الإجهاد المائي بالمغرب.. معركة طويلة الأمد

من الولايات المتحدة حيث جفت بحيرة “ميد” بنيفادا، التي تعتبر أكبر خزان للمياه في البلاد، إلى فرنسا التي أضحت سلطاتها تفرض قيودا غير مسبوقة على استخدام الماء الصالح للشرب، يواصل مشكل الإجهاد المائي زحفه في مختلف مناطق العالم. وبدوره، فالمغرب ليس بمنأى عن مشكل الإجهاد المائي بالنظر إلى تأثره الكبير بتغير المناخ. ويتضح ذلك من خلال معدلات الملء المقلقة للسدود التي شكلت في السابق مصدر فخر وطني ومكنت المغرب من تجاوز موجات الجفاف الحاد المتتالية التي كان يشهدها.
ووفقا للوضعية اليومية للسدود الرئيسية الكبرى بالمملكة، التي أصدرتها وزارة التجهيز والماء، في 23 شتنبر 2022، فإن جميع السدود سجلت معدل ملء يبلغ 24.8 في المائة فقط، مقابل 38.8 في المائة قبل سنة. وبخصوص موارد المياه الجوفية، فإن الوضع مقلق أيضا. ووفقا لمعطيات وزارة التجهيز والماء، فإن معظم طبقات المياه الجوفية تعاني من مشاكل الاستغلال المفرط. وأظهرت التقييمات المنجزة لطبقات المياه الجوفية الرئيسية أن حجم المياه الجوفية المأخوذة في السنة في المتوسط (5 ملايير متر مكعب) يتجاوز الموارد القابلة للاستغلال، وهو استغلال مفرط يبلغ نحو 1.1 مليار متر مكعب في السنة.

4 أسئلة للخبير في الموارد المائية محمد البازة

 

الأزمة التي يشهدها المغرب حاليا “فريدة من نوعها”

استعرض الخبير في الموارد المائية، محمد البازة، في حوار خص به وكالة المغرب العربي للأنباء، الإجراءات التي يتعين اتخاذها للتخفيف من ندرة المياه في ظل الأزمة المائية التي يعاني منها المغرب بعد التراجع الكبير الذي شهدته التساقطات المطرية.

< ما حجم أزمة المياه بالمغرب في ظل تراجع التساقطات المطرية؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
> يمكن وصف الأزمة المائية التي يعيشها المغرب حاليا بأنها أزمة حادة، بل وخيمة للغاية، وفريدة من نوعها سواء من حيث خصائصها أو من حيث السياق الذي تحدث فيه، والتي تتجلى في انخفاض مخزون المياه على مستوى السدود الذي بلغ مستويات قياسية، خاصة وأن هذه الأزمة تشمل البلد بأكمله تقريبا، باستثناء جزء صغير في الشمال الغربي.
وبخصوص أسباب هذه الأزمة المائية فهي تنقسم الى قسمين: مناخية وبشرية. فالأسباب المناخية تتمثل في كون المغرب، على غرار العديد من البلدان، يشهد انخفاضا على مستوى التساقطات المطرية بجميع أشكالها (مطر، ثلج، برد،..) بسبب تغير المناخ الناجم عن انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري. بالإضافة إلى ارتفاع وتيرة سنوات الجفاف الذي أصبح يستمر لفترات زمنية أطول و أكثر حدة وانتشارا في جميع أنحاء البلاد. ونتيجة لكل هذا فإن معدل الإمدادات المائية السنوية آخذ في التناقص تدريجيا منذ ثلاثين سنة على الأقل، حيث إن الإمدادات السطحية للسدود على سبيل المثال كانت في حدود 10.7 ملايير متر مكعب قبل أن تنخفض إلى مستوى 7.9 ملايير متر مكعب خلال السنوات العشر الأخيرة، ثم إلى 4.2 ملايير متر مكعب فقط خلال الخمس سنوات الأخيرة، حسب معطيات قطاع الماء.
ووفقا لتقديراتنا، فإن النصيب الفردي السنوي من المياه المتوفرة خلال العقد 2011-2020 انخفض إلى ما دون عتبة الإجهاد المائي المطلق، التي هي 500 متر مكعب للفرد في السنة.
وفيما يتعلق بالأسباب البشرية للأزمة المائية فتكمن في سوء تدبير الموارد المائية المتاحة أو بالأحرى في غياب إدارة متكاملة وفعالة للطلب على المياه تهدف إلى تشجيع الاستخدام الأفضل لهذه الموارد، من خلال إدارة اقتصادية و فعالة – قبل التفكير في زيادة العرض.
فما يلاحظ في المغرب هو غياب شبه كامل لإدارة الطلب على الماء، بصرف النظر عن بعض الإجراءات الخجولة في أوقات ندرة المياه. ونذكر من بين انعكاسات النقص في إدارة الطلب على المياه الخلل في تنظيم احتياطيات المياه للتخفيف من آثار سنوات الجفاف والفوضى السائدة في الاستخراج غير القانوني للمياه الجوفية، فضلا عن التوسع في المساحات المروية من الفرشات المائية بما في ذلك في المناطق الصحراوية، وذلك بدعم للري الموضعي والمحاصيل الزراعية، مما يشكل تهديد ا لاستدامة المياه الجوفية للأجيال القادمة. كما يتجلى أيضا في قلة وعي المستخدمين بقيمة المياه وفي عدم وجود حوافز للحفاظ عليها.

