احتفاء بالكاتب المسرحي محمد بهجاجي في رحاب ملتقى الثقافات والفنون

نظم ملتقى الثقافات والفنون بالمحمدية يوم السبت 3 مارس 2018 بدار الثقافة مولاي العربي العلوي، لقاء مفتوحا مع الكاتب والناقد المسرحي محمد بهجاج، شارك فيه كل من: محمد قاوتي، صلاح بوسريف، عبد الواحد عوزري.
وجاء في ورقة الجمعية المنظمة: «محمد بهجاجي، كرس حياته للكتابة، والتعبير الفني الجمالي، المسرح كان بالنسبة له، الأرض التي من مائها عرف كيف ينبت زهر اللوز، بما يعنيه من انشراح وصفاء، ويقظة فكر وروح، لم يكن المسرح عنده بحثا عن مكاسب مادية، كما قد جرى عند الكثيرين، بل إن المسرح، عنده كان هو المكسب، وهو الغاية في ذاته، لأن المسرح هو تعبير عن الحياة، بما تنطوي عليه من تصاد مع كل ما يجري في الحياة نفسها من تفاصيل، وما قد يحدث فيها من مشكلات، وتناقضات، أو تشابك الممكن بما كان من حيوات أو أحداث كان لها عميق الأثر على ما نحياه من حياة.
في نصوصه، يكتب محمد بهجاجي، بلغة فيها دمه الشخصي، فيها تلك الجراح التي نتقاسمها معه، رغم أن الجرح، في عمقه، هو معاناة شخصية، تعتري النفس أو الجسد الواحد، لا غير، لكن حين ينتقل إلى النص، أو إلى خشبة المسرح، فهو يصير وجودا بالجمع، جرح الجميع، أو الجرح الذي ينتقل بالعدوى إلى الجميع.
هكذا يكتب محمد بهجاجي، ويري، أيضا، لأن مسرحا بدون رؤيا، هو مسرح بلا مستقبل، وبالتالي، فلا ماضي له، بالمطلق».

