إشكالية الهندسة اللغوية بين يدي مهندسي التشريع

أحالت الحكومة يوم الأربعاء 5 شتمبر2018، على مجلس النواب القانون الإطار رقم 17.51، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛ والذي تمت إحالته على أنظار  لجنة التعليم والثقافة والاتصال يوم الأربعاء 12 شتمبر 2018؛  من أجل قراءته وتقديم؛  التعديلات المقترحة قبل المصادقة عليه، وذلك بعد أن صادق عليه كل من المجلس الحكومي بتاريخ يوم 4 يناير 2018، والمجلس الوزاري في 20 غشت 2018.

وقد ظلت أنظار الإعلام و الملاحظين والرأي العام الوطني، مشدودة إلى مناقشات النواب لفحوى هذا القانون؛ سواء المنتمية منها للأغلبية الحكومية أو للمعارضة.

غير أن ما أثار الانتباه أكثر في هذه الإحالة؛ هو المناقشة التفصيلية التي انطلقت يوم الأربعاء 16 يناير 2019 بلجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، والتوضيحات والإجابات التي قدمها وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، وتدخلات رؤساء الفرق البرلمانية، وتفاعلات السيدات والسادة النواب وتساؤلاتهم.

كانت التخمينات الأولى كلها تصب في مساندة الفرق البرلمانية الموالية للأغلبية لمشروع القانون، مع توقعات بمعارضته كليا أو جزئيا من لدن فريقي المعارضة الكبيرين فقط؛ الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية وفريق الأصالة والمعاصرة.

لكن هذه التكهنات تهاوت بسرعة فائقة بعد انقلاب الفرق النيابة على اصطفافاتها التقليدية القديمة، وتحولها إما من الأغلبية نحو المعارضة، أو من المعارضة نحو الأغلبية.

يتعلق الأمر بكل من فريق العدالة والتنمية الذي يقود حزبه الأغلبية الحكومية، وفريق الأصالة والمعاصرة القابع في المعارضة.

لفت فريق المصباح الأنظار  بتحوله من داعم للحكومة ومساند لحزبه الذي يترأسها، إلى معارض شرس للقانون الإطار رقم 17.51، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛ لاسيما المواد 31 و48؛ المتعلقتين بتدريس اللغات ولغات التدريس، ومسألة إلغاء المجانية عبر مساهمة الأسر الميسورة في أداء رسوم التسجيل في القطاع العام في مؤسسات التعليم العالي كمرحلة أولى، وفي التعليم الثانوي التأهيلي في مرحلة ثانية.

لينتصب السؤال الإشكالي الآتي:

ألا ينتمي وزير التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي سعيد أمزازي إلى الأغلبية الحكومية؟

أليس الدكتور سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية هو رئيسه المباشر في المجلس الحكومي؟

ألم يحظ القانون الإطار رقم 17.51، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛ بموافقة المجلس الحكومي يوم 18 يناير 2018؟

ألم تصادق الأغلبية البرلمانية المساندة للحكومة على التصريح الحكومي؟

أليس من العبث، قبول أعضاء الحزب الأغلبي بصفتهم الوزارية- الحكومية، القانون الإطار  في المجلسين الحكومي والوزاري، واعتراض نوابهم عليه في لجنة التعليم والثقافة والاتصال؟

لكن؛ هل الأغلبية البرلمانية مبرمجة أوتوماتيكيا من قبل أحزابها المشكلة للتحالف الحكومي للتصويت على قراراتها والامتناع عن رفضها دائما في البرلمان؟

أليست السلطة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية؟

وهل تساند الأغلبيات البرلمانية أحزابها في الديموقراطيات العريقة دائما؟

ألم يصوت نواب رئيسة الوزراء البريطانية من حزب المحافظين في بريطانيا ضدها في قضية البريكسيت وهم يتقاسمون معها الحزب نفسه؟

وفي أمريكا، ألا يصوت الجمهوريون ضد قرارات الرئيس ترامب وهم  معه في الانتماء للحزب نفسه؟

ثم؛ هل رفض نواب البيجيدي القانون الإطار رقم 17.51، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي برمته؟

