أعمق من الدارجة والفصحى…

الجدل الذي شهده فضاؤنا الإعلامي في الأسابيع الأخيرة حول استعمال اللغة المغربية الدارجة في التعليم انحرف إلى مواجهات ذات خلفيات سياسية وأيديولوجية ودينية، وبذلك ضاعت كل الأهمية التي يجب أن تحضى بها هذه الإشكالية المركزية والمعقدة في بنياننا التربوي والثقافي العام.
ليس النقاش سطحيا أو بسيطا كما يعتقده البعض، وهو كذلك ليس موضوعا سجاليا لإحماء المواجهات الإعلامية والفايسبوكية ويقوم باستعراض عضلات هذا الطرف الإيديولوجي أو ذاك، ولكن الأمر أعقد من ذلك بكثير.
وأيضا ليس من يدافع عن الدارجة هو الحداثي الأول في البلاد ضرورة، ومن يدافع عن العربية الفصحى هو المتزمت الأكبر، وإنما المطروح اليوم هو حاجتنا كبلد وشعب إلى سياسة لغوية حقيقية تستحضر طبيعتنا المتعددة، ومميزاتنا الثقافية واللغوية والحضارية، وأيضاً تطلعاتنا في التعليم والتنمية والاقتصاد وغير ذلك.
المسألة اللغوية، علاوة على ما سبق، هي ليست موضوعا مستجدا اليوم، ولكنه طرح من قبل ضمن تجارب سياسية ومجتمعية كبرى لشعوب ودوّل أخرى، وتبلورت بشأنه رؤى وسياسات، كما خطت بلدان في أوروبا وأمريكا طرقا لتدبير هذه الإشكالية لفائدة شعوبها، وألفت بشأن الموضوع كتب عديدة ومنهجيات بيداغوجية وتصورات فلسفية…
وفِي المغرب، بالرغم من أن الموضوع لم يكن حاضرا بقوة في التأطير السياسي والفكري العام للقوى السياسية، سواء في فترة الحركة الوطنية أو في بداية الاستقلال، فإن آراء عديدة واجتهادات فكرية ولسانية أنجزها باحثون ومفكرون طيلة سنوات.
وكل هذا يمثل تراكما معرفيا، كونيا ووطنيا، تستطيع بلادنا أن تبني عليه وتنطلق منه من أجل انكباب جدي على صياغة سياسة لغوية متكاملة تستحضر الواقع والمستقبل، وتنطلق من النص الدستوري المتصل بالموضوع، وأيضا من المعطى الحقوقي الكوني المنتصر للالتزامات المرتبطة بالحقوق اللغوية والثقافية.
يعني ما سبق أن الأمر جدي فعلا، ويتعلق بحاجة بلادنا إلى سياسة لغوية حقيقية بلا ارتجالية أو عشوائية أو تجزيئ.
من جهة ثانية، لا أحد ينكر اليوم أن نظامنا التعليمي الوطني، في كل مستوياته، يعيش الكارثة منذ سنوات طويلة، وليس فقط من حيث مستوى تملك كل اللغات أو من حيث لغة التدريس وحدها، ولكن من كل الجوانب، وهو ما أفضى اليوم إلى وجود أزمة عميقة ومركبة، ومن ثم فربط ذلك اليوم فقط بالدارجة والفصحى ليس سوى ضحكا على الذقون أو تهربا من النقاش الحقيقي.
إن الإصلاح الحقيقي والعميق للتعليم يقتضي اليوم حديثا صريحا وقرارات شجاعة وتحديد المسؤوليات ومحاسبة الكثيرين، ثم التأسيس، تبعا لذلك، لطريق جديدة تكون بمثابة ثورة حقيقية في هذا الميدان.
وفضلا عن حاجة بلادنا إلى سياسة لغوية حقيقية، وأيضا الضرورة الملحة والمستعجلة لإصلاح عميق لكامل نظامنا التعليمي والتربوي، وفِي كلا الورشين الاستراتيجيين تحضر، بداهة، مسألة اللغة بشكل محوري وأساسي، فإن للموضوع انعكاسات أخرى تتصل بالواقع الاقتصادي للبلاد ومستوى الوعي المدني والمواطني العام وسط شعبنا، وخصوصا بالسياسة الخارجية لبلادنا وتموقعها الإستراتيجي.
الجدل الذي برز في الأسابيع الأخيرة سعى بعض المتزمتين إلى تحريفه وجره عسفا إلى المقدس، كما أن بعض المقاربات عرضت الأمر ضمن رؤية ماضوية رجعية تنتصر للانغلاق اللغوي والثقافي و…التزمت.
الإشكالية اللغوية عندنا تتطلب الكثير من الانفتاح والاجتهاد والمعرفة والشجاعة.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top