محمد بهجاجي.. صداقة المعرفة والجَمال

بقلم: صلاح بوسريف

محمد بهجاجي وأنا، من نفس الجِيل. الْتَقَيْنا بدار الشباب بوشنتوف، رغم أننا، معاً، كُنَّا نسكُن قَرِيبَيْن من بعضنا، هو بدرب بوشنتوف، وأنا بدرب الشرفاء. كان شارع الفداء، هو المَمرّ الدي عبره نتقاطع، لِنَلْتَقِيَ بساحة السراغنة، التي ستُصْبِح مكان لقائنا، خُصوصاً في المساء، لأنَّ هذه السَّاحة، بطبيعتها لن تَكُنْ تنام، وكانت المقاهِي فيها مُتجاورةً مع بعضها، لكن ما كان يَهُمُّنا، هو الجرائد التي كُنَّا نقتنيها حال توزِيعِها، في نفس المكان. فِي هذه الساحة كُنَّا نجتمع، وفيها كُنَّا نقرأ، ونتحاور، ونتحدَّث في المسرح، وفي الثقافة، والسياسة، وفي ما يصدر في الجرائد من مقالات وكتابات. كُنَّا مأخُوذِين بالمعرفة، بالفن، وبكُلّ ما رَأَيْنا، آنذاك، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أنَّه مُفِيد لنا في في فهم ما يجري حولنا، رغم أننا كُنَّا ما نزال في مراحل التعليم الثانوي.
في دار الشباب بوشنتوف، انْتَمَيْنا، مَعاً، إلى جمعية «الرواد للمسرح والثقافة». كانت الدار كثيرةَ الحركة، وكثيرة الرواد، والجمعيات المسرحية فيها كانت، أيضاً كثيرة. كان حَجْزُ قاعة المسرح للتداريب، صَعْبا، نظراً لعدد الجمعيات التي كانت تتدرب لإعداد عروضها، خصوصاً فِي أوْج حركية، أو دينامية مسرح الهُوَّاة، وما كان يجري من منافساة للتأهُّل للنهائيات التي كانت فرصةً للنقاش والحوار، ولانتزاع الاعتراف بما تقدمه الجمعيات المسرحية من جُهُود في هذا السياق.
لم نَكُن معْنِيِّين فقط، بالمسرح، بل كُنَّا نحرص على الاستفادة من كُل الخدمات الموجودة في هذه الدار. المكتبة كانت، بالنسبة لنا، كنزاً، وكُنَّا نستعير كُتُبَنا منها، وفيها نخلو بأنفُسِنا للقراءة والمُطالعة، وكانت نهاية الأسبوع، فُرْصَةً للحوار والنقاش والإنصات، من خلال القراءات الشِّعْرِية والندوات والمحاضرات. وكم جرى في هذه الدار من نقاش، ومن لقاءات حضرها شُعراء، ونقاد، ومُشْتَغِلِين بمجالات الفكر والفن، وكُنَّا سُعداء بأن نستمع إليهم، ونناقشهم في حدود ما كُنَّا نعرفه، أو ما كُنَّا نتعلَّمُه منهم.
فدار الشباب كانت مدرسةً حقيقية، وما تعلَّمْتُهُ فيها، شخصياً، لم أتعلَّمْهُ من المدرسة، ولا من الجامعة، لأنَّنا فيها تعلَّمْنا كيف نكون بذواتنا، وأن نكتشف ما في داخلنا من مُؤَهِلات وطاقاتٍ، ونعمل على صَقْلِها وشَحْذِها، وهذه بعض أسرار ما تعلَّمْناه في هذا الفضاء الذي سَيَتِمُّ إفراغُه من معناه، ومن دَوْرِه في التربية والتعليم والتثقيف، بما في ذلك الإجهاز على مسرح الهواة، وعلى مكتبة الدار التي أُفْرِغَتْ من كُتُبِها التي تساءلْتُ مرَّةً في نفس الدار عن مصيرها، لِيُقال لِي إنَّها موضوعة في كراطين، ولم تخرج من الدار! الجواب قاسٍ، ولا مُبرِّر له، فالكُتُب وُجِدَتْ لتَكُون فِي الضوء، وفي يد التلاميذ والطلبة، لا في عتمة صناديق مُقْفَلة، موضوعة في سراديب، تأكلها الرُّطوبة، وتُعرِّضُها للتَّلَف والتلاشي والانْحِلال.