< ما هي الجهود الواجب بذلها على مستوى الفرشة المائية لتفادي جفافها، بعد أزمة التساقطات التي أثرت على حقينة السدود بالمغرب؟
> أقل ما يمكن قوله عن وضع المياه الجوفية بالمغرب أنه كارثي خاصة وأن هذه المياه أضحت مهددة بالاندثار التام. فعلى الرغم من أن أكبر قدر من عدم اليقين لتقدير الإمكانات المتجددة للمياه يتعلق بالمياه الجوفية وكذلك بكميات السحب منها، إلا أن هناك عدة مؤشرات لا تبشر بالخير، خاصة وأن تداعيات الاستغلال المفرط للمياه الجوفية أصبحت واضحة عبر جفاف العديد من المنابع المائية وتوقف التدفق الأساسي للأنهار واندثار مساحات كبيرة من الأراضي المروية، بل وجفاف العديد من الفرشات المائية وتهديد استدامة الفرشات المتبقية.
وتتطلب معالجة الوضع الحالي للمياه الجوفية أولا الإرادة السياسية لاستدامة هاته الموارد وثانيا العمل على استعادة التوازن بين موارد المياه المتاحة واستخدامها وكذا ضمان الإدارة الرشيدة والمستدامة للمياه الجوفية. ومن ضمن الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل تحقيق هذه الأهداف : اعتراف الجهات المعنية بخطورة الوضع والدعوة إلى حشد جميع الأطراف من أجل تحقيق الأهداف السالفة الذكر، والعمل على التطبيق الكامل لقانون المياه 36-15، بما في ذلك إصدار النصوص التنفيذية الناقصة، وإلغاء الدعم للمشاريع التي تنص على توسيع المساحة المروية من طبقات المياه الجوفية المستغلة بشكل مفرط، وإنشاء محيطات للحماية أو الحظر في طبقات المياه الجوفية الأكثر استغلالا بشكل مفرط، وتعزيز موارد وإمكانات شرطة المياه واستخدام التكنولوجيات الحديثة للتقليل من تكاليف التحكم وتزويد وكالات الأحواض المائية بالصلاحيات والوسائل الكافية لتطبيق القوانين بعيدا عن تدخل أي جهات أخرى.
ومن بين الإجراءات أيضا منع امتداد المساحات المروية وحفر آبار جديدة، وتعزيز عقود الإدارة التشاركية للفرشات المائية على نطاق مناسب يسمح بالالتزام الفعال للمستخدمين النهائيين.

