أفلام تطرح قضايا وجودية وتصل بالصراع بين الأفكار إلى ذروته

دقات القدر لمحمد اليونسي

يتأكد من خلال الشريط السينمائي الطويل “دقات القدر” للمخرج محمد اليونسي؛ وفاؤه للسينما التي تطرح قضايا كبرى ذات بعد سياسي أو ديني، حيث استحضر فترة من تاريخ المغرب، تتجلى في مقاومة الاستعمار الإسباني، وتوقف بهذا الصدد عند انعكاسات حرب الريف، التي استخدم فيها المستعمر أسلحة محظورة، الشريط مقتبس عن رواية بعنوان “السمفونية الخامسة”، ولذلك كان من الطبيعي أن تتخلل مشاهد الشريط مقاطع من الموسيقى الكلاسيكية، مما أضفى إيقاعا خاصا ومسحة من الجمال على الوقائع التي كانت تتسم بالتمرد على العدو الأجنبي وعلى من يتواطأ معه من أبناء البلد، وما يستتبع ذلك من أشكال متعددة من العقاب، وهو ما طبع بنوع من الحركية الجذابة إيقاع الشريط الذي كادت قتامته الطاغية على أغلب مشاهده أن تضاعف من رتابته وبالتالي إصابة المتفرج بالملل، علما بأن الخط التصاعدي لتطور الأحداث كان يتم ببطء، وفي أحيانا كثيرة كانت تبدو عجلة الزمن متوقفة تماما. غير أن حادثين أساسسين سيجسدان بوضوح الصراع ضد المستعمر: الاحتجاج على المواطن المغربي الذي قبل أن ينصبه الاستعمار الإسباني قائدا على الدوار، سيما وأن عائلته عرفت بمقاومتها للمستعمر، الاحتجاج كذلك على مواطنين مغاربة قبلوا بدورهم الخضوع إلى المستعمر، من خلال الانصياع للتطوع من أجل المشاركة في الحرب إلى جانب الإسبان، أما الواقعة الأخرى فتتجسد في رفض مواطنة مغربية أن تصير راهبة وأن تخضع للتعاليم المسيحية التي يفرضها الاحتلال.
يتجسد في هذا الشريط إذن، الصراع الديني والسياسي، لكن دون أن يتم إثقال الوقائع والفصول بالخطابات التقريرية التي تترجم هذا الصراع، بل تم ذلك بأسلوب حكائي بسيط يعتمد على اختزال المعنى مع إشارات مقتضبة ولماحة.
كما سعى هذا الشريط إلى استبطان دواخل شخوصه، وذلك الألم الدفين الذي يسكن أعماقهم نتيجة الاحتلال، وبالتالي كان الطرح الوجودي حاضرا، مثلما تم طرح قضية مصير الإنسان بعد الموت، تمثل ذلك في حالة احتضار أحد المستعمرين الإسبانيين الذي شارك في الحرب، وما رافق حالة الاحتضار من محاولة التطهير الذاتي. في ظل هذه الأوضاع القاتمة، كان يتم خلق فسحة من التخيل والمشاهد الحالمة لأجل تكسير الخط الحكائي، من خلال الغوص في بعض الأحلام الوردية بالأحرى، من قبيل ذلك المشهد الراقص الذي جسدته إحدى بطلات الفيلم بأسلوب رشيق، خاصة وأنها كانت ترتدي حينها فستانا أحمر تلهو به الريح بشكل متناغم مع أداء الرقص ومع العزف الموسيقي، وهو ما أضفى جمالية أخاذة على هذا المشهد ككل، كما تم استحضار مشهد الحصان الذي يركض بخفة على الشاطئ، كل ذلك له إحالة معينة تتمثل في محاولة الانعتاق والتحرر والانطلاق، في وضع اجتماعي ضاغط نتيجة الاحتلال دائما.
تم التركيز في نهاية هذا الشريط على قيمة التاريخ باعتباره يقوم بحفظ وقائع وأحداث غير قابلة للنسيان، ولعل “دقات القدر” ينخرط في هذا الجانب التوثيقي، من خلال تمحوره حول حقبة معينة تتمثل في مقاومة الاستعمار الإسباني.