كان محمد بهجاجي، يحيا ويعيش في هذا الجو، في فضاء هذا المعنى الثقافي والفني الذي جمَعَنا، وكان، قبل أن يتفرَّغ للمسرح، يكتُب الشِّعْر، ونشَر عدداً من النصوص الشِّعْرِية التي تستجيب لطبيعة المرحلة، مرحلة الغليان السياسي، أو ما سُمِّيَ لاحِقاً بسنوات الرصاص، كما كتَبَ في النقد، وكان يَهُمُّه السَّرْد، تحديداً، ما بدا أنّه توجُّهٌ كامل نحو المسرح. فمسرحية «التوازن»، كانت اللحظة التي شرع فيها محمد بهجاجي في اختبار الكتابة بأكثر من صوتٍ، وبنص، فيه تتداخل مكونات، هي في النهاية، تعبيراتٌ تجري على خشبة المسرح، إما على شكل ديكور، أو ممثلين يتحركون في تقاطُع مع مجموع التعبيرات السيميائية التي هي النص ذاتُه، وهو يصير فُرْجَةً.
ستتوالَى أعمال السي محمد بهجاجي، وسيجد نفسَه في قلب المسرح، دون غيره، ولعل استفادته من مناهج النقد الحديث، وقراءاته الأدبية، وما تشبَّع به من قراءات للنصوص المسرحية والروائية، بما في ذلك الشِّعر، كانت بين ما ساعده على الكتابة النقدية، فكتابه «ظلال النص»، الذي كنتُ بين من حضروا ولادتَه، وعاشُوا الكِتَاب فِي مراحِل تَخَلُّقِه الأولى، هو كتاب في النقد المسرحي، وكتاب فيه كان محمد بهجاجي يقرأ العُرُوض المسرحية بعين الناقد والمُخْرِج والكاتب، والسيميائي الذي يَفُك الشَّفرات، والرموز والدلالات التي تكون في العرض متشابكة، وغير مُتاحَة إلا لمن يعرف كيف يُخْرِجَ النَّهار من الليل.
سيَجْمَعُنِي مع محمد بهجاجي العمل الصحافي. عملنا، معاً، في القسم الثقافي لجريدة الاتحاد الإشتراكي، وكانت تجربة مهمة وكبيرة، منها تعلَّمْنا أن نكتُب في كل الظروف والحالات، وفي كل الموضوعات، وكانت الصفحة الثقافية والملحق، أيضاً، النافذة التي منها كُنَّا نفتح النقاش والحوار، ونُتِيح للشِّعْر، والنقد، والفن، والفكر، وللتعبيرات الثقافية المختلفة، أن تصل إلى قاريء كان شغوفاً بالقراءة، وبالبحث عن أفق ثقافي مُغايِر. فتجربة الصحافة، لها تأثيرُها في ما نَكْتُبُه، وهِيَ تجربة ستَنْضاف لِمَجْمُوع ما عِشْناه، وما تعلَّمْناه، وماكان لنا طَرِيقاً، وأفقاً.
إنَّ ما تعلَّمْناه فِي هذه السنوات، رغم ما كُنَّا نعيشه من ظروف قاسية، كان الدرس الكبير، الذي أتاح لنا أن نُوجَد بكل ما نحن عليه اليوم من قَلَق واحْتِقان، وما في يد كُلٍّ منا من شُغْل، ومن مشاريع، هي ما به نُدْلِي بشهادتنا على زمن، ما أشدّ ما يجري فيه من الْتِباساتٍ، وخَلْطٍ للأوراق.