< ما هي الإجراءات المتخذة أو التي يتعين اتخاذها للتخفيف من ندرة المياه؟
> في ظل ما يعيشه المغرب اليوم، يجب إدارة الأزمة في انتظار عودة التساقطات المطرية، مع الحرص على تفادي القيام بإجراءات تؤدي إلى تفاقم ندرة المياه. ويأتي على رأس الأولويات توفير مياه الشرب للسكان والمواشي بالكم والنوع المطلوبين.
ومن بين الإجراءات المعتمدة، تقوم السلطات المعنية بوقف ري المحاصيل الزراعية باستثناء الأشجار وإنتاج البذور، ووقف استعمالات أخرى مثل غسل السيارات وملء المسابح في مراحل معينة من الندرة. ويتم توفير مياه الشرب من قبل الجهات المعنية عبر تحويل أو نقل المياه السطحية المتوفرة والتنقيب عن المياه الجوفية في الفرشات المائية الضحلة والعميقة وتحلية المياه الجوفية المتملحة (saumâtres) بواسطة محطات صغيرة الحجم وكذا تحلية مياه البحر عالية الملوحة إذا توفرت المحطات المخصصة لذلك.
ويمكن أن تضم الإجراءات أيضا استخدام المياه المالحة أو المتملحة والمياه العادمة المعالجة نسبيا لري المساحات الخضراء والملاعب وبعض الأشجار الملائمة.

< كيف يمكن للمغرب أن يتصدى لمشكلة ندرة المياه؟
> وفقا للمعطيات الحالية، دخل المغرب في حالة الإجهاد المائي المطلق بمتوسط أقل من 500 متر مكعب لكل فرد سنويا، وهو أدنى مستوى لمؤشر الإجهاد المائي. كما أن الدراسات تتوقع انخفاض موارد المياه المتاحة بنسبة 80 بالمائة في غضون 25 عاما. وقد أدرك المتخصصون في تغير المناخ أن التوقعات كانت متحفظة للغاية لأن المشكلات التي نشأت في مناطق مختلفة من العالم كانت في الواقع أكثر إثارة للقلق مما كان متوقعا.
وإذا كانت ندرة المياه قد أصبحت دائمة أو هيكلية، فمن الواجب أن تصبح إدارة ندرة المياه هي أيضا هيكلية، لكن الملاحظ خاصة خلال العقد ونصف الماضي لا يعكس ذلك.
ومن ضمن التوصيات والتدابير الكفيلة بتوفير الحلول لندرة المياه، كما توصل إليها فريق خريجي معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة المتخصصين في المياه أو المهتمين بها: – تحسين المعرفة بموارد المياه وتأثيرات تغير المناخ عليها من خلال زيادة الوعي بين صانعي القرار والرأي العام حول تأثيرات تغير المناخ بهدف دمج هذا الوضع في جميع السياسات العامة ، بغية زيادة قدرة الدولة على الصمود في مواجهة هذه الظاهرة، والإسراع في إنشاء وتفعيل نظام معلومات المياه الوطني، بالإضافة إلى تعزيز منظومة البحث والتطوير في مجالات المناخ والمياه، وتطبيق نظام محاسبة المياه على صعيد الأحواض المائية.
– تحسين إدارة العرض للمياه عبر تنظيم حملة لتوعية الفاعلين والجمهور بأن إمكانية زيادة العرض أصبحت محدودة للغاية وأنه من الضروري حاليا مطابقة الطلب مع موارد المياه المتجددة المتاحة، وتحسين برنامج بناء السدود الكبيرة والصغيرة، وإتاحة دراسات الجدوى والآثار المتعلقة بها للجمهور، دون إغفال إجراء تقييم معمق وتحديث للخطة الوطنية لإدارة الأحواض المائية بمشاركة جميع الأطراف المعنية.
– تشجيع تحلية مياه البحر بشكل أساسي لتزويد مياه الشرب وثانيا لري المحاصيل ذات القيمة المضافة العالية جدا في المناطق التي يكون فيها المزارعون قادرين على دفع تكلفة المياه المحلاة، وتشجيع إعادة استخدام المياه العادمة المعالجة، وخاصة لري المساحات الخضراء والمحاصيل.
– تعزيز إدارة الطلب على المياه من خلال مراجعة قواعد تخصيص المياه بين القطاعات وداخلها لتحقيق قدر أكبر من المساواة بين الاستخدامات والمستخدمين المختلفين ولتحسين الحفاظ على البيئة الطبيعية. وفيما يخص الأحواض المروية الكبيرة والمتوسطة التي تعتمد أساسا على المياه السطحية، يجب تقوية البرامج لتحسين الكفاءة الهيدروليكية على مستويات النقل والتوزيع وداخل الحقل من أجل تقليل العجز المائي في احتياجات المحاصيل الزراعية.
– في مناطق الري الخاص، حيث يتم استغلال منسوب المياه الجوفية بشكل مفرط، تحديد مناطق للحماية أو الحظر واتخاذ مجموعة من التدابير التطوعية لتقليل الطلب بالتشاور مع مستعملي المياه، بما في ذلك الرقابة الصارمة على سحب المياه وتوسيع المساحات المروية (إلغاء الدعم للمخالفين).
– تحسين حكامة الموارد المائية باستثمار إمكانات الإطار القانوني والتنظيمي من خلال تسريع إصدار النصوص التنفيذية ” المفقودة ” من القانون 36-15 وضمان التطبيق الصارم لجميع أحكام هذه النصوص، الأمر الذي يتطلب بناء قدرات كبيرة لـمديريات الأحواض المائية وإنشاء آليات تسمح بالتحقيق السريع في الجرائم (المحاكم المتخصصة ، الخبراء المعتمدون ، إلخ).

