إلى أي مدى يمكن الحديث عن نجاعة الاستثمارات العمومية في التنمية الترابية العادلة؟

شدد المستشار عبد اللطيف أوعمو على ضرورة تحديد أدوار مختلف الجهات الفاعلة المشاركة في الفعل الاستثماري وتفاعلاتها وكذلك في تنفيذ المخططات الاستثمارية بوضوح وشفافية ومسؤولية تدعيما للتقدم الكبير الذي حققه المغرب في نقل مسؤوليات التخطيط إلى المستوى الجهوي. ونبه عبد اللطيف أوعمو في مداخلة له خلال الجلسة الشهرية لتقديم أجوبة رئيس الحكومة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة، إلى النقص في الحكامة وتعدد الاستراتيجيات والخطط القطاعية ذات التأثير الجهوي التي تزيد من خطر تجزيئ الأداء العمومي وتضغط من أجل وضع هيكلة مستجيبة لرهانات الاستدامة ومعالجة قضايا التنسيق الأفقي والعمودي على مستوى الجهاز التنفيذي.
كما أكد على ضرورة ضمان التنسيق بين سلطات الدولة غير الممركزة، والتي سيتم تعزيزها بعد تبني ميثاق اللاتمركز الإداري بالمغرب. وفيما يلي النص الكامل للمداخلة.

