احتجاجات الجزائر في أسبابها وحجمها وشمولها

على الرغم من اطمئنان النظام الجزائري، إلى سهولة ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وقدرته على اجتياز موجة ضعيفة من الانتقادات والاستهجان المشوب بالتندر، إلا أن حجم الاحتجاجات الشعبية وانتشارها في البلاد، فاجآ الدولة والحزب الحاكم، والمعارضة نفسها التي لا تزال تحاول اجتراح صيغة لمواجهة وضعية التجلط السياسي ووقف التداول على السلطة، لفائدة شبكة معلومة من أصحاب المصالح والنفوذ في البلاد.
وقد بدا واضحا أن الحراك الشعبي غير المتوقع بحجمه وقوة دفعه، قد خرج من أعماق المجتمع متأثرا بوجاهة الرأي القائل إن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، قد أسيء له عندما أُرغم على الترشح بالضغوطات والترهيب والترغيب، بذريعة أنه في حال لم يترشح، ستشهد الجزائر نزاعا أهليا مفتوحا.
ولوحظ من خلال المسيرات، أن هناك ما يشبه التوافق الحميد والغامض الذي لا تُعرف أطرافه، على عدم خروج الاحتجاجات عن مسارها السلمي والحضاري، وعدم التطرف في صياغة الشعارات، والتزام قوات الأمن ضبط النفس وتجنب العنف، لكي تُسمع الرسالة دون أن يشتعل نزاع مرير دام. لكن شعارات المحتجين الرافضين لدفع بوتفليقة إلى الترشح لولاية خامسة، أفصحت عن قناعة متنامية لدى الجماهير الشعبية الجزائرية بأن التحالف العسكري المدني النخبوي، وقوامه حيتان قطاع المال والأعمال والضباط المتنفذين، تمكن من إعادة البلاد إلى الأوضاع التي كانت عليها قبل اندلاع الأزمة الدامية في العقد الأخير من القرن الماضي.
وكان الجيش والقوى الأمنية قد أجهضا الحراك الشعبي ذا الأسباب الاجتماعية – الاقتصادية بعد أن اعتلته الجبهة الإسلامية للإنقاذ بخطابها التعبوي المدوي. أيامها، اختزل الجيش المشهد كله في مقولة الحرب على الإرهاب الإجرامي، لكي يصبح الانتصار على هذا الإرهاب هدفا لجميع الجزائريين. وبعد أن تحقق هذا الهدف، عادت الحقائق الاجتماعية والاقتصادية إلى سابق عهدها بل إلى ما هو أسوأ من أوضاع التسعينات، أو الفترة التي سُميت “العشرية السوداء” في ظل حكم رئيس ضعيف، هو المرحوم الشاذلي بن جديد.
فخلال تلك “العشرية” تنامى على جوانب الرئاسة، أساطين اعتصار المجتمع والاستحواذ على السوق وتفعيل القبضة الأمنية، وعسكرة التجارة أو “تجرنة” العسكر، وتفشى الفساد بمعدلات مرعبة، كان من بين نتائجها ارتفاع معدلات البطالة وندرة السكن الاجتماعي وانحطاط الخدمات، وبالتالي تشكل ما يضاهي أقوى الأحزاب، وهو حزب الناقمين العاطلين عن العمل، وقد أطلقت عليه الصحافة اسم “حيطيست” نسبة إلى المحتشدين وقوفا في الحارات والنواحي مستندين إلى الحيطان والجدران.