*السي محمد بهجاجي.. روح لنصوص لم تكتب بعد

شهادة: عبد الواحد عوزري

هو رجل ثقافة واسعة ومتنوعة، وهو مشغول دائما بتوسيع هذه الثقافة وجعلها بلا حدود، لذلك يسعى دائما إلى القراءة أكثر والاطلاع والمعرفة، وربط علاقة دائمة بالمعرفة والمعرفة الجديدة منها على كل المستويات.
وقد أنقذه في ذلك، ولنقل ساعدته عدة عوامل أذكر منها لا على سبيل الحصر:
أولا ارتباطه بالتعليم، ففي التعليم صحيح أننا نعلم أو ندرس أجيال وأجيال ولكن في المقابل نتعلم أكثر وفي كل مرة.
ثم كثرة السفريات داخل المغرب وخارجه، فالسفر منبع من منابع المعرفة واكتشاف البقاع والآخر، أكان يشبهنا أو يختلف عنا. كل هذا منبع أصيل للثقافة والاكتشاف.
كذلك ابتعاده عن السياسة بمفهومها البسيط والحقير أحيانا، الذين يمارسون السياسة في المغرب، إلا القليل منهم، يمارسونها فقط للاغتناء وعدم الإخلاص لأي مبدأ من مبادئهم. قديما قيل إن السياسة علم اللاأخلاق. ونحن نعيش اليوم هذا بدون ملل ولا كلل ولا حتى استغراب كأن الأمر كان ينبغي أن يكون هكذا منذ البداية.
وأخيرا وليس أخيرا ارتباطه الوفي بالمسرح. المسرح يختلف عن كل الفنون الأخرى، لعدة اعتبارات خاصة بالنسبة للذي اختار عن طواعية أن يكون مؤلفا مسرحيا. فهو من جهة يلاقي في كتاباته أقصد كل الأنماط البشرية الموجودة والغير موجودة في المجتمع، ثم أنه يعمل بمفرده في البداية، ثم لأمر ما يصبح وسط عمل جماعي هو أصله ومنبعه، وهذه إحدى معجزات المسرح، فلا هو فردي بالمعنى الدقيق للكلمة ولا هو جماعي بالمعنى المتداول للفعل الجماعي.
الكاتب المسرحي يكتب لوحده حتى لو افترضنا أنه يكتب عملا تحت الطلب، ثم يكتشف فيما بعد أن هذا العمل أصبح للأخرين ولو أنه بشكل من الأشكال مازال عمله.
إن الكاتب المسرحي في الأصل رجل كثوم لا يتحدث إلا قليلا، ولكنه في الحقيقة هو الذي يتحدث أكثر من خلال الآخرين الذين يقرضونه أصواتهم وأجسادهم إن لم نقل أرواحهم لتجسيد ما كتبه المؤلف.
هل يعني هذا أن الكاتب المسرحي يكون دائما على صواب؟
لا ثم لا، لأن شخصياته لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كان هناك تناقض بينها. أحيانا لكي نسهل علينا المهمة نقول إن هذه الشخصية أو تلك تتحدث باسم المؤلف. هذا غير صحيح لأن المؤلف هو الذي اخترع كل الشخصيات بتناقضاتها وأعطى لكل واحدة دورا، وأحيانا ولكي تنجح اللعبة لابد من تناقض من هنا أهمية وفرادة المؤلف المسرحي، أتوقف لأقول بأنني لا أتحدث بشكل عام ولكن أتحدث عن المؤلف الذي يكتب بوعي.
على عكس شخصياته، السي محمد بهجاجي لا يقيم كثيرا هذا التناقض في حياته الخاصة. فعلاقاته هي علاقات وفاء وعلاقات صداقة وصداقات عميقة، وهي كذلك حوار مستمر، والحوار من سوء الحظ لا يعني دائما أن نتفق على كل شيء وإلا فليس هناك من حوار، نحن لا نستطيع أن نتحاور إلا مع الذين نختلف معهم. ولكن ليس من الضروري أن نختلف في كل شيء، فللاختلاف حدود وللاتفاق أكثر من حدود.
هكذا يكتب ويحدثني عن أعمالي المسرحية، ولا يجد لا الوقت ولا الأريحية ليكتب أو يتحدث عن أعمال يراها دون أن تصل لتكون موضوع اهتمامه وتفكيره.
من هنا جاء هذا الارتباط الوثيق بمسرح اليوم وبرئيسته وممثلته الأساسية السيدة ثريا جبران، ومن هنا تحول مع الأيام وألشميائها من منتقد ومتتبع لأعمال مسرح اليوم إلى مؤلفها الأساسي، ما ثبت خلال تجربة مسرح اليوم أن كاتبا مسرحيا كتب بحجم ما كتبه محمد بهجاجي لمسرح اليوم، ولولا ظروف توقفنا التي تعرفونها بحكم أن السيدة الفاضلة ثريا جبران أصبحت وزيرة للثقافة، لكنا قد ذهبنا بعيدا بحكم كل المشارع التي كانت بحوزتنا وكنا نفكر بجد في إنجازها.
كذلك أن كتاباته حول المسرح بشكل عام جاءت شفافة ومعبرة عن وعي وعمق في التفكير ودقة في التمييز ورغبة في أن لا تمر المناسبة دون أن نسجل هذا العنصر أو ذاك من العناصر التي تقوم عليها كتابتنا المعاصرة، ويهدف إليها ككل هذا التفكير في الكتابة وجدواها اليوم في هذا العالم المتغير وهذا المغرب المغترب.
لقد كان لي وافر الحظ أن أتابع كل هذه الكتابات وأكتب عنها أحيانا، ليس من باب المجاملة ولكن أصلا من باب التحاور العمومي إن صح التعبير وإبداء الرأي الذي ليس دائما هو رأي محمد بهجاجي، وهذه هي أهمية الحوار وإلا ما جدوى الحوار في الثقافة كما في الأمور الأخرى؟
إنني جد مسرور بهذا اللقاء ومعتز بحضوره وأتمنى أن يظل الحوار بيننا لأنه هو وسيلتنا الوحيدة لنسمو أعلى من أنفسنا ومن ثقافتنا التي ستظل جد محدودة بدون حوار.
هنيئا مرة اخرى على هذا اللقاء الثقافي الأخوي بامتياز، هذا اللقاء بالأستاذ محمد بهجاجي الذي يستحق أكثر م لقاء.