ضاعف المغرب من جهده الاستثماري العمومي بشكل كبير ما بين سنوات 2000 و 2014، حيث ارتفع الاستثمار بمعدل 6.6 ٪ سنويا. وتجاوز إجمالي معدل الاستثمار العام والخاص 30 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العقد الماضي، فيما تطورت الاستثمارات العمومية بين سنوات 2007 و 2017 بأكثر من الضعف. ويمثل الاستثمار العمومي المباشر (الدولة والجماعات الترابية) في سنة 2015 حوالي 4.4 ٪ من الناتج الداخلي الخام. وهو ما يضع المغرب ضمن البلدان التي لديها أعلى معدلات الاستثمار على المستوى العالمي. لكن الاستثمار العمومي ما زال ممركزا إلى حد كبير، حيث تمثل استثمارات الجماعات المحلية والجهات حوالي 35 ٪ من الاستثمارات العامة – مقارنة بمعدل ​​59 ٪ في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE). وهو مؤشر غير مشجع لضمان إنجاح مسلسل اللآمركزية والجهوية والحد من التفاوتات الترابية وتحقيق العدالة المجالية.
ومهما كان مستوى للآمركزية، فالاستثمار العمومي في معظم البلدان هو مسؤولية مشتركة بين مختلف مستويات العمل الحكومي. وهو ما يتطلب تنسيقا فعالا وتعزيزا للقدرات على مستوى القطاعات الوزارية لإدارة وتدبير الاستثمار العمومي وتلبية حاجيات الجهات على أفضل وجه. وقد خلصت العديد من الدراسات إلى أن معدل النمو لا يعكس الجهد الاستثماري العمومي المبذول. ومن جهتها، خلصت دراسة لصندوق النقد الدولي همت 25 دولة، إلى أن تحسين إدارة الاستثمار العمومي، يمكن أن يضاعف المكاسب المحتملة لهذا الاستثمار بنسبة 30 ٪، إذا ما استطاعت الحكومة مواجهة العقبات التي تحول دون الاستثمار العمومي الفعال، والمرتبطة أساسا بضعف الحكامة في تدبير وتوجيه الاستثمار العمومي أكثر من ارتباطها بقضايا التمويل. وبما أن البعد الترابي للاستثمار العمومي أساسي، فالحاجة ملحة إلى تطوير مبادئ الحكامة الرشيدة للاستثمار العمومي بين مستويات الحكومة والجماعات الترابية. والسؤال الرئيسي المطروح هو: كيف يمكن تحسين إدارة الاستثمار في المغرب في إطار الجهوية المتقدمة؟
من الضروري أولا أن نعتمد مقاربة منهجية شمولية لإشكاليات الاستثمار، مع مراعاة جميع المراحل المكونة لحلقة الاستثمار، من التخطيط الأولي إلى التنفيذ والتقييم، واعتماد آليات فعالة للتنسيق بين مستويات القرار الحكومي وأيضاً بين القطاعات المعنية، دون تهميش الجهات الفاعلة الأخرى كالقطاع الخاص ومنظمات الاقتصاد الاجتماعي. و بهدف تحقيق التماسك بين السياسات الجهوية، فمن الضروري أيضًا الاستثمار في تقوية القدرات على مختلف المستويات، وخصوصا على المستوى الجهوي الذي عليه تولي مهام تثمين المهارات الجديدة، وتعبئة المعرفة المحلية والقدرات الجهوية لتطوير استراتيجيات الاستثمار العمومي على المستوى الجهوي.
وتتيح الجهوية المتقدمة للمغرب فرصة لتنشيط السياسات الترابية ، والحرص على التوفيق بين البرمجة الإستراتيجية على المستوى المركزي وتحقيق أهداف التنمية الجهوية، بحيث تعكس استراتيجيات الاستثمار الحاجيات الحقيقية للجهات، باعتماد منهجية تكاملية، بدل الاقتصار على مقاربات قطاعية محدودة.
وبما أن الهدف المعلن للجهوية هو تحقيق نمو شامل ومستدام من خلال تحقيق تكامل أكبر للسياسات القطاعية، فإن وضع الآليات التي تسهل الحكامة على مستويات عدة هو مفتاح تحقيق هذا الهدف. وبالتالي، فإن الجهوية المتقدمة ستموقع الجهة كقوة دافعة للتنمية مع تعميق الديمقراطية التمثيلية.
إن الاستثمار في البنيات التحتية هو العمود الفقري للإنتاجية. فهي أساس الخدمات العامة الفعالة في العديد من المجالات التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين.
كما تعد البنيات التحتية الجيدة والمهيكلة ضرورة حيوية لزيادة مستويات الإنتاج ولتعزيز الإدماج الاجتماعي. كما تساعد في تقليص التفاوتات الجهوية عن طريق سد الفجوة بين المناطق الحضرية والقروية.وتبين مختلف الدراسات (منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي…) أن تعزيز الإنفاق العمومي في هذا المجال له تأثير محفز ومضاعف في الاقتصاد الوطني ككل، حيث يساهم استثمار عمومي بنسبة 0.5 ٪ من الناتج المحلي للاستثمار العمومي في سنته الأولى في زيادة بنسبة 0.6 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة وبنسبة 0.5 ٪ في منطقة اليورو.
وعلى الرغم من أهمية البعد المالي للاستثمارات، إلا أن فعالية تأثير الاستثمار العمومي في البنيات التحتية تعتمد على كيفية إدارته. وبالتالي، فحكامة الإدارة العامة أمر بالغ الأهمية.
كما أن المقاربات الترابية تقتضي حكامة أوسع وأدق، بحكم أن التنسيق بين القطاعات أو السلطات المحلية لتحقيق التكامل أو وضع الاستثمار في نطاق محدد لا يتحقق بشكل تلقائي، بل يجب أن يكون مدعوما بآليات حكاماتية فعالة، على المستويين العمودي والأفقي.