***

4 أسئلة للخبير البارز في الماء والتنمية المستدامة محمد العلوي

الحاجة ماسة لاتخاذ تدابير عاجلة حتى لايشكل الخصاص عقبة أمام الدينامية الاقتصادية الوطنية

تناول الخبير البارز في الماء والتنمية المستدامة محمد العلوي، في حوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء، أسباب الإجهاد المائي في المغرب، وأبرز بالمناسبة الوسائل التي يوظفها مختلف المتدخلين لرفع هذا التحدي، في وقت أصبح فيه تأثير التغيرات المناخية أكثر شيوعا في جميع أنحاء العالم.

> من أمريكا الشمالية إلى أوروبا، يواجه العالم هذه السنة موجة غير مسبوقة من الجفاف، المغرب، الذي سجل، مجددا عجزا في هطول الأمطار، لم يسلم من الظاهرة. كيف تفسرون ذلك؟
< إن الحالة التي يعيشها العالم حاليا في ما يتعلق بالجفاف والفيضانات التي شهدها في الآونة الأخيرة في عدة مناطق من العالم غير مسبوقة، ولكنها تؤكد فقط تحذيرات العلماء والمتخصصين في الماء والمناخ قبل عدة سنوات. والواقع أن العالم يشهد، منذ منتصف القرن الماضي، تغيرا في مناخه، والذي ليس سوى نتيجة مباشرة للتنمية الصناعية المفرطة التي تتجاهل الانشغال بشأن الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، المحدودة بشكل كبير.
وكما نعلم، يعاني المغرب من ندرة هيكلية في المياه تزداد حدة سنة بعد أخرى في ظل انعكاسات تغير المناخ. وهذا يشكل تهديدا اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا متزايدا ينبغي أخذه بعين الاعتبار في سياسات الدولة، وهذا صحيح بصفة خاصة لأن تغير المناخ أصبح الآن حقيقة يؤكدها عدد متزايد من الأدلة العلمية في العالم بأسره.
ويمكن، بالفعل، استشعار أثر تغير المناخ على تواتر الدورات الهيدرولوجية وتوزيعها على الصعيد الوطني. وتعد السنة الهيدرولوجية 2021-2022 مثالا جيدا على ذلك، فضلا عن السنوات الأخيرة التي سجلت زيادة صافية في وتيرة الجفاف والفيضانات. وكان لتغير المناخ، وسيكون له، تأثير كبير على تفاقم التقلبات في الزمان والمكان التي تميز موارد المياه في المغرب. خلال الفترة 2010-1940، تم تسجيل السنوات الأكثر جفافا خلال الفترة 2010-1980، عندما انخفض متوسط إمدادات المياه السطحية بنسبة 15 إلى 20 في المائة مقارنة مع متوسط 2010-1940.
هطول الأمطار في المغرب نادر وغير منتظم: تختلف المعدلات السنوية المسجلة في محطات الأرصاد الجوية اختلافا كبيرا من شمال البلاد إلى جنوبها (من 800 ملمتر في الشمال إلى أقل من 25 ملمتر في الجنوب)، ومن الغرب إلى الشرق (من 600 ملمتر إلى 100 ملمتر) مع تجسيل نسب مهمة في مرتفعات الريف والأطلس (حتى 1200 ملمتر).
