أنت ابن محيطك

قل لي من هم المحيطون بك على كافة المستويات، لأقول لك: من أنت. أنت ابن محيطك، لذا اجتهد في اختيار ما يناسبك وينهض بك، لا ما يحط من قدرك أو يغفل قيمتك. وعيت بهذا بعد سنوات طوال، وأحاول قدر استطاعتي وجهدي نقله لأبنائي، بل أنشر الفكرة بين صديقاتي وجيراني بلا ملل من تكرار ذات الجمل التحذيرية في ضرورة انتقاء المحيطين بنا بعناية فائقة. البيئة الثقافية المحيطة بالكتّاب والمبدعين تساعدهم كثيرا على أن يكونوا أكثر إبداعا وعطاءً، فالنجاحات معدية، والفشل كذلك، بل هو أكثر عدوى مما نتخيل.
والوسط الطبي الباهر في اكتشافاته؛ نهل الطبيب الصديق من الكتب والمراجع العلمية، والنهم للدراسات العليا، والتحصيل الدراسي والمهاري، والمعرفي، تنتقل إلى صديقه بالحتمية التي لا تقبل الجدال والمناقشة.
في الفن معتقد بأن المشهد الرائع إذا اجتمع فيه فنان كبير مبدع مع صغير مبتدئ، يعلو المشهد ويتحول إلى حلبة مصارعة بين الأداء التمثيلي النابض وحديث العيون، لغة الجسد المعبرة، استخدام الوجه كذلك، أكثر من ممثل قال لي: في بعض المشاهد أمام العمالقة كنت أستمد روعة التمثيل التعبيري من هذا الفنان الكبير.
مقولة مصرية شهيرة أعتقد أنها كانت مثلا شعبيا، “من جاور السعيد يسعد، ومن جاور الحداد ينكوي بناره”، فالنار المتطايرة من محيط مشتعل، ناكر للمواهب غالبا ما تحرق من تطاله، لا تبقي ولا تذر.
أعترف لأمي وبكل حيادية أنها لا تحمل مكرا يجنبها الوقوع في الأخطاء وربما الكوارث، وورثت أنا ذات الطبع العفوي الجالب للمشكلات.
بيد أن أمي بالخبرة والسليقة طلبت مني يوما ما، ضرورة الابتعاد السريع عن صديقة الطفولة، وعدم العودة للحديث معها أو عنها بعد ذلك، فحين تزوجت صديقتي من رجل يكبرها في السن كثيرا، وليس في نفس مستواها التعليمي والثقافي، على الرغم من تفوق مستواه المادي عليها وعلى ممتلكات أسرتها بأكملها، خشيت أمي من انزلاقي لتفكير مادي يخلو من تكافؤ بين الزوجين، يقوم على عدة أسس بالطبع ليس المال إحدى مفرداتها.
قالت لي أمي بشدة وصرامة، وعينين لا تعرفان الابتسام في هذا الموقف الذي وصفته بالحدث الجلل: أنت ابنة محيطك، الآن تتشكل حياتك كلها، تعيدين اختيارات أصدقائك من جديد، كل إنسان لديه قدر يصنع منه شيئاً، والشخص ذاته يصنع من المواقف حياة.
أربكت أمي حساباتي كلها، ابتعدت عن تلك الصديقة، لكنني أعدت ترتيب جميع مشاهد حياتي من جديد، صرت أخاف الصحبة التي لا تقرأ، فهم لا يعرفون غير الجهل وتكريسه، كل من يصاحبك يجب أن يشبهك في معظم صفاتك، أو يعلوك قيمة.
تذكرت كلمات أمي ودخلت في نوبة ضحك هستيري وأنا أستمع لكلمات روائي كبير وناقد أدبي لا يستهان به، يقول لي: لا أفرط في قبول طلبات الصداقة على (الموقع الأزرق) الفيسبوك، بل أدقق جيدا في من يدخل عالمي، فإذا كان على صفحة أحدهم فتيات (….)، لا أقبل صداقته، فلا مكان لعهر الفكر والجسد عندي.
وإن كان يفرط في تعليق بعض الصور الدينية والأحاديث الضعيفة، فهو يخفي فسادا أخلاقيا رهيبا، يردم نتوءات وحفرا نفسية وأخلاقية ببعض التسبيح المستعار، كأصلع يرتدي باروكة شعر ملساء!
عدد الروائي الكبير أمثلة لا تتسع الأسطر لذكرها لكنه أصاب كبد الحقيقة الذي أشارت إليه أمي من قبل، وبأصابع بريئة ظلت تشير إليه وهي تنير لنا طريق الصداقات بين الحين والآخر، تمسك بمصباح واهن، تشعل الفتيل لتنير عتمة علاقات تخشى أن تجرنا إلى مشكلات، ربما ينهار معها الكثير من المبادئ والقيم التي غرستها بصبر وأناة.
اِختر محيطك، لتتجنب نصف مشاكلك، واصمت كثيراً، اِستمع أكثر مما تتكلم لتتجنب النصف الآخر، وانقل تجاربك إلى أبنائك دون ضغط، دعهم يتخيروا بحرية حذرة، وليس قهرا مغصوباً.

رابعة الختام كاتبة من مصر

الوسوم , ,

Related posts

Top