ويتطلب الاستثمار العمومي الفعال تنسيقًا كبيرًا بين مختلف مستويات القرار لسد الفجوة في توفير المعلومة (سواء فيما يخص تحيين معطيات الواقع الترابي من جانب الإدارات المركزية أو فيما يهم المعلومات حول الخطط الوطنية من قبل السلطات اللامركزية ) أو في مصادر التمويل المتاحة.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع آليات قارة لتنسيق السياسات الجهوية بين الوزارات والمؤسسات المعنية، ومن خلال تعزيز الروابط بين التخطيط الجهوي وتخصيص الميزانيات بواسطة البرمجة متعددة السنوات. يضاف إلى ذلك الحاجة إلى توضيح وتدقيق نطاق ومجال تدخل وكالات تنفيذ المشاريع الجهوية الجديدة.
وحسب العديد من التقارير – وعلى رأسها تقارير المجلس الأعلى للحسابات – يتميز الاستثمار العمومي بضعف الإنتاجية مقارنة مع حجم الاستثمار، حيث يبقى تأثير الاستثمار العام متواضعا على مستوى النمو الاقتصادي بشكل عام وعلى التنمية الجهوية بشكل خاص.
فالغريب في الأمر أن المغرب يصنف ضمن البلدان التي تخصص جزءًا كبيرًا من ثروته للاستثمار العمومي، بنسبة استثمار تقارب 33 ٪ مقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذا الاستثمار لا يولد إلا معدل نمو اقتصادي سنوي يصل بالكاد إلى مستوى 3 ٪.
ومن أسباب التأثير المنخفض على النمو الاقتصادي ضعف التقارب والتكامل بين الاستراتيجيات والسياسات العمومية وكذلك عدم دقة خيارات الاستثمار.
مما يقتضي تبني قرارات وخيارات الاستثمار بناء على دراسات جدوى دقيقة تقدم صورة واضحة ومرقمة حول الربح الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لكل مشروع.
ويجب قياس الربح وفقا لمؤشرات أداء قابلة للحساب وللتحقق وللتدقيق. كما يجب أن تخضع المشاريع الاستثمارية لعمليات تقييم منتصف المدة وعند نهاية الأشغال، بهدف ضمان تحقيق الأهداف والحرص على الدفاع عن المصلحة العامة.
هذا بجانب الحرص على تحسين فعالية الإنفاق العمومي، والتدبير الجيد والحكيم للميزانيات المرصودة.
كما ينبغي التركيز بشكل أدق على التقييمات المالية والمادية والنوعية من خلال تكثيف عمليات الرقابة والتفتيش والتدقيق.
والأكيد، أن إحداث فرص شغل مستدامة ومؤهلة وإنشاء نظام حماية اجتماعية حديث ومتطور يحفظ كرامة المواطن ويسمح له بتحسين أوضاعه، لن يتحقق بدون تحقيق قفزة نوعية وطفرة تنظيمية وهيكلية في مجالات الاستثمار العمومي ودعم القطاع الإنتاجي الوطني.
إن على الحكومة أن تعيد التموقع الترابي على ضوء الجهوية المتقدمة، وأن تقطع مع ترددها في الانتشار ترابيا. فلا يمكن إنجاح الجهوية المتقدمة وبناء دولة لاممركزة دون توزيع عادل للاستثمار العمومي وانتشار عقلاني للموارد البشرية والمالية.
كما أن الإصلاح المؤسساتي المنشود يفرض إعادة النظر في الهندسة العامة، من خلال إعادة هيكلة المنظومة التدبيرية وتجاوز المعيقات باتخاذ إجراءات فعالة وناجعة :
• توفر الإرادة السياسية،
• توسيع فضاء اللاتركيز الإداري،
• توزيع متوازن وعادل للموارد البشرية والمالية بين الجهات،
• اقتصار دور الدولة المركزية على التنظيم والتقويم،
• دعم وتوسيع اللامركزية المرفقية.
فرغم إحراز المغرب لتقدم كبير في نقل مسؤوليات التخطيط إلى المستوى الجهوي ، إلا أنه لا يزال من المهم تحديد أدوار مختلف الجهات الفاعلة المشاركة في الفعل الاستثماري وتفاعلاتها وكذلك في تنفيذ المخططات الاستثمارية بوضوح وشفافية ومسؤولية.
يمثل المستوى الترابي فرصة لتحسين أداء الكفاءات الذاتية والمشتركة لمختلف مستويات القرار الحكومي والترابي وإعداد أدوات التنسيق بين المستوى المركزي والجهوي والمحلي.
كما أن النقص في الحكامة وتعدد الاستراتيجيات والخطط القطاعية ذات التأثير الجهوي تزيد من خطر تجزيئ الأداء العمومي وتضغط من أجل وضع هيكلة مستجيبة لرهانات الاستدامة ومعالجة قضايا التنسيق الأفقي والعمودي على مستوى الجهاز التنفيذي. كما يجب ضمان التنسيق بين سلطات الدولة غير الممركزة، والتي سيتم تعزيزها بعد تبني ميثاق اللاتمركز الإداري بالمغرب. في الواقع ، فإن من أهداف ميثاق اللاتمركز الإداري تعزيز الإدارات المحلية من خلال منحها مزيدًا من الاستقلالية في القرار والتنفيذ، لا سيما في جانب الميزانية.
ويجب الانتباه إلى القيود ومواطن الضعف التي تحد من تقوية وتعزيز حكامة الاستثمار: بتعزيز الموارد البشرية التي يتعين الحرص على توزيعها بشكل متساو على المستوى الجهوي، ولكن أيضًا تقوية قدراتها بالتعلم من خلال الممارسة والأداء الميداني.
وتتعلق الجوانب الأخرى التي تشكل تحديات كبيرة لفعالية الاستثمارات العمومية ب :
* أدوات الإدارة وآليات التدبير
* التخطيط الوطني والجهوي والمحلي،
* الاستقلال المالي للجماعات الترابية،
* ثقل الإدارة المركزية، وخاصة درجة التنسيق الأفقي والعمودي للاستثمارات.

> المستشار عبد اللطيف أوعمو

Related posts

Top