الأجندة الإيديولوجية للشعوذة الطبية

خلال الاستعمار البريطاني للهند وقعت قصة في نيودلهي، حيث كان السفير البريطاني يقود سيارته مع قنصل المملكة وإذا به يرى شابًا جامعيا يركل بقرة … أمر السفير السائق بالتوقف للتو وخرج من السيارة وهرع نحو البقرة “المقدسة”. دفع الشاب بعنف وصرخ في وجهه صرخة تردد صداها في الشارع بينما بدأ يربت برفق على رأس البقرة ويمسد شعرها ويداعب ظهرها. وحث الشاب على مطالبة البقرة بمنحه المغفرة والعفو وسط ذهول المارة الذين تجمعوا بعد سماع صرخات السفير البريطاني.

أمام هذا الجمهور الذي استولت عليه الدهشةُ والذهول، اغتسل السفير البريطاني ببول البقرة ومسح وجهه السمين به. انحنى المارة على الفور أرضا مرتجفين عاجزين تعظيما وتبجيلا لربهم “البقرة “، هذا الرب الذي انحنى إليه الدبلوماسي رفيع المستوى. بعد ذلك بوقت قصير، انقضى الجموع على الطالب وأوقعوه أرضا وأشبعوه ركلا ولكما وضربا مما أدى إلى إصابته بكسور ورضوض في مختلف أنحاء جسمه، انتقاما من محاولاته الرامية إلى ضرب القداسة السماوية للبقرة “الأم العالمية”.

قام السفير بتصويب طوق قميصه المجعد المبلل بالبول، وربط ربطة عنقه ومرر أصابعه في شعره الهائج والمتناثر لجعله أكثر أناقة وتنفس بعمق، مطلقا زفيرا حادا ليعطي انطباعا بأنه كان غاضبا حقا. عاد السفير ليستقر في سيارة السفارة بجوار القنصل الذي سأله لماذا فعل ذلك وما إن كان مقتنعا حقا بمذهب عبادة الأبقار. رد السفير بابتسامة خبيثة: “أي بقرة، يا عزيزي، هل نسيت أننا أكلنا لحم البقر؟” اسمع، ركلة هذا الشاب هي الخطوة الأولى نحو اليقظة العامة، إنها ركلة ثورية ضد العقيدة التي نريد أن تستديم! إذا سمحنا للهنود بتغيير معتقداتهم، فإن الهند ستكون في مراتب متقدمة علينا بـ 50 عاما، فسوف نفقد وجودنا ومصالحنا الحيوية هنا. واجبنا هو ألا نسمح لمثل هذا الحدث بأن يمر ويتكرر أبدا. لقد فهمنا، بعمق وبصيرة، أن الجهل والخرافة والغباء هم جيوشنا لإحكام القبضة القوية والهيمنة الدائمة على عقول هؤلاء الملايين من الناس … هنا!

