اجتهادات محكمة النقض المغربية -الحلقة 5-

دأبت محكمة النقض المغربية، باعتبارها أعلى محكمة قضائية، مع افتتاح كل سنة قضائية، عن الإعلان عن اجتهادات جديدة.
وفي هذا الإطار، أصدرت محكمة النقض في السنوات الأخيرة، مجموعة من القرارات، تخص مواضيع مرتبطة بضمانات المحاكمة العادلة والحق في الدفاع وحماية المال العام، وحماية الحق في الصحة والتعليم وضمان الأمن الأسري وحماية المصلحة الفضلى للطفل؛ ناهيك عن تكريس الأمن التعاقدي والتجاري والعقاري وإيجاد التوازن في علاقات الشغل وقضايا التأمين، وضبط مفاهيم هامة كحماية المستهلك وملك الدولة.
.وفي إطار التمييز بين الحق في ممارسة الحريات العامة وبين واجب الانضباط لشروط العمل، أيدت محكمة النقض قرار محكمة الموضوع التي اعتبرت مغادرة الأجيرة لعملها بعدما تم منعها من الدخول بسبب ارتدائها سترة للوجه داخل المؤسسة، ما يحول دون التحقق من هويتها ويخالف النظام الداخلي، مغادرة تلقائية وليس فيه أي تمييز أو خرق لحق دستوري.
وحماية للمال العام وضمانا للمساواة في مجال الصفقات العمومية، فقد اعتبرت محكمة النقض، أن آجال تنفيذ الصفقات، تشكل عنصرا أساسيا من العناصر المحددة لعروض المتنافسين في ولوج الطلبات العمومية أثناء إعداد تعهداتهم، وان عدم تنفيذها يمس بالأسس التي قامت عليها المنافسة.  وفي نفس السياق وضمانا لحقوق المقاولات التي تتعامل مع المؤسسات من خلال الصفقات العمومية، فقد أيدت محكمة النقض الاتجاه الذي أعطى للمقاولة الحق في تسلم مستحقاتها من الوكالة صاحبة المشروع والتي لا تنكر تسلمها الأشغال موضوع النزاع واستفادتها منها، مستندة في ذلك على نظرية الإثراء بلا سبب.
 وبنفس المقاربة الحمائية للمال العام، فقد اعتبرت محكمة النقض، أن رسوم المحافظة العقارية، رسوم شبه ضريبية لا إعفاء منها، إلا بنص القانون وأن إعفاء المكتب الوطني للسكك الحديدية من أداء الرسوم المتعلقة بالتقييدات، التي تجرى على الصك العقاري قياساعلى المادة 23 من قانون المالية لسنة 2005، يبقى غير مرتكز على أساس قانوني سليم. وتعميما للفائدة، سنعمل طيلة شهر رمضان الأبرك، على نشر يوميا أحد الإجتهادات القضائية لمحكمة النقض سواء في المادة الجنائية أو المدنية أو الإدارية بالإضافة لاجتهادات أخرى تخص بعض محاكم الاستئناف.

الموضوع: الحق في الاضراب

أصدرت محكمة النقض بالمغرب قرارا جديدا يخص الحق في الاضراب، حيث اعتبرت أنه وبالرغم من طبيعته كحق دستوري، فإن عدم تحديد مدته من طرف الأجراء يجعله تعسفا في استعمال الحق، مما ينفي عنه وصف المشروعية. القرار قدم خلال  افتتاح السنة القضائية ضمن ما وصف بالقرارات المبدئية لمحكمة النقض، فيما يوحي بوجود توجه لاعتماده من طرف باقي محاكم الموضوع، في غياب صدور قانون ينظم الحق في الاضراب.
ملخص القضية

تعود فصول القضية الى مقال افتتاحي تقدم به أجير الى المحكمة الابتدائية بتمارة، في ضواحي العاصمة الرباط بتاريخ 01/06/2018، يعرض فيه أن كان يعمل لدى الشركة المدعى عليها، مند سنة 1996، إلى أن تم طرده بدون مبرر قانوني بتاريخ 18/05/2018، ملتمسا الحكم له بالتعويضات المقررة قانونا، عن الطرد التعسفي. وأجابت الشركة المدعى عليها، بكون المدعي تغيب عن العمل بشكل غير مبرر، وتم إنذاره بشكل قانوني للرجوع الى العمل داخل أجل 24 ساعة، ولم يلتحق بالعمل إلا بعد مرور أسبوع من تاريخ الإنذار، أي خارج الأجل المحدد، مما تكون معه واقعة الطرد التعسفي منتفية، ملتمسة رفض الطلب.
وبعد انتهاء الإجراءات القضائية، استجابت المحكمة الابتدائية لطلب المدعي، وقضت بأداء الشركة المدعى عليها، للتعويضات المقررة عن الطرد التعسفي.
وبعد استئناف الحكم الابتدائي من طرف الشركة المدعى عليها، تمّ تأييده استئنافيا، فتقدمت الشركة من جديد بطلب لنقض القرار الاستئنافي أمام محكمة النقض.
موقف محكمة النقض

