الأدب المغربي والخصوصية الثقافية عند عبد الله كنون

في شأن تأصيل ثقافة أمة من الأمم، عادة ما نبحث عن مستنبت خاص وخصب لتشكلات الظواهر الفكرية والأدبية القديمة منها والحديثة، وأحيانا المعاصرة؛ عن طريق إعادة النظر في فكر الأصول والتطلع به نحو المستقبل.
إن الهدف، من وراء ذلك، لا يبتعد عن إعطاء نفس جديد للهوية الثقافية، التي تعتبر مطمحا كبيرا نحو تجديد البـُنى والانعتاق من أصفاد تبعية مقيتة، ظلت تعمل في خفاء لطمس تلك الخصوصية الفكرية والأدبية. فبفضل ذلك، أصبح التفكير المنطقي يغزو ساحة الأدب، بل ظلت العقلانية والتبصر منطقا يُحتذى به في مقاربة شاملة لمختلف الظواهر الأدبية والفكرية. فأيا كانت التضحيات الجسام، في سبيل إعلاء كلمة الخصوصية الثقافية، فإن الانفتاح على علوم مساعدة كان ولا يزال ضرورة ملحة، في منزلة الماء والهواء؛ بغية اكتمال فسيفساء الهوية المنشودة في أفق يسوده غيمٌ.
إن إعادة ترتيب مواد التاريخ واكتناهه، على سبيل المثال، يعد عملا نعيد من خلاله إنتاج الذات، واندغامها الكلي واللامشروط في الحداثة، خصوصا إذا كنا غير زاهدين فيه عن طريق تقليب مخطوطاته ومحفوظاته. فلا سبيل إلى تأكيد الوجود الفعلي والفاعل، في التاريخ ودفع عجلاته للدوران في سيرورة تقدمية، من دون الوقوف على ما أنجزه الأولون في مختلف مشارب المعرفة، من علم وفلسفة ورياضيات وفلك وجغرافيا ورحلات وطب وغيرها..
فالعلاّمة عبد الله كنون كان له قصْب السبق في إرساء معالم هذا التوجه الفذ في تاريخ الأدب المغربي. وغير خاف أن منطلقه الشهير، الذي دفعه إلى البحث عن التميز والخصوصية الفردية، هو حادث الصاحب بن عباد المشهور في تاريخ الأدب العربي، عندما أراد استطلاع كتاب «العـِقد الفريد» لابن عبد ربه الأندلسي، فقال كلمته التي أطبقت شهرتها كل الآفاق «هذه بضاعتنا ردت إلينا، كنت أظن أنه يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، فإذا هو لا يعدو أخبار بلادنا، ردوه إلى صاحبه، لا حاجة لنا به».
إن هذا النقد اللاذع الذي وُجه لابن عبد ربه، يمثل زراية أفـَلت معها سُعودَه الشعرية والنقدية، بما هي جناية في حق شاعر طموح ونزق؛ لأن الصاحب بن عباد لم يكن على دراية بحقيقة أحاديث الأدب الأندلسي على عهد أمراء قرطبة من بني أمية. فهذا الحادث، عند عبد الله كنون، كان بمثابة شرارة لم تنطفئ جـُذوتها، حيث جعلت، هذه الأخيرة من الأدب المغربي، وقودا يضيء الصريم. ففضلا عن المكانة الأدبية والسياسية المرموقة، التي كان يحتلها العلامة في الأوساط الثقافية المعاصرة، فإن اهتماماته كانت منصبة على الأدب المغربي في العصر الوسيط. ومنه يؤوب هذا التفاعل إلى أن ثمة بؤرا مضيئة في كل من أدب المرابطين والموحدين والمرينيين ومن أتى بعدهم، في تعاقبهم على السلطة في بلاد المغرب.
وإلى جانب ذلك، نجد الفلاسفة الذين سطعت نجومهم القطبية في سماء الأندلس على عهد المرابطين وفي مقدمتهم ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن زهر، حيث يعتبرهم عبد الله كنون خزانا لا ينضب معينهم المعرفي والطبي، إلى درجة أنهم استطاعوا أن يؤثروا تأثيرا مباشرا على الأوروبيين إبان عصر نهضتهم، فصارت الحضارة العربية معلقة بين حضارتين؛ يونانية قديمة وغربية معاصرة. وبالموازاة مع ذلك، كان عبد الله كنون يقظ الحس والبصيرة، حيث عقد مقارنة إلى حد المماثلة والتطابق بين يوسف بن عبد المؤمن الموحدي والمأمون العباسي من زاوية نهمهم الثقافي والمعرفي والفلسفي، لاسيما وأنهما كانا يقيمان مآدبَ في بلاطاتهم على شرف الفلاسفة والبلاغيين والنحويين والشعراء.