***************************

إلى أي مدى يمكن لهذه القصة أن تشكل صدمة قوية تخرجنا من صمتنا ولامبالاتنا ونفعيتنا وتخاذلنا  في ظل الالتباسات وأسئلة الاستفهام العديدة التي تكتنف المشهد السياسي المشوه من جراء تحالفات وتفاهمات غير طبيعية وبالتالي توقظ ضمير المثقف المغربي المتنور المنحاز لقضايا الحرية والعقلانية والتقدم الجميل.. وتفتح عيوننا النقدية  وترفع مستوى التعبئة واليقظة أمام هذا الانتشار المريب والمهول لهذه الأعداد المتزايدة لمحلات وقنوات الشعوذة الطبية التي تناسلت تحت مسميات  “الطب النبوي” والحجامة والرقية الشرعية والتدليك “المبارك”، طب الروحانيات الذي يعالج الأمراض العقلية والنفسية، يجلب الحبيب، يفك السحر – إن كان  ترابيا أو مائيا أو هوائيا أو ناريا، السفلي أو علوي، إذا كان مرشوشا أو مشروبا أو مأكولا – ..؟ إن هذه الممارسات والأساليب والادعاءات الخادعة والخطيرة التي تفتقر إلى المعرفة العلمية المنظمة المؤسسة على الأدلة الداعمة والاختبارات التجريبية والتأكيد الاستنتاجي والنهائي، يجب أن تجعلنا نتحمل مسؤولياتنا كمثقفين، ونقوي التزامنا وجرأتنا وإرادتنا قصد تبديد الغموض الذي يلف أفعال وأساليب وممارسات وادعاءات الشعوذة الطبية الإسلامية وتفكيك آليات تفكيرها واشتغالها وكشف أهدافها ومراميها الإيديولوجية والمالية والسياسية من خلال تكثيف الدراسات والأبحاث الخاصة بجميع أنواع الشعوذة الطبية الإسلامية، تحديد مفاهيمها، تحليلها وتقييمها بحركية ومهارة على أسس القيم الفكرية العالمية التي تتجاوز أي انحياز تأكيدي والتي تتسم بـ: الوضوح، الدقة، الصرامة، الاتساق، الراهنية، الدليل السليم، الأسباب الوجيهة، العمق، اتساع نطاق التمثيل والإنصاف.) (Scriven& Paul 1987) في أفق تأسيس المبادئ التوجيهية التي تستهدف تقديم توصيات واضحة وصريحة لمحاربة هذه الشعوذة الطبية بفعالية وواقعية على جميع الأصعدة ومن طرف كل الفاعليات المجتمعية المتنورة و السلطات المعنية.

الشعوذة الطبية الإسلامية

الشعوذة الطبية الإسلامية هي تقديم وصفات طبية مزورة غير مجربة مختبريا وغير ناجعة مستغلة الرموز والشعارات والمقدسات الإسلامية كالقرآن والأحاديث والتأويلات المتخلفة والمعتقدات الصادقة جدا عند الناس.” والدجال هو الممارس لهذا النوع من الممارسات الطبية أو الشخص الذي يدعي امتلاك المهارة والمعرفة أو المؤهلات التي تمكنه من ممارسة الطب وهو لا يمتلكها. وتشمل العناصر المشتركة للدجل التشخيصات المزيفة باستخدام اختبارات تشخيصية غير موثوقة، وكذلك العلاجات البديلة خصوصا لأمراض خطيرة مثل السرطان.

الشعوذة الطبية الإسلامية تقدم نفسها كبديل وجودي ومعرفي وأخلاقي للطب الحديث، والتي يدعمها ويمولها العقائديون الدينيون من جميع الاتجاهات الذين طالما أدانوا العلم الحديث باعتباره سعيا علمانيا وملحدا مدمرا لأخلاق الدين. لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلمَ لما قال: «يكون فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ».

وكتب Jean-Marie Abgrall في كتابه “Healing Or Stealing Medical Charlatans in the New Age”: “إننا أمام خيار بسيط: التزام الصمت لتجنب مواجهة حساسيات الجمهور المتلاعب به، أو التنديد بصوت عالٍ بالانحراف الذي يشهده عالم “الرعاية الطبية”. الصمت عندما يعرف المرء الكثير لا يمكن اعتباره إلا تواطؤًا؛ وفي هذه الحالة، سيكون بمثابة عدم الإبلاغ عن جريمة (أو على الأقل جنحة)، أو حتى الإمساك ﻋﻤﺪﺍ ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﺴﺎﻋﺪﺓ ﻟﺸﺨﺺ ﻓﻲ ﺧﻄﺮ- وهو نفسه جريمة – تعرض صاحبها إلى ﺎﻟﺤﺒﺲ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ أﺷﻬﺮ ﺇﻟﻰ ﺧﻤﺲ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻭﻏﺮﺍﻣﺔ ﻣﻦ 200 ﺩﺭﻫﻢ ﺇﻟﻰ 1000 ﺩﺭﻫﻢ ﺃﻭ ﺑﺈﺣﺪﻯ ﻫﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺘﻴﻦ ﻓﻘﻂ