نذيرة لكمال كمال

تحفة أخرى من التحف السينمائية للمخرج كمال كمال، عرضت ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، يتعلق الأمر بفيلمه السينمائي الطويل “نذيرة” وهو اسم البطلة التي تظهر لوحدها على امتداد عمر الشريط الذي تبلغ مدته تسعين دقيقة، أغلب المشاهد تدور في زنزانة، حيث تقضي البطلة حكما بالسجن المؤبد نتيجة اعترافها بارتكابها لجريمة قتل، لكن سيتبين بعد ذلك أنها لم ترتكب تلك الجريمة وأنها كانت في واقع الأمر تعمل بقسم المخابرات متخصصة في تصوير الحياة الحميمية لرجال السلطة، من أجل الضغط عليهم في حالة أرادوا استعمال سلكتهم لقضاء أغراضهم الخاصة، وأنه كان لا بد من الزج بها في السجن، حتى قبل أن يتم عرضها على المحكمة، وذلك مخافة من أن تقوم بتسريب تلك الأسرار، بعد أن تمت محاكمة رئيسها بهذا الخصوص، كانت تعتقد أن الحكم سيكون مخففا غير أنها صدمت بتلقيها السجن مدى الحياة، وبالتالي كان عليها أن تتأقلم مع الوضع الجديد.
حياة كاملة ستجسدها البطلة نذيرة في هذه الزنزانة، حيث الوقت لا يصير له أي معنى، وحيث أن على السجينة أن تخلق إيقاعها الحياتي الخاص الذي يساعدها على تحمل العيش مدى الحياة في الأسر، وإن كان يكسر هذا الإيقاع الزيارة المتكررة لزميل لها في العمل، يتقاسم معها الأسرار الخطيرة للمهنة، والتي بسببها يمكن أن يتعرض صاحبها للاغتيال أو في أحسن الأحوال للسجن ظلما، كان هذا الزائر يوفر للسجينة كل حاجياتها، كما أنه كان يفتح معها حوارا متواصلا، يتعلق بالأسرار التي يتقاسمانها، مما كان يجعل الأسر محتملا إلى حد ما، غير أنه مع ذلك ستقوم السجينة بمحاولة للفرار عن طريق إحداث حفرة بالاستعانة بملعقة وستبوء محاولتها بالفشل، وقد ساهم هذا الحادث في خلق دينامية داخل فضاء الزنزانة، وبالتالي تكسير الخط الزمني البطيء لتطور وقائع الشريط، كما ستقوم السجينة بملء وقتها بعدة أشياء مسلية، من خلال التواصل مع العالم الخارجي عن طريق النظر من النافذة المفتوحة على السماء، حيث النجوم المتلألئة الباعثة على الحلم والتخيل، كما قامت بتدجين أحد الطيور الذي كان في البداية يقوم بزيارات خاطفة لالتقاط الفتات، قبل أن يستأنس إليها ويبدأ في التقاط الطعام من يدها، انشغلت بالرسم وتفكيك الساعات وإعادة تركيبها، بل تمكنت في أحد الأوقات من أن تصنع من عقارب الساعات آلة حادة كانت تفكر في أن تستخدمها للقتل، صنعت الخمر وسكرت، أصيبت بالجنون، طلت وجهها بالمساحيق والصباغة لتبدو جميلة، رغم أنها لم تكن تمتلك مرآة، إلى غير ذلك من الأفعال والممارسات التي كانت تستعين بها لقتل الملل، غير أنها ستقع في حالة إحباط أدى بها إلى محاولة الانتحار، دون أن تنجح هذه المحاولة، وستكون خاتمة هذا الشريط ترديدها أبيات شعرية ذات بعد وجودي، تترجم حالة الإنسان المتمرد على كل أشكال التسلط.

