إضاءة في جوانب من يوميات “واحد ـ صفر للقتيل”

ظهرت هذه اليوميّات في قائمة جوائز ابن بطوطة للأدب الجغرافيّ لموسم 2017/2018، فرع أدب اليوميّات.

في هذه القراءة الأوّليّة لـ “واحد ـ صفر للقتيل” للكاتب الجزائري كمال الرياحي، لا ندّعي أنها تفي بسبر الأغوار العميقة لهذه اليوميّات.

 ولكننا سنعمل ما أمكن على إضاءة بعض جوانبها، علّنا نساهم في لفت انتباه الناقد والقارئ المتمرّس إلى باب تسليط مزيد من الضوء عليها، وأيضاً تحفيز طالب الآداب إلى الالتفات إلى هذا الأديب صاحب روايات المِشرط (2006)، الغوريلا (2011)، عشيقات النذل (2015)، و دراساتٍ وأبحاثٍ مختلفةٍ، و مَتنٍ غزيرٍ يُغري ليس بالقراءة فحسب، ولكن بالبحث الجامعيّ والأكاديميّ. 

في يوميات الرياحي الجزائرية، سنقتصر على الوقوف على المحاور التالية:

ـ الطابوه الأخلاقيّ.

ـ توظيف تمثال ابن خلدون.

ـ الكتابة من منظور الرّاوي

1 ـ المسمار ما بعد الأخير في نعش الطابوه الأخلاقيّ:

مروراً بصورة الغلاف المُلغِزة، ثم بالعنوان، فإنّ ما يستوقفنا بغير قليلٍ من الاستغراب والدهشة هذا التساؤل لصديق الكاتب، الناقد والمقارِن الجزائريّ لونيس بن علي في تقديمه لليوميّات:

“هل هناك روائي عربي يملك جرأة كمال لكتابة يوميّاته بهذه الشفافية المُزعِجَة كلّها ؟”،  ويقينه الذي ما بعده يقين: “أن كتابة يوميّات بهذه الجرأة كلّها، وفي سياق مجتمعات مُراقَبة أخلاقيّا، هي بطريقة ما السير في اتّجاه سقالة الإعدام.” ص.7. 

أمّا وجه الغرابة والعجب في هذا التساؤل واليقين، هو أنها تَحدُث في نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، في ذروة تطور وسائل الاتصال التي كسّرت جدراناً سميكة من العزلة، وحقّقت كثيراً من الإستيهامات..

فكيف الحديث عن الطابوه الأخلاقيّ والحال “لأنني عرفتها قبل أن أصل الجزائر عبر الفايس بوك.” ص.116. و”كانت بمؤخّرة معقولة حسب الصور التي وصلتني.” ص.67.

ثم كيف الحديث عن “سقالة الإعدام”، وقد سافرتْ اليوميّات عبر مطارات قبل الوصول إلى البيضاء.

إنّ السرد العربيّ، والمغاربيّ منه على الخصوص، لم يعُد معنياًّ بالكشف عمّا كان يسمّى عورات. اللهم:

ـ استخفافاً بتاريخ عصيب من المُصادرة، وتنكّراً لمكتسبات حققها مبدعون عانوْا الأمَرّين في الجهر بالمستور. محمد شكري والخبز الحافي على سبيل المثال (كتبت 1972 ـ ترجمتْ إلى 38 لغة).

ـ أو إرضاءً للغرب الذي سيظل يحتفي بترجمة و إغذاق الجوائز على الأعمال المجتهدة في عرْض السَّوْءة. وهو يساوم في ذلك في مَبلغ تحرّر المجتمعات الشرقية، ويُغذي الصورة النمطية التي لا يريد أبداً أن يَخلعها عنها.

وإلاّ، فلماذا لا يلتفت الغرب إلى الأعمال الرّوائية التي تصيغ صياغة جديدة التاريخ الوطني والمحلّي، والذي للغرب الإستعماريّ إسهام كبير في سرقته ومسخه. (نموذج رواية سينترا لحسن أوريد، والمغاربة لعبد الكريم الجويطي).

ـ أو أيضاً الاستخفاف بالتحوّلات السريعة التي تعرفها المجتمعات العربية على مختلف الأصعدة، والتي التقطتها في حينها روايات غاية في الإخلاص، والمصالحة مع الرّاهن. (نموذج مطبخ الحُبّ لعبد العزيز الراشدي، هوت ماروك لياسين عدنان).

