أمين ناسور… المخرج المجدد في فرجة البساط

في سياق المهرجان الوطني للمسرح في دورته العشرين المنظم بمدينة تطوان من 07 إلى 14 دجنبر 2018، احتضن فضاء سينما إسبانيول بتطوان عرض مسرحية “لمبروك” لفرقة ستيلكوم وإنتاج المسرح الوطني محمد الخامس لموسم 2018/ 2019.

قدم المخرج أمين ناسور رفقة ثلة من أبرع الممثلين المغاربة: عبد الله ديدان، وسيلة صابحي، فريد الركراكي، نجوم الزهرة، لطيفة احرار وهاجر الشركي، عرضا مدهشا أمتع جمهور الحاضرين بتجاوزه وخرقه للقوالب المعتادة، فإذا كانت الأقلام النقدية قد وصفت تجربة المخرج سابقا بالمؤسلبة أحيانا أو مسرح الوسط (1)، فوقائع الركح أثبتت الرؤية أخيرا لتفرج عن مسمى التجربة وهو “البساط الجديد”(2).

لقد جمعت الفرجة المسرحية في “لمبروك” بين الإمتاع والإقناع، فحبلت في ثناياها بجماليات ركحية لا يمكن إنكارها، تكاملت فيها الجهود بين تصور إخراجي محكم وأداء ركحي مدهش وصورة مشهدية  مشبعة للبصر..

ترتكن تجربة “لمبروك” إلى تصور “بساطي جديد” يحمل مشروعا فرجويا واضحا، هدفه خلق الفرجة الشاملة (رقص، غناء، تشخيص..) على أساس استحضار صفة الترفيه التي رفعها البساط القديم (بساط ترفيهي)، فيما تم تجاوز إشكالية الشكل المسرحي في رؤيته التجديدية ليتحمل عبئ الرسالة الهادفة في قالب فرجوي رائق، لقد اكتملت جمالية التصور الإخراجي بتكامل أساساته، بعد تراكم مجموعة من التجارب في مسرحيات سابقة: “نايضة”، “اللعب”، “باركيغ”، “قتلني امعلم”….، ليشكل “لمبروك” خلطة فرجوية ممتعة.

يطرح البساط الجديد فكرة الهجرة، كأساس يحرك شخصيات الفرجة التي تسعى من خلال مجموعة من اللوحات سرد رغبتها في الهجرة والبحث عن الضفة الأخرى انطلاقا من واقعها المؤسف، تتصادم الرغبة في الهجرة مع واقع النصب باسم الحب والدين… الخ، لتصادر الكرامة أمام أوهام زائلة بالذهب والثروة والبذخ، وهكذا “تعيش الشخصيات مختلف أصناف التفاهة الإنسانية، حيث تصبح العلاقة بين الذكر والأنثى ممسوخة وقائمة على الاستغلال، كما أن المصالح الفردية هي التي تسود”(3). وفي ضخم هذا المخاض تظهر الخرافة والنصب بانتظار لمبروك، من أجل الخلاص الزائف والمحال، تتابع اللوحات الفرجوية ضمن سياق فكرة العبور والانتظار لتنعطف الفرجة مع إعلان الشخصية / وسيلة: “باراكا.. نشوفو فدواخلنا”، تتحول بعدها أجواء الهزل إلى حالة من الجد لتضع أمامنا مأساة الانتظار وقسوته.

لقد ضمت المسرحية من بدايتها إلى حدود الحوار / المنعطف تتابعا منعشا من الفرجات، وهي في الواقع توليفة بحث أنثروبولوجي تطبيقي في أشكال فرجوية موسيقية أصيلة، فبين إيقاعات كناوة، الهواريات، ونفحات الملحون، تطورت رقصات وبزغت استخدامات تقنية ذكية، حولت بعض الشخصيات النسائية “المهراز” لإكسسوار وأداة موسيقية، وأما بالنسبة لتلوينات اللعب المسرحي فقد تميزت باستحضارات ذكية لنموذج حديدان وباقشيش بدون إشارة اسمية مباشرة، وتركت للباحث والمهتم فرصة التعرف عليهما من خلال المعالم الأدائية الظاهرة، شخص عبد الله ديدان نموذج حديدان، المعروف بذكائه وحيله الواسعة.. فيما أبدع فريد الركراكي في تمثل نموذج باقشيش، ذلك الأقل فهما، خلق هذا الفارق مفاجئات ومواقف ممتعة في سياق المسرحية، ولا يمكن هنا أن نتجاوز استحضار مفهوم اللامعقول في أداء الممثلين حيت ينفصل الملفوظ عن ذات وأداء المتلفظ ليخلق مفارقة عجيبة تعزز من جمالية الأداء. 