حتى إذا كنا نعتقد أن المعالجة المثلية (الطب البديل أو الطب المكمل)، على هذا النحو، ليست ضارة، فمن الصحيح مع ذلك أن الوقت الذي يقضيه المريض في البحث عن مثل هذه العلاجات ضائع بالتأكيد، مما يعني أن المريض أمام فرصة أقل نجاعة لإيجاد علاج حقيقي، خاصة وأن بعض المعالجين “الأصوليين” يقومون بثني المريض عن الالتجاء إلى الطب العصري. وكذلك، إذا لم يتمكن الوخز بالإبر من تفاقم حالة المريض (إذا اتبعت قواعد التعقيم)، فقد يؤخر التشخيص والعلاج المناسبين. وأخيرًا، إذا كان الاعتِلالُ المَفصِلِيُّ الذي يمارسه الطبيب أو أخصائي العلاج الطبيعي المؤهل هو أداة ثمينة، فإن نفس التقنية التي يستخدمها مجبر العظام الذي لديه معرفة سطحية بعلم التشريح يمكن أن تؤدي إلى تفاقم وضعية المريض.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح وراهنية هو الآتي: على الرغم من حقيقة أن هذه المعتقدات والمزاعم معيبة علمياً ومحفوفة بالمخاطر وخيالية وغير مطلعة، فلماذا تكتسب شعبية وتنتشر بسرعة بين عدد كبير من السكان؟ يورد نضال قسوم، في كتابه “التوفيق بين الإسلام والعلوم الحديثة”، بأنه ليس من السهل صياغة إجابة مقنعة لهذا السؤال، لأنه يتعلق بعدة عوامل اجتماعية وتاريخية. في الواقع، يطرح هذا السؤال عدة أسئلة أخرى: ما هي درجة  فهم العالم الإسلامي للعلوم اليوم؟ ما هو مستوى التفكير والتحليل النقدي الذي نجده في المجتمع الإسلامي؟ هل يمكن ترشيد وتوجيه الاندفاع العاطفي للشعوب الإسلامية اليوم وإخراجه من براثن خطاب الشعبوية الذي يحاول تحويل هزيمتنا العامة في جميع المجالات إلى موقع أسبقية وتفوق عبر التأويلات التعسفية والانتقائية للقرآن وإقناعنا بأن حضارتنا متفوقة تاريخيا، بالمعنى المطلق والأزلي؟ 

 بورصة “الدجل” تدر الملايين على تجار الشعوذة للأسباب التالية:

– أولا، العالم كله يشهد عودة إلى ما هو طبيعي وبيئي. وهذا لا ينطبق فقط على قطاع الأغذية ومستحضرات التجميل، ولكن أيضًا على قطاعي الصحة. بالنسبة لهؤلاء الناس، “ترمز الكيمياء إلى شر العصر الحديث والطبيعة أقرب إلى النقاء المطلق”.

– ثانيا، تأثير الدواء الوهمي: ركزت الأبحاث حول تأثير الدواء الوهمي على العلاقة بين العقل والجسم. واحدة من أكثر النظريات شيوعًا هي أن تأثير الدواء الوهمي يرجع إلى توقعات الشخص. إذا كان الشخص مقتنعا أن حالته ستتحسن، فمن الممكن أن تسبب كيمياء الجسم نفسها آثارًا مماثلة لتلك التي يمكن أن يسببها الدواء. قد يكون هذا راجعا بشكل جزئي إلى إفراز مادة الإندروفين – endorphine – في الدماغ. والإندروفين من أهم مسكنات الألم التي يفرزها جسم الإنسان بشكل طبيعي.. هذا هو سر تأثير الدواء الوهمي، وهو جزيء محايد تمامًا يعطي نتائج إيجابية عند إعطائه بشكل صحيح.