قضت محكمة النقض بإلغاء القرار الاستئنافي فيما قضى به من تعويضات لفائدة الأجير عن الطرد التعسفي، معتمدة على العلل التالية:
• ممارسة الإضراب وإن كانت حقاً دستورياً، بغرض الدفاع عن مصالح الأجراء المهنية في إطار التمثيلية النقابية، فإنه مع ذلك تبقى مشروطة بعدم التعسف في ممارسة ذلك الحق؛
• تأكيد الأجير بكونه لم ينقطع عن العمل، وانما كان مضربا عن العمل من تاريخ 09/05/2018 الى 18/05/2018، تنفيذا لقرار المكتب النقابي بخوض اضراب مفتوح مصحوب باعتصام داخل الشركة، يعتبر اقرارا منه بتغيبه عن العمل؛
• ممارسة الإضراب من دون تحديد مدته من شأنها أن تلحق الضرر بالمشغلة، ما دام أن ملف القضية خالٍ مما يفيد سبق وجود مفاوضات بخصوص الملف المطلبي بين الأطراف دون الوصول إلى أيّ اتّفاق”.
وعليه، خلصت المحكمة إلى أنّ عدم تحديد مدّة للإضراب عن العمل ينفي عنه وصف المشروعية ويعتبر تعسفاً، مما يجعل الأجير الذي يخوض إضرابا مفتوحا عن العمل في حالة تغيّب عن العمل بشكل غير مبرر.
تعليق على القرار

تكمن أهمية هذا القرار الذي نشره “المفكرة القانونية” في كونه يعيد الى الواجهة مآل القانون التنظيمي للإضراب والذي مايزال عالقا منذ عقود، فقد نصت جميع الدساتير التي عرفها المغرب، على أن ” حق الاضراب مضمون، وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق”.
رغم مرور 60 سنة على دسترة حق الاضراب في المغرب، والإحالة على قانون تنظيمي يضع شروطا وإجراءات ممارسة هذا الحق، لم يصدر هذا القانون، مما جعل ممارسة الحق في الإضراب تخضع لموازين القوى وليس لقوة القانون.
يلاحظ أن مدونة الشغل لم تتطرق الى الحقّ في الاضراب بطريقة مباشرة إلا في مادتين. فقد نصت المادة 320 منها على أن “الإضراب يوقف عقد الشغل”. وهكذا فإن التسريح أو الفصل من العمل بسبب الاضراب يعتبر فصلا تعسفيا إلا إذا تمّ ارتكاب خطأ من طرف الأجير خلال خوضه للإضراب. كما نصت المادة 496 منها على أنه: ” لا يمكن إحلال أجير محل أجير آخر في حالة الإضراب”. ويلاحظ أن هذه المادة لم تنص على أي عقوبة في حالة خرق هذه القاعدة القانونية.
في غياب قانون تنظيمي ينظم الحق في الاضراب، يسجل تفاوت في تعامل المحاكم بالمغرب مع ممارسة الحق في الإضراب وبالأخص بين المحاكم الإدارية التي تتجه إلى تقييد ممارسة هذا الحق في القطاع العام من خلال فرض شروط جديدة في غياب نص قانوني كوجوب إشعار الإدارة وتحديد تاريخ الإضراب ونهايته، وإعطاء مهلة للإدارة، والمحاكم العادية التي تقرّ مشروعية ممارسة هذا الحق في القطاع الخاص وتتوسع في حمايته من دون قيود حماية للأجراء من الطرد التعسفي.
يشكل قرار محكمة النقض تحوّلا في طريقة تعامل القضاء مع ممارسة الحق في الإضراب في القطاع الخاص حيث اعتبر عدم تحديد مدة للإضراب عن العمل من طرف الأجراء ينفي عن الإضراب وصف المشروعية ويجعله في حكم الإضراب التعسفي، مما يجعل الأجير الذي يخوض إضرابا مفتوحا عن العمل في حالة تغيب عن العمل بشكل غير مبرر.
يكرس قرار محكمة النقض الصادر بالمغرب الاتجاهات السائدة في عدد من بلدان المنطقة من أجل تضييق ممارسة الحق في الإضراب في القطاع الخاص على غرار القطاع العام. ومن المأمول أن يسهم صدور هذا القرار الجديد لمحكمة النقض في التعجيل بمسطرة مناقشة والمصادقة على مشروع قانون تنظيمي رقم 97 ; 15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، بعد مرور عدة سنوات على إعداده من أجل توطيد هذا الحق الدستوري والإسراع بإيجاد قانون ناظم له يحدد حقوق والتزامات كل الأطراف بتوافق بين كافة الفرقاء الاجتماعيين، وعلى أساس المعايير الدولية ذات الصلة.

> إعداد: حسن عربي

Related posts

Top