2 ـ ابن خلدونَ المدينة أضيَق من خُطاك:

 في غربته واغترابه، و أيضاً على حُبِّه للجزائر، لا يستطيع كمال صبراً على تونس الأرض الطاردة. ليس فقط لتركه ابنه هارون هناك، ولكن أيضاً لوفائه لصنّاع تاريخها وحنانه إلى عِزّ تونِس ومجدها ، وحرصه على ألاّ تبقى كذلك  في النشيد فحسب.

 ونحن نرى كيف يؤرّقه السير بها إلى الضياع، الضياع الذي سيتمظهر عند كمال في أحلامَ وكوابيسَ تعصف برمز عِزّ الدولة و مجدها: “حلمت البارحة بتمثال ابن خلدون يُسحَلُ في شارع بور قيبة.. يحمله أولائك الرجال الغلاظ ، ويرمونه في تلك البركة الملوثة.. رأيتُ جثّته تطفو على الماء، وفوقها الطحالب. كنت أشعر باختناق”. ص.43.

 ويُقيم مقارنة ساخرة بين تاريخ تونس وتاريخ الجزائر، بلد المليون ونصف شهيد! من خلال تمثالين: ” ذكرني التمثال [ تمثال الأمير عبد القادر] بتمثال ابن خلدون، اللون البرونزي نفسه مع فارق عميق. كان العلامة بشارع بورقيبة يحمل كتاباً في وجه الزعيم بورقيبة الذي كان مثل الأمير..”. ص.155. 

تمثال ابن خلدون، الأب الروحيّ للتونسيين الأحرار: “تذكرتُ الآن أنه عليّ أيضاً أن أزورَ تمثال ابن خلدون قبل أن أعودَ غداً إلى الجزائر. عليّ زيارة التمثال. زيارتُهُ تُشعرني بأنني زرتُ ضريح أبي من سنوات. لا أريد أن أرى أحداً آخر.”. ص. 99 ـ 100 .

 وكان الشاعرُ التونسيّ محمد الصغير أولاد أحمد (ت. 5 /4/2016)، قد قارن في وقت سابق جدّاً (1984)، في ديوانه الأوّل، “نشيد الأيّام الستة”، بين تمثاليْ ابن خلدون والزعيم التونسي في شارع بورقيبة بوسط العاصمة، فتعرّض ديوانه للمصادرة والمنع، وجرى اعتقاله و سجنه:

يا ابن خلدون المدينة أضيق من خطاك

و لكَم مررتُ ببنرسك الحديد

فساءني زمني

فاخرج من الوثن الجديد

و اكتب إلى الوثن المقابل ما يليق بحجمه

قلْ ما تريد

3 ـ الكتابة من منظور الرياحي:

“أن يتوقّف تونسي عن أكل الهريسة لمدّة أسبوع قد يُصاب بالجنون.” ص.74.

هي هكذا الكتابة عند كمال، سعي حثيث نحو الكمال. تلبية حاجة وحالة نقصان:

  “هذه النسخة الرابعة التي أراجعها من الرواية، وأُعيد بناءها من جديد.” ص.74.

كما تحضر الكتابة عند الرياحي مُعادِلاً للممارسة الجنسية:

“هناك حاجة ماسة للجنس تجتاحني كلّما توقفتُ عن الكتابة، وتذهب بمُجرّد أن يركض القلم.” ص.74 ـ 75.

 وسيَظل اقتناص رؤية الرياحي للكتابة في هذه اليوميّات ناقصاً ما لم تتمّ معاينة متنه بالكامل وتتبّع حِواراته وتصريحاته. ذلك أنه من العسير تحديد مواقفه ورؤاه كما تصنيف أعماله الرّوائية. ولقد رأينا من قبلُ كيف وظّف ابن خلدون في رواية “المِشرط” بغير ما وظّفه في يوميّات واحد ـ صفر للقتيل!

 هكذا، ستظل هذه اليوميّات مفتوحة على عِدّة قراءات، من قبيل أسلوبها البلاغيّ الرفيع، وهي غنية بالاستعارات: “سرير مُسنّ” ـ  “تمضغ ابتسامة” ص.18.

و يُمكِن أيضاً قراءتها في ضوء روحها السّاخرة: “اشترينا الحشية بمكان ونصف (نسيمة بلا مؤخّرة)”. ص.245. ـ “98.60 بالمائة قلتُ لنفسي شيء مبشّر، النتائج الماضية كانت %99. نحن شعب يتقدّم نحو الديمقراطية النموذجية بخطى حثيثة.” ص.45 ـ 46.

> بقلم: رشيد ابوالصبر

Related posts

Top