–  سبب آخر هو أن المنتجات العشبية بشكل عام لا تخضع لنفس المراجعة العلمية وليست منظمة بشكل صارم مثل الأدوية ولا يتعين عليها الحصول على موافقة من إدارة الغذاء والدواء قبل طرح منتجاتهم في السوق. يتحمل مصنعو المنتجات العشبية مسؤولية التأكد من أن الادعاءات التي يقدمونها حول منتجاتهم ليست كاذبة أو مضللة وأنهم مدعومون بأدلة كافية. لكن ليس مطلوبًا منهم تقديم هذه الأدلة إلى إدارة الغذاء والدواء. المطلوب من جميع ممارسي الطب البديل هو الإيمان بالمقولة الطبية: ” primum non nocere : أولاً لا تؤذي ، أولاً، لا تضر”.

لذلك ينصح فقط أن تكون مستهلكًا ذكيًا. وألا تعتمد على البيانات التسويقية المكتوبة من المنتج فحسب. ولكن، أن تبحث عن المعلومات الموضوعية والقائمة على البحث لتقييم مواصفات المنتج. هذا في أمريكا؛ أما في المغرب فإن البيانات التسويقية تشمل جميع الأمراض.

– في العالم العربي الإسلامي، يرفض الأصوليون المتأسلمون الطب الحالي، لأنه في نظرهم ليس علما بريئا ومحايدا، بل عقلاني وعلماني يسيء إلى الهوية الإسلامية ومعتقداتهم الروحية والدينية ورؤيتهم للعالم.

– مشاريع الشعوذة الطبية مربحة جدا: يجني هؤلاء ثروات مالية “غير مشروعة” تصل ملايين الدولارات، إذ قدر أحد الدجالين الأردنيين الذي يدّعي العلاج بالطب النبوي في حديثه لـ “الغد”، أن مجموع ما يتقاضاه زملاؤه العرب من ضحاياهم يفوق 20 مليار دولار سنويا، يحصدها 6 آلاف مشعوذ ممن “يبيعون الوهم تحت ستار الدين”.. حسب تحقيق: حنان الكسواني…

وهناك عدة حجج أخرى تشرح أسباب استحسان المرضى لفكرة الدجل بالرغم من افتقاده للفاعلية والمنطق، كالجهل والتكلفة والانحياز الشخصي الانتقائي الذي يقهر الوقائع والأدلة لتتوافق قسرا مع معتقداته أو فرضياته، إلصاق نظريات المؤامرة بكل شيء، يأس أصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية، الخوف من الآثار الجانبية  من الأدوية الصيدلانية…. إلخ.

تفتح هذه العوامل كلها الأبواب المشرعة أمام هؤلاء التجار المشعوذين والدجالين مستغلين التقصير الصارخ من السلطات الرسمية وحرية الشاشات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي ليمارسوا بكل أريحية أساليبهم الاحتيالية تحت ستار “لدين”، والأدهى في الأمر، أنه يُسمح لهم بممارسة الشعوذة في الأماكن العامة وفي وسائل الإعلام العامة. مع القليل من المعلومات العلمية المتاحة أو الغير متوفرة حول آثار هذه المنتجات العشبية، ويدعي هؤلاء المحتالون والدجالون أنهم يستطيعون علاج الربو وحمى القش وأمراض الكبد والتهاب البنكرياس والسكري النوع 2، قرحة القدم السكرية، اضطرابات النوم (الأرق)، السرطان، متلازمة ما قبل الحيض، العقم ، أعراض انقطاع الطمث، قرحة المعدة، أمراض الكلى، كسور العظام، أعراض انقطاع الطمث وأمراض الجلد وارتفاع نسبة الكوليسترول والشيخوخة وحتى معظم أمراض المناعة الذاتية أو الأمراض الانضِدادية. بل ذهب بهم دجلهم إلى مجالات نفسية واجتماعية حساسة كرد المطلقة، وتزويج البنات، علاج الفشل الدراسي …..