طوع البساط الجديد فضاء الركح برؤية سينوغرافية مبتكرة، فاختار السينوغراف أنوار الزهراوي طريق السهل الممتنع، ليصمم “طرا / بنديرا” كبيرا سيتم استثماره في كل مراحل العرض، ويكفي أنه قرب بصريا مفهوم “الحلقة”، حين تم فتح “الطر/ البندير” إلى نصفين وتحول إلى محدد لفضاء اللعب ترتع الفرجة داخله، وإذا كانت الشخوص تنقر آلاتها الموسيقية (الدربوكة، التعريجة)، فجواب السينوغراف هو تحويل أجساد الممثلين إلى نوتات بصرية تؤدي فرجتها من خلال الديكور الحلقي  “الطر/ البندير”.

اما في شق الزي المسرحي فقد ابدع المصمم د. طارق الربح في تحقيق رؤية مميزة جمعت بين الوفاء لروح البساط والسعي نحو تجديد وظيفي، فكانت الأزياء خفيفة الوزن مقارنة مع المألوف، فيما حملت في ثناياها لمسات مهمة، فاستثمرت الثوب البراق الذي يتفاعل وتصميم الإضاءة المسرحية للإضائي عبد الرزاق أيت باها. استثمر الزي أيضا تفاصيل الشكل التقليدي في الملبوس النسائي المعروف دون الوقوع في الابتذال، فكان الجمالي في خدمة الوظيفي خاصة وما يتطلبه أداء الممثل في فترات الرقص، ونذكر هنا رقصة هوارة وجمالية تكامل الأداء بين الجسد والقفطان. كان من بين ما تميز به الزي هو استخدام السلاهم الشفافة التي تسمح بكشف تفاصيل القطع الملبسية وتثمين صفاتها. 

بموازاة مع الصورة المشهدية حضر المسموع بطريقة فاعلة.. فأبدع الموسيقي ياسر الترجماني في التعبير الواضح عن مفهوم دراماتورجيا الموسيقى في أدائه المميز عبر مرافقة عمليات التشخيص وتثمين لحظات الأداء الركحي الحاسمة، بل وخلق امتدادات نفسية مع بداية ونهاية المسرحية، وما يرافقه بصريا من صورة مشهدية يغلب عليها الغموض وبعث الرهبة في المشاهد.

لقد تكاملت الفرجة المسرحية في البساط الجديد في إطار الإبداع المتكامل، فطوع كل عضو من الفريق معارفه وخبراته لصقل شكل مغربي أنيق في الفرجة المسرحية. وإذا كان من غير اللائق البوح بأسرار الكواليس المسرحية، فلماذا لا نكسر العادة هذه المرة بسرد رأي الدكتور حسن المنيعي حين قال: “أنا أتنبئ  لأمين ناسور بأن يكون مخرجا كبيرا، عالميا، لكن ينبغي له ألا يحشر نفسه في أعمال وسياقات دون مستواه، وأظن أنه يحتاج للتركيز والاستقرار في فريق دائم لتطوير تجربته”(4). إن شهادة أستاذنا حسن المنيعي لأكبر دليل على أهمية تجربة المخرج أمين ناسور، هذه التجربة التي نبتت من معرفة عن قرب بشكل الاشتغال في البساط، وأحيل هنا على أب البساط المغربي المرحوم الطيب الصديقي، القائل في سياق علاقة المسرح المغربي بالشكل الغربي للمسرح: “هذه الاستفادة ضرورية، لكنه يجب التعامل بحذر حتى لا نسقط في متاهة إعادة واستهلاك صيغ مسرحية لا تمت إلى واقعنا بصلة… كما أنه يجب الابتعاد عن الصيغة الغربية التي تلائم الغربيين وأن نتفتح عليها في نفس الوقت وقدر الإمكان حتى لا نكون منغلقين ومتقوقعين”(5).

لقد تفوق الفنان المخرج أمين ناسور في تجربة البساط الجديد على نفسه، وأفسح المجال لخلق تساؤل مسرحي جديد، يتعدى بوتقة التأصيل إلى تمثل الفرجة وجدانيا والبحث في سياقات وأشكال تثمن الموروث الفرجوي المغربي مع التأكيد على ربط سؤال الهوية بقضايا المجتمع الحارقة. 

إحالات وهوامش: 

1- تم استخدام صفة الإخراج المؤسلب من طرف د. حسن اليوسفي في مقالة حول تجارب الإخراج المغربي، أما صفة مسرح البين بين أو مسرح الوسط فطرحها عبد الإله بنهدار في كتاب جماعي من إعداد عبد الجبار خمران بعنوان “مخرجون وتجارب في المسرح المغربي المعاصر”.

2- مصطلح “البساط الجديد” جاء في ملصق المسرحية وهي صفة أطلقها المخرج على تجربته.

3- يمكن الرجوع لملخص المسرحية المنشور في كتيب المهرجان الوطني للمسرح الدورة 20.

4- رأي انطباعي بعد مشاهدة الدكتورحسن المنيعي لعرض “شابكة”  للمخرج أمين ناسور على هامش مهرجان طنجة المشهدية 2018.

5- حوار مع الطيب الصديقي، جريدة المستقبل 27 ماي 2000.

> بقلم: أسامة السروت

Related posts

Top