من هذا الحزب، تغذت المجموعات الإرهابية التي صعدت إلى الجبل لمقاتلة الدولة وللتعدي على المجتمع. وبعد الحرب المريرة التي خاضها الجزائريون لاحتواء ذلك الانفجار الإرهابي، اكتسب الوعي الجمعي الجزائري مناعة ضد الانجرار إلى العنف. لكن العوامل الاقتصادية الاجتماعية، تظل لها في كل الأوضاع تأثيراتها القادرة على كسر أي مناعة، وهذا ما يُخشى منه في الفترة الراهنة، حتى وإن استوعب الطرفان، السلطة والشعب، درس التسعينات. فعندما صوّت الجمهور الجزائري في انتخابات يناير 1991 للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لم يكن خيار الجزائريين حزبا إسلاميا بلغ مدى تطرفه أن أطلق علنا شعارات ضد تداول السلطة وضد طبيعة الدولة المحايدة والجامعة لأطياف شعبها، ولم يتردد في تكفير الديمقراطية.
كان التصويت بدافع اليأس من التغيير على أيدي الساسة أو بتأثير آراء النخب الاجتماعية والثقافية.
ففي تلك الفترة، وبعد عشر سنوات من الانتظار، وصلت الجماهير الشعبية إلى قناعة بلا جدوى الصبر على الحكم الخاضع لسيطرة عسكريين لا يستطيعون ولا يرغبون في الارتقاء بالنظام السياسي، ولا إتاحة حياة سياسية عصرية للجزائريين، تستوعب حيوية الشعب الذي تعتبر غالبيته العظمى من الفئات العمرية الشابة. وبسبب ذلك انفجرت الأوضاع في التسعينات. أما اليوم، فإن الأمور عادت إلى الأسوأ، يرمز إليها الموت السياسي الذي تتجسد حقيقته في شبه الموت الإكلينيكي للرجل الجالس على قمة النظام السياسي، دون أن يكون قادرا على النهوض بأعباء ومسؤوليات الرجل الأول في البلاد!
والأنكى، أن الأوضاع في أكناف الرجل العليل، لا تبشر الجزائريين بأي أمل، وبخاصة الشبان، ولا توحي بمستقبل واعد، ولا تفتح للنخب السياسية هامشا أوسع لحياتها السياسية. لذا لاح في الأفق شبح الأوضاع نفسها التي تسببت في نشأة “حيطيست” في التسعينات، وطغت التخوفات من عطالة التنمية في الجزائر، لأن الممسكين بمقاليد الأمور من حول بوتفليقة وفي ظل الرئاسة المريضة، لن يساعدوا على إطلاق عملية تنمية في بلد يزخر بالمقدرات المادية والبشرية. فمثل هذه الشريحة لن تركز إلا على مصالحها وأوضاعها الخاصة، وهي بلا رؤية. بل إن الكثيرين ممن يخشون على مستقبل الدولة ويحرصون على السلم الأهلي، يرون أن استمرار الحال الراهنة، من شأنه تعظيم دور الحلقة الإخوانية الجزائرية، التي يمثلها حزب “حركة مجتمع السلم”. فقد أصبح هذا الحزب البديل المقبول بالنسبة لشرائح من الشباب الذين عزفوا في السابق عنه، بعد أن استأنسته السلطة واستأنسها في التسعينات، أي في حياة مؤسس الحزب الشيخ محفوظ نحناح. فكلما تردى أداء الدولة، ينزاح الناشئة والبسطاء إلى ما يظنونه مشروعات بديلة، طهرانية كما يتضح من خطابها، وشتان بين طهرانية الخطاب وحقائق الأفعال عندما تعلق الأمر بممارسة المسؤوليات العامة.
كان من حق الرئيس بوتفليقة على مؤيديه أن يستريح وألا يوضع في الموقف الذي أصبح فيه الآن. فتجربته بحد ذاتها، كانت مفعمة في بداياتها بالمعاني التي تدحض ما يريده له الموالون الموتورون. كان شابا لا يتجاوز الثالثة والعشرين، عندما تقلّد في الجزائر الشاسعة منصب وزير الشباب، وبعدها بقليل أصبح وزيرا للخارجية. ويوم أن اختلف في أمره، أحمد بن بيلا وهواري بومدين، وكان مزهوا بشبابه، لم يكن يتقبل هو أو غيره، أن يحكم الجزائر الشابة، رجل ثمانيني مريض يجلس على كرسي متحرك!

> عدلي صادق

Related posts

Top