ألم يحتج الفريق البرلماني؛ أو بالأحرى أعضاء لجنة التعليم والثقافة والاتصال على المادة 48  فقط؛ والتي تفرض على الميسورين أداء رسوم التسجيل في القطاع العام بمؤسسات التعليم العالي كمرحلة أولى، وفي التعليم الثانوي التأهيلي في مرحلة ثانية؟

ألم يحتجوا على التضارب بين مضامين المادة  2 والمادة31 من القانون الإطار؛ حيث تتحدث المادة 31 عن تدريس بعض المواد لا سيما المواد العلمية بلغة أو لغات أجنبية خلافا لما تنص عليه المادة 2 من القانون نفسه والتي عرفت التناوب اللغوي بأنه  “مقاربة بيداغوجية وخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس، وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية، قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها”؟؟؟

ألم ينضم نواب فريق الأصالة والمعاصرة للعدالة والتنمية والفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية في رفض المادتين؟

ألم تنقل الصحافة عن إحدى عضوات فريقه قولها  يوم 30/1/2019 : ” نحن مع التعددية اللغوية، ولسنا مع التناوب اللغوي ومصوغاته” وقولها أيضا: “هل اللغتان العربية والأمازيغية قاصرتان، وليس بإمكانهما تدريس العلوم، أم إن هناك حيثيات تطبع المرحلة؟”

لقد انتقدت  بعض الأحزاب السياسية لاسيما العدالة والتنمية، التي اتهموه بالازدواجية في الخطاب والممارسة؛ بل هناك من قال إن عددا من المنتمين للعدالة والتنمية بحكم عضويتهم بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي؛ صادقوا على الرؤية الاستراتيجية حين نوقشت هناك؛ كما وافقوا عليها بالمجلس الحكومي والوزاري، وأتوا لمجلس النواب من أجل الشعبوية ودغدغة المشاعر واستمالة الناخبين في أفق الانتخابات التشريعية المقبلة؛ وكأن الأمر يتعلق بتبادل الأدوار فقط.

وقد وجه نقد قاس لحزب الاستقلال أيضا، والذي خرج أمينه العام نزار بركة يتصريح قوي جدا معتبرا أن تدريس العلوم بالفرنسية “خطأ”.

وذهب بركة أبعد من ذلك. إذ قال في ندوة نظمتها مؤسسة الفقيه التطواني مساء الخميس بالرباط، إلى أن  تدريس العلوم باللغة الفرنسية في المدرسة المغربية “جريمة في حق التلاميذ وفي حق المغرب”، معللا موقفه بعدم توفر أستاذة مكوَّنين لتدريس العلوم باللغة الفرنسية. وقال أيضا:

“التلاميذ حين يصلون إلى الباكالوريا يكون عندهم مستوى التحضيري في اللغة الفرنسية، فكيف يمكن أن نجعل هذا التلميذ، بعد أن يتخرج، أستاذا وهو غير ضابط حتى لأبسط قواعد اللغة الفرنسية؟ هذا إجرام في حق التلاميذ، وفي حق مستقبل المغرب”.

الذين انتقدوا حزب الاستقلال وزعيمه نزار بركة؛ على الدعوة لتدريس العلوم باللغة الرسمية دستوريا؛ أي العربية؛ آخذوا الحزب بمسؤولية على التعريب الذي وفق نظرهم؛ فشل في المغرب بعد إقراره من لدن الوزارء الاستقلاليين؛ كما حملوه مسؤولية تدهور منظومتنا التعليمية وتقهقرها في التصنيفات العالمية.

ورد أمين عام حزب الميزان على متهميه بالقول: إن عملية التعريب “مرت بسرعة فائقة، ولم يتم تكوين الأساتذة تكوينا جيدا لأداء مهمتهم على النحو المطلوب، حيث يدرّسون بالدارجة المغربية عوض الفرنسية” ؛ كما أبعد الاتهام الذي يلاحق اللغة العربية بشأن تراجع المنظومة بالقول:

“من الخطأ أن نعتبر اللغة العربية مسؤولة عن فشل التعليم في بلدنا، ففشله يرجع إلى أسباب أخرى أوردها البنك الدولي في دراسته، ترتبط بالاكتظاظ وضعف الوسائل المادية وقلة الأطر الإدارية والتربوية، وترتبط أساسا بالبيداغوجيا”.