يقول Abgrall: “أحد أفضل إغراءات هؤلاء المشعوذين ونقاط البيع القوية هو “الطب الطبيعي ” أو “patamédecine” الذي هو علم الحلول الخيالية. وكذلك  يسميها الخبراء الطب الشمولي –  médecine holistique- الذي يستمد اسمه إلى حد ما من “المقدس: holy” وكذلك بالإشارة إلى المنظومة بأكملها، holos (“الكل”). في العصور القديمة، تعطى  قوة الشفاء لصاحب المنصب الديني”….

هذا الطب الشمولي هو الذي يريد محمد فايد (الطبيب المعجزة) تعزيزه وترسيخه كوجهة نظر عالمية وبديل للطب الكلاسيكي لأسباب أيديولوجية أكثر منها لأسباب بيئية. الحفاظ على البيئة آخر همه. هذا هو السبب في أنه يستحضر الرموز الإسلامية مثل القرآن، رمضان، الأحاديث والمفاهيم الغذائية الحلال إسلاميا لإعطاء شرعية دينية أكثر من الشرعية التجريبية لحلوله المعجزة الخيالية والغريبة ضد الفيروسات التاجية وضد أمراض شائعة أخرى، حتى أكثر الأمراض النادرة. ومع ذلك، فإن خرجاته الإعلامية تثير الغضب وتجلب له كل أنواع المذلة والاحتقار والازدراء من طرف القطاع الطبي المتنور، وفي نفس الوقت يتم الترحيب به بحماس وبإثارة من طرف أنصاره، وخاصة الإسلاميين الذين يستخدمون درجات مختلفة من الدقة، والحملات التسويقية التي تروج فضائل الطب الإسلامي، وتشويه سمعة منافسيهم في “الطب الكلاسيكي” وربط نجاحهم بالدين. إنهم يعرفون جيدًا، أنه بدون تغطية إسلامية، هذه الحلول الطبية المعجزة يمكن أن تكون محكومًا عليها بالفشل، وفشلها هو فشل مشروع العلوم الإسلامية بأكمله، والذي يؤثر بدوره على مشروع الدولة الإسلامية الحديثة الذي يحلمون بتأسيسه يومًا ما..

ونتيجة لذلك، عندما انتقد المغاربة محمد فايد على الشبكات الاجتماعية، أطلق الإسلاميون هاشتاق “الدكتور محمد فايد يمثلني”، حتى الصفحات الفيسبوكية للأئمة والخطباء والوعاظ المغاربة شاركوا هذا الوسم لتوسيع وترسيخ هذا الأمر الإخواني على نطاق واسع لأن هذه القضية هي وجودية بالنسبة لهم.

وهكذا، فإن هؤلاء الممارسين العلميين الإسلاميين المزعومين ليسوا سوى نتاج تراث تاريخي محافظ ومتخلف على المستوى السياسي والديني الذي ألحق دمارًا دائمًا بمبادئ غنية رائعة للعقلانية والتفكير النقدي والصرامة العلمية والاستقلالية الفكرية التي خلفت سلسلة كاملة من المفكرين الرائعين، شملت الكندي والفارابي والرازي وابن سينا وابن رشد، متهمين بالزندقة:

  • كتب الغزالي: مصدر كفر الفلاسفة المسلمين [ابن رشد، الفارابي ابن سينا…] يكمن في الاهتمام الذي يحملونه بأسماء رهيبة مثل سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطو. يخبر [تلاميذ الفلاسفة] كيف ينكرون القوانين ويرفضون تفاصيل الأديان والمعتقدات، مع كل عظمة عقولهم وحيويتها في التحليل، معتقدين أنها مفبركة ومخادعة.

ونتيجة لذلك طالب الغزالي بعقوبة الإعدام لكل من يمارس الفلسفة. لأي شخص لديه رأي “الفلاسفة”؛ وحتى لجميع أولئك الذين يعبرون عن آراء مستوحاة من هؤلاء الفلاسفة.