*محمد بهجاجي.. الثابت والثابت

فتوح الرحبة

 شهادة: محمد قاوتي

تَيَمُّنًا بالْمَشَايِخِ، وَاهْتِدَاءً بِآراءْ الْعَارِفِينَ، وبَحْثًا عَلى مَدْخَلٍ حَسَنٍ مُسْتَسَاغٍ لِمَاَ نَحْنُ عَلَيْهِ، اللَّحْظَةَ…
وَرَدَ فِي وَصَايَا شَيْخِ الْكَتَبَةِ عبد الله بن المقفع (رِسَالَةُ الأدب الصغير): «عَلَى الْعاقلِ أنْ لا يُخَادِنَ وَلا(1) يُصاحبَ ولا يُجاورَ من الناس، ما استطاعَ، إلا ذَا فَضْلٍ في العِلم والدين والأخلاقِ فَيأخُذُ عَنْهُ، أو مُوافِقًا له على إصلاحِ ذلكَ فَيُؤَيِّدُ مَا عِنْدَهُ (…) فإن الْخِصَالَ الصَّالحَةَ من الْبِرِّ لا تَحْيَى وَلاَ تَنْمَى إلاَّ بالْمُوَافِقِينَ وَالْمُؤَيِّدِينَ. وَليْسَ لِذِي الْفَضْلِ قَرِيبٌ وَلاَ حَمِيمٌ أقْرَبُ إلَيْهِ إلاَّ مِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى صَالِحِ الْخِصَالِ فَزَادَهُ وَثَبَّتَهُ. وَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ الأوَّلِينَ أنَّ صُحْبَةَ بَلِيدٍ نَشَأ مَعَ الْعُلَمَاءِ أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ صُحْبَةِ لَبِيبٍ نَشَأ مَعَ الْجُهَّالِ (…) كَذَلِكَ الْجَاهِلُ إنْ جَاوَرَكَ أنْصَبَكَ(2)، وَإنْ نَاسَبَكَ جَنَى عَلَيْكَ(3)، وَإنْ ألِفَكَ حَمَلَ عَلَيْكَ مَا لاَ تُطِيقُ، وَإنْ عَاشَرَكَ آذَاكَ وَأخَافَكَ؛ مَعَ أنَّهُ عِنْدَ الْجُوعِ سَبُعٌ ضَارٍ، وَعِنْدَ الشَّبَعِ مَلِكٌ فَظٌّ، وَعِنْدَ الْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ قَائِدٌ إلَى جَهَنَّمَ. فَأنْتَ بِالْهَرَبِ مِنْهُ أحَقُّ مِنْكَ بِالْهَرَبِ مِنْ سُمِّ الأسَاوِدِ(4) وَالْحَرِيقِ الْمَخُوفِ وَالدَّيْنِ الْفَادِحِ وَالدَّاءِ الْعَيَاءِ(5) (…) وَعَلَى الْعَاقِلِ أنْ يُؤْنِسَ ذَوِي الألْبَابِ بِنَفْسِهِ وَيُجَرِّئَهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَصِيرُوا حَرَسًا عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَرَأيِهِ، فَيَسْتَنِيمَ(6) إلَى ذَلِكَ وَيُرِيحَ لَهُ قَلْبُهُ، وَيَعْلَمْ أنَّهُمْ لا يَغْفُلُونَ عَنْهُ إذَا هُوَ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ.»