وفي المتوسط، تقدر إمكانات موارد المياه السطحية على كامل التراب الوطني بحوالي 18 مليار متر مكعب في السنة، ويمكن أن تتفاوت بنسبة 1 إلى 9، حسب الوضعية الهيدروليكية للسنة: 47 مليار متر مكعب من إمدادات المياه السطحية في 1962-1961 مقارنة بـ 5 ملايير في 1993-1992، في انتظار الأرقام لهذه السنة 2022-2021 التي يمكن أن تحطم الرقم القياسي لندرة المياه.
وبالنسبة للساكنة المغربية، يتسم نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة بتفاوت مكاني كبير بين مناطق البلد. يمكن أن تختلف بنسبة 1 إلى 8 : 140 متر مكعب نسمة/سنة في حوض أبي رقراق (دون الأخد بعين الاعتبار لنقل المياه من حوض أم الربيع) و 1.180 متر مكعب/نسمة/سنة في حوض لوكوس.
ويمكن، أيضا، توضيح هذا التباين المكاني من خلال كون 7.4 في المائة من مساحة المملكة تمثل 51 في المائة من إجمالي إمكانات المياه السطحية في البلاد. ومع الأسف، فإن هذا الوضع يزداد سوءا في ظل تأثير التغير المناخي الذي يفاقم حدة الظواهر الكبيرة والجفاف والفيضانات.

> اليوم وأكثر من أي وقت مضى، حذر العديد من المسؤولين الحكومين والخبراء، من نقص المياه في المغرب، ومع ذلك لم يصل الأمر إلى حد قطع المياه. هل المغرب اليوم مجهز بشكل جيد لمواجهة هذا الوضع؟
< على الرغم من حالة الطبيعة، المتسمة بعدم انتظام التساقطات المطرية في الزمان والمكان، فقد تمكن المغرب من تلبية احتياجاته المائية دون صعوبة كبيرة، حتى خلال فترات الجفاف الشديد، مثل السنة المائية الجارية 2021-2022، وتلك التي حدثت خلال الفترتين 1980-1985 و1990-1995.
واليوم، الكل يجمع على أن هناك نقصا في المياه في المغرب بشكل هيكلي، ولكن دعونا لا ننسى أن المغرب أمة عريقة، وتمكنت باستمرار من تجاوز اللحظات الحرجة في تاريخها. تمتلك المملكة مزايا كبيرة لمواجهة التحديات المتعلقة بالمياه، بمساعدة جميع القوى الحية في البلاد.
إن الإطار المؤسسي والتنظيمي الذي ينظم قطاع الماء في المغرب، والسياسات القطاعية التي أطلقتها الدولة في السنوات الأخيرة، ولا سيما الاستراتيجية الوطنية للمياه، ومخطط “المغرب الأخضر”، المدعم بـ “الجيل الأخضر”، واستراتيجية الطاقة وغيرها، لا بد أن تمكن الدولة من رفع التحديات التي تواجه قطاع المياه، شريطة أن يكون تنفيذها متكاملا ومتشاورا بشأنه وتشاركيا.
ينبغي أن توفر الخطة الوطنية للمياه، التي طال انتظارها، للبلد رؤية متكاملة وشاملة لعدة قطاعات ذات صلة بالمياه. كما يتعين أن تعالج بشكل خاص القضايا ذات الطبيعة الاستراتيجية، مثل أولويات الدولة المتعلقة بتنمية الموارد المائية، وتحويل المياه من شمال إلى وسط البلاد، وتكييف القطاع مع نظام الجهوية.