في المقابل، لم يكن الطريق مفروشا بالورود والياسمين، أمام العلامة عبد الله كنون، كي يُبْرز هذه الخصوصية المتمنعة، ويتغنى بهوية مغربية أصيلة. هادفا بذلك، إلى أن يقارع بها في محاضراته وجلساته العلمية وحواراته داخل المغرب وخارجه. غير أن بحثه الدؤوب، وتنقيبه المستفيض في المخطوطات والمحفوظات الموروثة على عهد الأدب المغربي القديم، مكنه من أن يتعرف على أعلام مغاربة مغمورين، تجاذبوا حبل المعرفة والثقافة مع نظرائهم في المشرق العربي، ودراسة إنتاجاتهم، واستبانة مذاهبهم الفكرية واللغوية. فما كان لابن أجروم النابغة النحوي إلا أن يضاهي، من خلال أجروميته، ألفية ابن مالك وسيبويه الفارسي، وقد نافسهم في تخليص إبريز اللغة العربية من اللحَن، الذي زَوِرَ الكلام العربي. ومن المنظور الشامل، الذي كان يسعى إليه عبد الله كنون في إثبات الدور، الذي لعبه علم الجغرافيا في توطين الإنسان في قلب الكرة الأرضية، نجد تحججه بمجهودات الجغرافي الشريف الإدريسي، عندما صنع خريطة العالم، وقد أقر أنها أصح صناعة شهدها التاريخ بعد خريطة بطليموس اليوناني. وخلاصة القول، يظهر أن مشروع عبد الله كنون لم يكن نابعا من صدفة وبداهة؛ وإنما عمله كان ضد البداهة؛ مشروع متفرع إلى علوم متعددة، استثمرها من أجل الخروج، بخصوصية الفكر المغربي وعراقته، إلى وجه التاريخ.
لم يكن الطريق مفروشا بالورود والياسمين، أمام العلامة عبد الله كنون، كي يُبْرز هذه الخصوصية المتمنعة، ويتغنى بهوية مغربية أصيلة. هادفا بذلك، إلى أن يقارع بها في محاضراته وجلساته العلمية وحواراته داخل المغرب وخارجه.
سياقيا، نشرت مجلة «الكرمل» في يناير من سنة 1984، التي كان يديرها آنذاك الشاعر الفلسطيني محمود درويش، عندما كان لائذا في تونس، حوارا مطولا مع العلامة عبد الله كنون، وقد أجراه المحمدان؛ بنيس والبكري. ضمن ملف كبير حول الأدب المغربي وفنونِه، التي بدأت تتفتق براعمها في ظل نشاط الترجمة، وانتشار العمل الصحافي. شمل ـ أي الملف ـ دهاقنة المغرب في الفكر والسياسة والعلوم والفنون، من أمثال عبد الله إبراهيم في موضوع «الحركة الوطنية والعمل الثقافي» وعبد الله كنون عن «التقليد والتجديد» ومحمد عابد الجابري بخصوص «مسار كاتب» وعبد الله العروي في «الأفق الروائي»، فضلا عن تطرق الملف إلى الفكر الحداثي المغربي، من خلال أهم رموزه وأقطابه؛ عبد الكبير الخطيبي، ومحمد عياد، وعبد اللطيف اللعبي، وأحمد الرضاوني، ومحمد شبعة، ومحمد القاسمي وأخيرا الشاعر محمد بنيس. إن حوار «التقليد والتجديد» كشف بالملموس عن المسار التاريخي، الذي تبلورت من خلاله شخصية عبد الله كنون؛ كأديب ومفكر وفقيه. يقول فيه: «يجب أن نفهم مصطلح فقيه فهما تاريخيا في المغرب. كلمة «الفقيه» تعني ما تعنيه اليوم كلمة «مثقف» وليس الفقيه معناه أن عمله منحصر في الفقه فقط».
فعلى الرغم من تشبع عبد الله كنون بالتعليم الديني العتيق، في جامعة القرويين في فاس، إلا أنه ظل مشدودا بأواصرَ متينة إلى الثقافة الحديثة في الفكر والأدب والسياسة. لاسيما وأنه تعرف منذ حداثة سنه على أعلام كبار في الأدب العالمي، من أمثال: ليو تولستوي ودوستويفسكي، وما يثيرانه في إبداعهم من قضايا إنسانية؛ «السيد والخادم» و«الإخوة كرامازوف». ومن هذا العشق الكبير للقراءة والبحث، سافر به ولهه وهيامه إلى المعاقل الحصينة للفكر الأوروبي الحديث؛ فقرأ لكل من فيكتور هيوغو وراسين وغوته الفيلسوف الألماني الشهير. إن النظرة الحداثية، التي كان يرمق بها عبد الله كنون إلى العالم، تستلزم أن يكون وفير المعرفة والحضور، من خلال تواجده الدائم في قلب عواصفَ تقتلع الشجر وترمي بالحجر، وفي ظل حصار وجيع، يقطع بلاد المغرب طولا وعرضا. يقول كنون في هذا المضمار: «ضربوا فاسَ وأطاحوا صمعة باب الكيسة، كنت صغيرا آنذاك، أخرجني أبي، وذهبنا لنرى سقاية «سيدي بوغالب» وهي مهدمة، فيما بعد عرفت أن الفرنسيين هم سبب ذلك، وقعت الهدنة، وبعد اليوم الدامي فرض الفرنسيون على أهل فاس ضريبة قيمتها مئتا ألف ريال».

> رشيد سكري

Related posts

Top