جمعتني مع محمد بهجاجي علاقات أخوة ومحبة تعود بالضبط إلى سنة 1977، حين كنا معا في غمرة الحماس من أجل مسرح مغربي هاوٍ، كان لحظتها هو التعبير الحقيقي عن تطلعات ومنجزات المسرح المغربي.
كان محمد بهجاجي يشرف على جمعية «مشاكسة» اسمها «الرواد للمسرح والثقافة»، وبهذه الصفة وجه إلينا (أي إلى جمعية السلام البرنوصي التي كنت «أشاغب» بدوري فيها وبها) دعوة للمشاركة بمسرحية «القرامطة يتمرنون كما رواها خُلِيّْفَه بسوق اشْطَيْبَه»، ضمن أسبوع ثقافي نظمته جمعية «الرواد للمسرح والثقافة» بدار الشباب بوشنتوف (بالدار البيضاء). تلقينا دعوته ودعوة زملائه باطمئنان، حيث تَقَصَّيْنَا أوْجُهَ الصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ فِي «جمعية الرواد»، واقْتَنَعْنَا بِمِصْدَاقِيَّةِ محمد بهجاجي الذي كان حينئذ يُعَرْبِنُ عَنْ هَذِهِ المصداقية عَبْرَ ارْتِبَاطِهِ الْعُضْوِي الْمُسْتَدِيمِ بِـ «جمعية الرواد»، حَيْثُ شَارَكَ فِي مسرحية «الفجر» التي أنجزتها سنة 1973، ومسرحية «زَنْقَه مَنْ الزّْنَاقِي» التي أنجزتها سنة 1975، ومسرحيتي «الدِّيدانُ والبُذُورْ» و«الطاووس في غابة الزنوج» اللَّتَين أنجزتهما سنة 1976. كَمَا بَلْوَرَ محمد بهجاجي رَسْمَلَةَ هذِهِ الْمِصْدَاقِيَّةِ عبر مُعَاقَرَةِ الْقَرِيضِ وَنَشْرِ مَا اسْتَعْذَبَهُ مِنَ الأشْعَارِ عَلَى أعْمِدَةِ «جريدة المحرر»، سنة 1977 (أُذَكِّرُهُ بالمناسبة بالقصيدة الْمُعَنْوَنَةِ بِـ «مَتَى؟» وما كانت تثير بيننا من مُدَاعَبَةٍ وَبَسْطٍ، وحنِينٍ حَتَّى).
منذُ مشاركةِ «جمعية السلام البرنوصي» بمسرحية «القرامطة يتمرنون كما رواها خُلِيّْفَه بسوق اشْطَيْبَه» فِي الأيام المسرحية التي نظمتها جمعية «الرواد للمسرح والثقافة»، (التي قد لا أُجَازِفُ إنْ نَسَبْتُ هَنْدَسَتَها لمحمد بهجاجي – وحتى إن كنت واقعا على زَلَلٍ في القَوْلِ، فَلِشِيبَتِي حُضْوَةَ الشَفَاعَةِ وَالْعَفْوِ وَالتَّجَاوَزِ مِنْ قِبَلِ الْمَضْيمِ الْمُفتَرَضِ… وَ الْوَافِي مَا يْحَافِي)؛ قُلْتُ مُنْذُ هَذِهِ الْمُشَارَكَةِ، ذَات يَوْمِ مِنْ أيَّامِ سنة 1977، توثقت الصلاتُ بين محمد بهجاجي وَبَيْنِي، حَيْثُ اكْتَسَتْ لِقَاءَاتُنَا، وَلإنْ كَانَتْ نَزْرَةً، اقْتِسَامَ مَخَاوِفَ الْمُوَاطِنِ الَّذي يَشْرَئِبُّ إلى قِيَم الْحَقِّ وَالْعَدَالَةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ والْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْجَمَالِ، وَيَطْمَعُ فِي اكْتِسَابِ سُمُوِّ احْتِضَانِهَا، بِثِقْلِهَا الرَّهِيبِ، وَحَفْظِهَا مَا بَيْنَ الشَّغَافِ وَالْقَلْبِ؛ كَمَا اكْتَسَتْ لِقَاءَاتُنَا دَوَامَ الانْشِغَالِ بحديث الْكِتَابَةِ لِلْمَسْرَحِ وَمَا يُسَامِتُهُ مِنْ مَدَارِكَ مَعْرِفِيَّةٍ، وَمِنْ مُتَابَعَاتٍ إعْلاَمِيَّةٍ، وَمِنْ دِرَاسَاتِ نَقْدِيَّةٍ.
منذ هَذِه الْحِقْبَةِ شَقَّ محمد بهجاجي لنفسه طريقا مَقْرُونَ اللَّفِيفِ، تَرَاوَحَ تِرْحَالُهُ، بَيْنَ الْمَقَالَةِ النَّقْدِيَّةِ بجريدة «المحرر»، سنة 1980، ثم ما تلاها من مقالاتٍ ودراساتٍ، خصوصا بجريدتي «أنوال» و«البيان» (إبَّانَ منع جريدة «المحرر») وجريدة «الاتحاد الاشتراكي»؛ ثم ما تَلَى ذلك من مؤلفات نقدية أغْنى بها القراءَة والذوقَ والخزانةَ المسرحيةَ المغربيةَ بكتاب «ظلال النص» (سنة 1991)، وكتاب «بلاغة الالتباس» (سنة 2012)، وكتاب «دينامية المصادفة والاختيار – مصنف جماعي» (سنة 2013)، وكتاب «مدارج التتويج» (سنة 2015).