> ما هي الحلول التي اعتمدتها الحكومة لتجنيب المملكة آثار الجفاف الشديد على المدى المتوسط والبعيد، وكيف تقيمون فعاليتها؟
< إدراكا منه للأهمية الحيوية للمياه في تقوية تنميته الاجتماعية والاقتصادية، التزم المغرب منذ الستينيات، بفضل تبصر جلالة المغفور له الحسن الثاني، بسياسة استباقية للتحكم في الموارد المائية للبلاد من خلال تشييد بنية تحتية مهمة للمياه، مكنت المغرب من تلبية احتياجاته المائية دون صعوبات كبيرة. ومنذ اعتلائه العرش، أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس زخما جديدا لهذه السياسة، لا سيما من خلال زيادة وتيرة تشييد البنيات التحتية المائية وتحديث الإطار المؤسسي والتنظيمي، إذ تمت في سنة 2015 مراجعة القانون 95-10 المتعلق بالمياه، الذي وضع في سنة 1995 أسس تدبير مندمج ولامركزي وتشاركي للموارد المائية، بموجب القانون 15-36 لسد الثغرات التي لوحظت على مدى 20 عاما من تنفيذه.
وقد نجحت البلاد منذ عدة سنوات في التحدي المتمثل في تعميم الوصول إلى الماء الشروب في المناطق الحضرية وهي في طريقها للقيام بالشيئ نفسه في المناطق القروية. وتم تطوير الري الحديث على مساحة تزيد عن 1.5 مليون هكتار، ثلثاها مجهز من قبل الدولة، ويساهم في المتوسط بنسبة 45 في المائة من القيمة المضافة الفلاحية. وبالإضافة إلى تلبية احتياجات مياه الشرب والري، تساهم السدود الكبيرة المجهزة بمحطات الطاقة الكهرومائية قدر المستطاع في إنتاج الطاقة الكهربائية في البلاد. كما أنها تمكن من حماية السهول الكبيرة من الفيضانات (الغرب، ملوية، لوكوس، تافيلالت، الشاوية…) بالإضافة إلى العديد من المدن والمراكز الحضرية الواقعة على سافلتها.
وعلى الرغم من نجاحاتها، تواجه سياسات المغرب المائية تحديات أشد من تلك التي واجهتها في الماضي. ويمكن رفع هذه التحديات شريطة تكييف البلاد لسياستها المائية من خلال إيجاد الموارد البشرية والمالية اللازمة لتنفيذها. لكن قبل التذكير بأوجه القصور هذه، تجدر الإشارة إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه المغرب حاليا في قطاع المياه يتعلق أولا وقبل كل شيء بالجانب البشري.
وفي الواقع، نشهد منذ بضع سنوات تراجعا كبيرا على مستوى المهارات “المائية” ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى عدم تجديد المعارف التي كانت من وراء المنجزات الكبيرة للمغرب في مجال المياه، والتي أثارت إعجاب واحترام المجتمع الدولي. فقد كان للمغرب شرف استضافة المنتدى العالمي الأول للماء سنة 1997 بمراكش، والذي خصص جائزة عالمية باسم جلالة المغفور له الحسن الثاني، للباحثين والمنظمات العاملة في مجال المياه.
لم يكن تطوير الري على نطاق واسع بدون عواقب سلبية على المياه الجوفية، التي يتم استغلالها بشكل مفرط بأكثر من مليار متر مكعب في السنة، والتي تعاني كذلك من تدهور جودتها بسبب المبيدات والنترات التي تتسرب إلى مياه الري. ويشكل هذا الإفراط تهديدا حقيقيا لاستدامة استغلال العديد من طبقات المياه الجوفية، إما عن طريق الاستنفاذ التراكمي للمياه غير المتجددة، كما هو حال مخزونات المياه الجوفية في كل من سوس وسايس، أو من خلال تسرب مياه البحر بالنسبة لطبقات مياه المناطق الساحلية، كما تمت معاينة ذلك على سبيل المثال لعدة سنوات على مستوى المياه الجوفية لمنطقة المناصرة في الغرب. كما أدى الضخ المفرط أيضا إلى انخفاض مقلق لمنسوب مياه بعض البحيرات، بل وحتى اختفائها بشكل نهائي، كما هو حال في إيفران (ضاية عوا، ضاية حشلاف، ضاية إفراح).
ولا يشكل قطاع الصرف الصحي استثناء في هذا الإطار، بل إنه يعرف تراجعا كبيرا، وخاصة في المناطق القروية، مما يشكل ضررا على الصحة العامة وبالبيئة، حيث يتم تصريف كميات كبيرة من المياه العادمة سنويا دون معالجة في المجال الطبيعي. وبلغ تلوث المياه بفعل النفايات الصناعية والمنزلية، مستويات مقلقة في بعض المناطق، مثل واد سبو، وبعض طبقات المياه الجوفية مثل منطقة تادلة. وفي المقابل استثمرت الدولة في السنوات الأخيرة مبالغ كبيرة، في المصبات البحرية لمدن، طنجة، والرباط سلا، والدار البيضاء، والتي تضخ كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي بالبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والتي كان من الممكن إعادة استخدامها بعد معالجتها بالشكل المناسب.
في السنة العادية، يستهلك قطاع الري ما يقارب و88 بالمائة من الموارد المائية المعبأة في المغرب. غير أن المياه المخصصة للري والتي تنظمها السدود، لم تصل بعد إلى التثمين الكمي و الاقتصادي المنشود لسببين رئيسيين: 1- ضعف فعالية الأنظمة الجاذبة للمياه، والتي ما تزال سائدة رغم الجهود الكبيرة المبذولة في إطار مخطط المغرب الأخضر والخاصة بالري المركز، 2- التأخر الحاصل في التهيئة المائية والفلاحية للمساحات التي تحيط بالسدود، والتي تبلغ بالنسبة لسد الوحدة حوالي 100 ألف هكتار.