قلق لعلي بنجلون

استطاع علي بنجلون في فيلمه القصير “قلق” أن ينقل هذا الإحساس الذي يستولي على الإنسان حين يكون ضحية ابتزاز، سيما وأن الأمر يتعلق بمصير استقراره العائلي، حيث سيدعي أحد الشبان أنه اغتصب شرف الفتاة التي ينوي الزواج بها وأنه بالتالي اغتصب شرفه وبا لتالي عليه أن يؤدي الثمن، وأكد له أنه يتوفر على تسجيلات لعلاقتهما الحميمية.
هكذا سيظل يتابعه ويهدده في كل مكان وفي كل الأوقات، خصوصا عندما يكون في بيته مع زوجته وأبنائه، ليعكر صفو حياته، إلى أن يصاب الزوج بالإحباط ويعترف لزوجته بالحقيقة، وهنا ستأخذ الزوجة قرارا بأن يوقع التزاما بالموافقة على عدة شروط في حالة تم الطلاق بينهما، سيما وأنه كانت له سوابق في الخيانة الزوجية.
مشاهد عديدة من هذا النوع من الصراع والبحث عن مخرج من الورطة التي أوقع الزوج نفسه فيها، سيضفي على الشريط حركية خاصة، ويدخله بالتالي في خانة أفلام المطاردة، إذا صح التعبير، وستتولد عن ذلك وقائع طريفة، بصفة أساسية حين يتوصل الزوج بالمكالمة الهاتفية من طرف الشخص الذي يبتزه وهو بجانب زوجته، حيث يضطر إلى التمويه على حقيقة هذا الاتصال من خلال الادعاء بأن الأمر يتعلق بالعمل، علما بأنه يشتغل في سلك المحاماة.
تم تجسيد المعاناة النفسية بدون تكلف، واستمر ذلك في خط تصاعدي، خصوصا بعد الاعتراف للزوجة بحقيقة الخيانة، حيث ستصل الأزمة الزوجية إلى ذروتها، ولعل الشيء الأساسي الذي أراد هذه الشريط أن يبلغه، هو أنه ينبغي إبعاد الأبناء عن دائرة هذه المشاكل، خصوصا إذا كانوا أطفالا صغارا، كما في حالة هذه الأسرة، حيث أنه بالرغم من تأزم العلاقة بين الأبوين، فهما كانا حريصين على إخفاء هذا الوضع في حضرة أبنائهما، حتى لا تتأزم نفسيتهم ويكون لذلك تأثير على مسارهم الدراسي.

سفسطة لعبدو المسناوي

يمكن القول إن الشريط القصير “سفسطة” للمخرج عبدو المسناوي، يعد من الأفلام التي تطرح قضايا فلسفية، قضايا تتعلق بالوجود والموت وما إلى ذلك، كما يتم طرح الجدوى من الفلسفة في حد ذاتها، حيث سيصادف تلميذ سابق إحدى مدرسات الفلسفة، وسيضرب معها موعدا للقاء بالمؤسسة التي كانت تدرسه بها، وهنا ستقع المفاجأة، حيث سيهددها بالقتل ادعاء منه أن دروسها الفلسفية زرعت الشك في رأسه وزعزعت عقيدته، مما جعله يعيش في أزمة نفسية، وردد المقولة الفلسفية نفسها التي كانت تلقنها لتلاميذها والتي مفادها أن الفصل الأخير سيكون مأساويا مهما كانت الفصول الأخرى سعيدة، في إشارة إلى الموت، حيث بات يهدده بها ليصفي حسابه معها.
لقد استطاع هذا الشريط المقتبس من قصة قصيرة للكاتب المغربي فؤاد العروي، بعنوان “ربع ساعة للفلاسفة”، أن يجسد لنا الصراع بين فكرتين: إحداهما تجسدها أستاذة الفلسفة بما يعني ذلك من استخدام للعقل في النظر إلى الوجود، والفكرة الأخرى يجسدها التلميذ السابق الذي يجد راحته في ما أتت به العقيدة الإسلامية من تعاليم؛ بدون إعمال للفكر في المسائل الوجودية التي قد تؤدي إلى العدمية من منظور الفلسفة الغربية، حيث تم بهذا الصدد استحضار أسماء مجموعة منهم، على رأسهم الفيلسوف الوجودي نيتشه.
وكعادة الأفلام القصيرة، كان لا بد من خلق تلك النهاية الصادمة، إذا جاز التعبير، وتجلى ذلك في إخبار التلميذ السابق لأستاذته بأنه يشتغل حاليا هو الآخر مدرسا للفلسفة، بعد أن كنا نعتقد أنه يمقت هذا التخصص بالذات.

> مبعوث بيان اليوم إلى طنجة: عبد العالي بركات

Related posts

Top