كَمَا تَرَاوَحَ تِرْحالُ محمد بهجاجي بين الكتابة للمسرح بتأليفه لمسرحية «التوازن» (سنة 1979)، ومسرحية «الورقة الأخيرة في حياة المسمى الطاهر» (سنة 1981)، ومسرحية «الوقائع العجيبة في رحلة زيد الحالمي» (سنة 1985)، ومسرحية «الحفل التنكري» (سنة 1996)، ومسرحية «العيطة عليك» (سنة 1999)، ومسرحية «الجنرال» (سنة 2000)، ومسرحية «كاتارسيس» (سنة 2014)؛ واقتباسه لنص «البتول» (سنة 1998)، وَترجمته لنص «امرأة غاضبة» (سنة 1999).
كَذَلِكَ تَرَاوَحَ تِرْحَالُ محمد بهجاجي بين الكتابة للمسرح وعن المسرح في خَوْضِ غِمَارِ مَا يَصُونُ قِيَمَ الْحَقِّ وَالْعَدَالَةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ والْمَحَبَّةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْجَمَالِ وَيَحْضُنُها بِثِقْلِهَا الرَّهِيبِ مَا بَيْنَ الشَّغَافِ وَالْقَلْبِ، فِي مَجَالٍ نَحَتْنَا لَهُ اليوم لَفْظَ «الحكامةِ»، وَذَلِكَ بتدبيره لشؤون «جمعية الرواد للمسرح والثقافة»، بصفة رئيسٍ، خلال سنتي 1981 و1982؛ وتدبير شؤون «مجلس دار الشباب بوشنتوف»، بصفة رئيسٍ، من سنة 1981 إلى سنة 1984؛ وتدبير شؤون «فرع الدار البيضاء لاتحاد كتاب المغرب»، بصفة نائبٍ لأمين المال، سنة 1983، ثم بصفة كاتبٍ عامٍّ، من سنة 1988 إلى سنة 1994، فتدبير شؤون «اتحاد كتاب المغرب» بصفة كاتبٍ عامٍّ للمكتب المركزي، سنة 2005. كَمَا تجَّشَّمَ محمد بهجاجي فى مناحٍ أُخَرَ مَهَامَّ رَاوَحَتْهُ بَيْنَ لِجَنِ تَحْكِيمٍ من أهَمِّهَا (لجنة جائزة المغرب للكتاب، سنة 2006؛ ولجنة مهرجان قرطاج المسرحي، سنة 2003، ولجنة مهرجان المسرح الاحترافي بالجزائر، سنة 2008)؛ كَمَا تَنَاقَلَتْهُ خِبْرَتُهُ وَكِفَايَاتُهُ مُتَعَدِّدَةُ الأوْجهِ فِي مُهِمَّات ذات طبِيعةٍ سِيَّاسِيَّةٍ إجْرَائِيَّةٍ، لاسِيَّمَا عضويته في وفد الشبيبة الاتحادية في المهرجان الدولي للشباب والطلبة بموسكو، سنة 1985، وعضويَّتهُ في وفد النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى تشيكوسلوفاكيا «البائدة»، سنة 1987، وَتَجَشُّمهُ لِمُهِمَّةِ المستشار بديوان وزيرة الثقافة السيدة ثريا جبران، من 2007 إلى 2009، وتحمُّلهُ مَسؤوليةَ مهمةِ تمثيل وزيرة الثقافة في أشغال اللجنة التحضيرية للمؤتمر 19 لوزراء الثقافة العرب بدمشق، سنة 2008، وتَجَشُّمَهُ مهمةَ مستشار التحرير بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، من 2010 إلى 2012، ومُجَازَفَتهُ الْقَيِّمَةُ فِي المساهمة في مهمة تكوين صحفيي مغرب الآن والمآل في مادة الصحافة المكتوبة، منذ سنة 2013، في كل من المعهد العالي للصحافة والاتصال بالدار البيضاء، ثم في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال (شعبة الصحافة والإعلام، الإجازة المهنية)، ثم في كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني (شعبة الصحافة والإعلام، الإجازة المهنية).
إلى هذا الحد من سردِ مناقبِ المُحْتَفَى بِهِ، السي محمد بهجاحي، لا بُدَّ لَنَا من عَوْدٍ عَلى بَدْءٍ، حَيْثُ كان بِدَوْرِهِ يُنَقِّبُ عن عُرِبُونِ مِصْدَاقِيَّتِي، وَعَنْ مَدَى ارْتِبَاطِي الْعُضْوِي بِالْمُشْتَرَكِ الأسَاسِيِّ الْبَنَّاءِ لِعَلاَقَةِ تَفَاضُلٍ بَيْنَنَا، فَكَانَ يتابع أعمالي من موقع الإعلامي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، ومن موقع الكاتب الناقد الذي شرع في قراءة أعمالي منذ «نُو مَانْسْ لاَنْدْ» سنة 1986. وقد كتب بهذا الخصوص مقالة عن هذه المسرحية بعنوان «بلاغة الالتباس» في احتفاء خالص بذلك العمل، وبفكرة الدفاع عن نوع من الكتابة التي كانت مضطرة إلى الحديث عن تجربة الاعتقال السياسي ضمن سنوات الرصاص، ببناء استعاري يجعل النص، كما يسميه بعض النقاد بالنص الجوال الذي يَغرِفُ من مرجعيات تتراوح بين الكتابة الصوفية والهم الاجتماعي والسياسي الْمَجَالِي.
