمة /النّار. لهذا ورد في نهاية النّص: [إذاك فقط تذكر’برومثيوس’ لماذا كان ‘جوبتير’ يَخشى أن يُعطى البشرُ نعمة عظيمة].
والفكرة تتمحور حول ما يَعتري الإنسانَ من غرورٍ وتحدٍّ ونكرانٍ للجميلِ حين يملك ما لم يكن يملكه من قبل، و قد يتغير بشكل فظيع.
إلا أنّه يُلاحَظ أنّ الرّمزَ أخِذَ من الأسطورة بتصرف:
“برومثيوس” في الأسطورة كان بعيدَ النّظر، وهذا ما يعنيه اسمه. لكن القاص جعله قصير النّظر. ومنحَ بُعدَ النّظرإلى جوبتير. ثمّ جعلَ برومثيوس وكأنّه وافق رأيَ جوبيتيرفي حرمان الناس من النّعمة العظيمة/النّار. مع أنّ برومثيوس لم يَأسف عن عمله رغم أنّه عُذّب صَلباً، ونَهش النّسر من جسمه. فظلّ مؤمناً بِما فَعل، ومُخالفاً لرأي جوبيتر. وبذلك اعْتبرَ صديقاً للإنسان. أعتقد أنّ التّصرّف اجتهاد وإبداع في إطار الرّمز، جَعل النّص مختلفاً يكتسي حلّة أخرى للميثولوجيا الإغريقية.. وكأنها إعادة للبناء الدرامي restructuration ولو لم يفعل القاص ذلك، لكان النّصّ مجرّد نَسخٍ و تكرار.

4 ــ سيمات خاصّة في المجموعة:

ــ زاوجت المجموعة بين لغة الحلم والكتابة الرّمزية بشكل تناسبي.
ــ في المجموعة نصوص أخرى مخالفة للغة الحلم والكتابة الرّمزية تعتمد الحكي والبنية المفتوحة structure ouverte ومنها:
ظمأ ص/10، استشراف ص/11، تحررص/14، طائرة ورقية ص/17، دم..قراطية
ص/24، انتظارص/25، قلب جديد ص/27، خطبة ص/28،مرآة صادقة ص/32…
ــ اتباع أسلوب القصة الغربية في الحوار.كأن يسرد السارد قول المتحاور و يردفه قال فلان مثلا: في نص ” تسمم ” ص/ 20:
ــ كان يعبث ب”عقارب” ساعته .
أجابت ..
وفي نص “تاكسي” ص/22
ــ نعم سيدي .
أجاب السائق
و في نص “تغيير” ص/29
ــ نعم أنا ..
أجاب رجل الأمن..
أعتقد أن الحوار والسياق واضح بدون تلك الزيادة، وإذا كان ولا بد من توضيح لنوعية القولة فإن ذلك يتصدرها، مثلا: قال هامساً .. قال متلعثماً .. قال صارخاً.. قال متبرماً…
ــ أخيراً نصوص قليلة جداً سقطت في أسلوب الخاطرة كنص “مسار” ص15 جاء مشذراً وهو أقرب للخاطرة منه إلى القصة القصيرة جداً. وكذلك نص الرّحلة الأخيرة ص/23 ، وليل المدينة ص/44
إن مجموعة “أصَيصُ الأحْلام” مجموعة واعدة لما جاءت به من خصائص فنية كالتنافر الزمني، وأسلوب التّسريع، والإضمار بنوعيه المحدّد وغير المحدّد، وتنوع التّشكيل الكتابي، والسّرد في النّسق الحلمي تارة، والرّمزي، والحكائي تارة أخرى. الشّيء الذي جعل مظاهر السّرد وأنماطه تختلف من نص لآخر، ما أتاح تنوع الرّؤية السّردية وفتح المجال أمام التّأويل، والاستنباط ، وتعدد القراءات.

> بقلم: مسلك ميمون

Related posts

Top