وقد احتدم النقاش حول القانون الإطار ووصل عنق الزجاجة؛ لاسيما بعد تباعد وجهات النظر بين أعضاء اللجنة المنتمين لحزب العدالة والتنمية والاستقلال والوزير الوصي على القطاع حيث سمعنا عن مشادات بين النواب والوزير؛ مما دفع الأخير  حسب وسائل الإعلام؛ للمطالبة بجعل جلسة اللجنة المعنية سرية بعيدة عن الصحفيين؛ كما تخلف أعضاء لجنة التعليم والثقافة والاتصال عن الحضور في الموعد الذي حدده  رئيس اللجنة يومه الثلاثاء 12فبراير 2019 صباحا لأجل المصادقة على مجمل التعديلات، التي تقدمت بها الفرق والمجموعات النيابية على مشروع قانون – الإطار المتصل بإصلاح منظومة التربية والتكوين؛ على الرغم من مجيء الوزير وكاتب الدولة.

وقد تداول الإعلام الورقي والالكتروني يوم 8 فبراير الجاري خبر  توصل الفرق البرلمانية لاتفاق بين الأغلبية والمعارضة ينهي الجدل حول مجانية التعليم ولغة التدريس؛ لاسيما بعد الاجتماعات التي عقدها رئيس مجلس النواب مع الفرق النيابية؛ بخصوص لغة التدريس، التي أثارت خلافا كبيرا، تم التوافق على الرجوع إلى مقتضيات الرؤية الاستراتيجية، كما صاغها  المجلس الأعلى للتربية والتكوين، مما يعني تقديم تعديلات تنص على تدريس (بعض المجزوئات) بلغة أو لغات أجنبية؛ لكن  وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي؛ عبر حسابه على الفايس بوك؛ نفى الخبر والاتفاق وذكر  أنه على” إثر تداول بعض المواقع الالكترونية و صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لخبر مفاده أنه قد تم الحسم في بعض مقتضيات مشروع القانون الإطار تبعا للتعديلات المقدمة من طرف الفرق البرلمانية. فإن الوزارة تنفي نفيا قاطعا هذا الخبر كما تؤكد على أنها لم تتوصل الى حدود الآن بأية مقترح تعديلات بخصوص مشروع القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي” 

ختاما؛ ستظل أبواب السؤال مشرعة ومشروعة حول مآلات القانون الإطار في الغرفة الأولى من البرلمان بعد المناقشات الصاخبة والقوية في لجنة التعليم والثقافة والاتصال؛ هل سيغلب المشرعون المصلحة العامة على المصلحة الحزبية الخاصة؛ هل ستعود الأغلبية الحكومية للانسجام بين مكوناتها كما كانت خلال مرور القانون بالمجلسين الحكومي والوزاري؟

هل سيجاري حزب العدالة والتنمية حليفه السابق حزب الاستقلال ويواصل حربه الصامتة الناطقة ضد التجمع الوطني للأحرار في إطار تدبير التنافس السياسي في أفق المستجدات السياسية التي ستحبل بها الأيام القدمة؟

هل يمكن لمطلب التعليم والتعلم باللغة الرسمية؛ لاسيما المواد العلمية، أن يصمد أمام تحديات سوق الشعل المتقلبة، ودعوات الخطب الملكية لملاءمة التكوينات مع سوق الشغل؟

هل سيتم التراضي حول صيغة ما تحفظ ماء الوجه، وتساعد على تمرير القانون الإطار في شكله الحالي مع تعديلات طفيفة؟

لاشك أن لمهندسي التشريع الكلمة الفصل في هذه المسألة التي لا يجب أن تأخذ منا وقت كبيرا لاسيما وقد مرت أربع سنوات على صدور الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين 2015/2030؛ مع تأكيد وجوب استقلال السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية.

< محمد بنلحسن*

* نائب كاتب عام الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب؛ ورئيس المركز المغربي مآلات للأبحاث والدراسات

Related posts

Top