  • كتب ابن تيمية: “فقط المعرفة الموروثة عن النبي تستحق أن تكون مؤهلة كعلم. قد يكون أي شيء آخر إما علمًا غير مفيد أو ما يسمى علمًا، وفي كلتا الحالتين، إذا كان هناك علم، فسيتم العثور عليه في تقاليد النبي.” وهكذا نجد ابن تيمية نافيًا كل أقوال الفلاسفة اليونانيين ومَن تبعهم من المسلمين، مؤكِّدًا أن آراءهم ونظرياتهم عبارة عن ظنون وأوهام وحدوس، ليس لها وجود في عالم الواقع المحسوس، ومؤكدًا صحة العقيدة الإسلامية البعيدة عن الظنون الفاسدة والأوهام الفلسفية الناقصة.

كما نكر ابنُ تيمية جميع الأحاديث مثل جل تيارات الإسلام السياسي السني التي ترفع من شأن العقل: كالحديث القائل: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب…..: هبط جبرائيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم: يا جبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: إني قد اخترت العقل، فقال جبرائيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه.

  • كتب طه جابر العلواني، وريث الفاروقي: “أسلمة المعرفة هي محاولة لإعادة إدخال القرآن الكريم في العالم. . . ] باعتباره الكتاب الوحيد القادر على إيصال البشرية كلها – ليس أمتنا فحسب – بل أيضًا العالم بأسره إلى بر الأمان. القرآن المهيب وحده لديه بديل شامل معرفي ومنهجي”.

محمد فايد لا يخرج عن نطاق هذا الطريق المسدود لـ “أسلمة العلم” الذي يوفر له وسادة مريحة. يمكن لبقية العالم القيام بالعلوم، ويمكن لمحمد فايد والآخرين اكتشافه مرة أخرى في القرآن والسنة!

يجب علينا أن نبني حصنا ضد اللاعقلانية التي ينتج عنها جمود الفكر الإسلامي وتحجّره، من خلال تغليب النقل على العقل، على الصعيدين المعرفي والسياسي. يجب على مثقفينا فضح هؤلاء المشعوذين الذين يستغلون الإسلام ويبيعون الأوهام ويؤخرون الشفاء الفعال أينما وجد، فقط لتعزيز أسلمة “العلوم الكافرة” الذين يستغلون ضعف المستوى العلمي والرغبة في العيش لدى كل مريض. كتب سينيك –  Sénèque-: “من لا يمنع الجريمة، عندما يستطيع، يشجعها”.    

نحن ندرك بسهولة أن الطب المعتمد على الأبحاث الحديثة غير كامل، ونعتقد أن الطب البديل انتعش من جراء أخطاء وعيوب الطب الحديث وجشعه. لكن الطب الحديث يعيد النظر باستمرار في طروحاته ويصحح نفسه عندما تتطلب الأدلة ذلك. مما ينتج عنه ظهور أفضل الأدوية والعمليات الجراحية والمناهج المتجددة طوال الوقت. الطب البديل، في الغالب، لا يتغير، لقرون، في بعض الحالات.

إذا تبنى الإسلاميون خطابًا بيئيًا وكشفوا جرائم العلوم الحديثة؛ سيكتسبون المزيد من الشرعية والمقبولية بين الحركات الجماهيرية، وسيشاركون حقًا وفعليا في بناء والمهارات العلمية لدى مواطنينا بدلاً من إغراق عقولهم في الأوهام والحكايات الخرافية.

نختم بما كتبه جاليليو جاليلي، في العماد: “الفلسفة [الطبيعية] مكتوبة في هذا الكتاب الكبير – أعني الكون – الذي يقف منفتحًا دائمًا أمام أعيننا، ولكن لا يمكن فهم هذا الكتاب ما لم يتعلم المرء أولاً فهم لغته وتفسير الشخصيات التي كُتبت  فيه. والكون مكتوب بلغة الرياضيات، وشخصياته مثلثات ودوائر وأشكال هندسية…، والتي بدونها يستحيل على الإنسان فهم كلمة واحدة من هذا الكتاب؛ من دون هذه اللغة، يتخبط المرء في متاهة مظلمة”.     

بقلم: محمد بنعيش                                     

Related posts

Top