صارت إذن العلاقة بين محمد بهجاجي وبيني مُتَّسِمَةً بِالصَّفَاءِ، ولْأقُل إنها بلغت حَدَّ التَّمَاهِي بيننا في أمور ثقافية وفنية كثيرة، على مستوى اللقاءات الأسرية والمنتديات العامة، لدرجة أن محمد بهجاجي كان يفكر، سنة 1998، في كتابة نص عن الفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي تكريما لرمز من رموز الثقافة الشعبية المغربية، فدعاني إلى أن نكتبه معا احتفاء بصداقتنا، لكني أذْكُر أنني قلت له ما فحواه: «اكتب نصك وحدك. إذا كتبنا هذا النصَّ معا، وكان جيدا، سَيَقُولُ أولُوا الاِغْتِيَابِ إن الفضل يعود إلى قاوتي وحده، أو إلى بهجاجي وحده. وإذا كان هذا النص فاشلا سيقال إن مَرَدَّ ذلك يَعُودُ لِحَشْرِ قاوتي فِي الْعَمَلِ، أو لِحَشْرِ بهجاجي فِيه…». وأخيرا كتب بهجاجي نصه وحده باسم «العيطة عليك»، وتألق فيه تألق الكتاب الكبار.
في ما يُشْبِهُ الْخَتْمَ أقُول لمح\مد بهجاجي: «إنَّكَ من الْكُتَّابِ والنُّقادِ القلائلِ الذين اهتموا بمواكبة العروض المسرحية، بناء على عشق خاص للمسرح ولمبدعيه، وعلى ما يسميه إدريس الخوري بتاريخ المشاهدة المسرحية. وهذا ما يجعلني أُكْبِرُكَ وَأحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ لأنَّكَ لا تَكْتُبُ سوى عن المسرحيات التي أحْبَبْتَهَا، أوْ آنَسْتَ مِنْهَا وَمِنْ أهْلِهَا خَيْرًا يُرْتَجَى، أوْ أجْزَمْتَ أنها ستُشكل إضافةً نَوْعِيَّةً إلى ذخيرتنا المسرحية.»
أوَاصِلُ مَخَاطَبَتَكَ، آ السي محمد بهجاجي، بسؤال: «ألا تُقَاسِمُنِي ملاحظةً أساسية بخصوص واقع النقد المسرحي الآن وهنا، حيث نعيش بهذا الخصوص مفارقةً عجيبةً، ففي الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان هناك حضور قوي للنقد المواكب للعروض المسرحية، بأقلام الرائد حسن المنيعي، مصطفى القباج، عبد الله الستوكي، ادريس الخوري، عبد الله تغزري (المنصوري)، محمد الأشهب، وآخرين…، كانت عروض المسرح قليلة إزاء نقد مسرحي كثيف يقدم إضاءات متفاوتة الدرجة والمقاربة. أما اليومُ فصارت المعادلةُ مقلوبةً. هناك عروض مسرحية كثيرة، لكن النقد المسرحي غائب. وبدله صرنا نلاحظ غزارة في الأطاريح النظرية الجامعية. وهذا الْمُعْطَى صار يشكل أحد وجوه أعطاب الممارسة المسرحية الراهنة؟»
إن وَقَعَ الْحَافِرُ على الحافرِ بخصوص تساؤلاتي ومَا يَعْتَمِلُ فِي جَوَّانِيَّكَ وَحَتى في بَرَّانِيَّكَ، آ السي محمد بهجاجي، سَأغُضُّ طَرْفَ الْفُضُولِ الشَّخْصِي عَمَّا تَبَقَّى لِي حِيَالَكَ (وَقْفُ تَنْفِيذٍ مُؤَقَّتٍ!)، وَأُشْرِكُ الْفَاضِلاَت وَالْفُضَلاَءَ الذين تَحَمَّلُوا طَبْعَنَا الْمِهْدَارَ بِأناةٍ وَصَبْرٍ، وَأؤلِّبُهُمْ في هذه السياقات عليك، عَزِيزَنَا الْمُحْتَفَى بِهِ، الكَاتب والإعلامي والناقد وَالصَّاحِب، حَتَّى تتعهد لَنَا بِشَدِّ نَظَرِكَ إلى مَا تَعْلَمُهُ مِنْ أن الإبداعَ المسرحي لا يمكن أن يستويَ ما لم يُواكبْهُ نقدٌ مسرحي يضيءُ زواياهُ، ويُنَبِّهُ إلى نقائصه وثَغَراته. ولا يَهُمُّ أن يكون هذا النقد مُصِيبًا أو سَقِيمًا، الْمُهِمُّ أن يجد المبدعُ المسرحي صدًى لَدَى النقاد. وَبِمَوْجِبِهِ ندعوكَ اليوم، جميعا، إلى جانب مسارك المتألق ككاتب، أن تواصل متابعاتِكَ النقدية، حتى تظل كما كنت سندا دائما للتجربة النقدية، ثابتا وثابتا، ودعما للإبداع المسرحي، ثابتا وثابتا.

هوامش
1 يصادق ويصاحب لا في ظاهر أموره ولا في باطنها.
2 أجهدك وأتعبك وأخذ منك كلَّ مأخَذٍ.
3 أذنب في حقك.
4 الثعابين
5 الداءُ الذي لا طِبَّ لَهُ وَلا بُرْءَ مِنْهُ
6 يستقرَّ

Related posts

Top