> في الوقت الذي تعمل فيه الجهة المعنية على تطوير خارطة الطريق 2020- 2050، ماهي برأيكم السبل التي يجب على وزارة الماء والفاعلين استكشافها في إطار المخطط الوطني للماء وذلك في الوقت الذي أضحى فيه نقص المياه ينذر بالخطر؟
< توجد العديد من الحلول لمواجهة تحديات المياه في المغرب. وتنفيذ هذه الحلول في إطار استراتيجية مبتكرة ومندمجة لمجمل قطاع المياه، سيمكن المملكة من حل المشكلات الأكثر إلحاحا، وجعل الماء عاملا مهما في التنمية المستدامة. وهذا يمر أساسا، عبر تأهيل الموارد البشرية في قطاع الماء، وتجديد النخب القديمة التي ساهمت في جعل المغرب من بين أحسن الدول في هذا المجال.
ويتعين على المغرب أن يضع وينفذ سياسة مائية قادرة على ضمان توافق دائم بين العرض والطلب على الماء، من خلال التركيز على الحلول المقدمة في مجال تدبير الطلب على المياه. كما أن أي تعبئة للمياه، لتغطية الطلب المتزايد، ينبغي أن تزاوج بين التقنيات التقليدية والجديدة، مثل تحلية مياه البحر، وإعادة استخدام المياه المستعملة المعالجة. كما يجب في أي برنامج لتنمية الموارد المائية، مراعاة الحفاظ على جودة الماء والمجالات الطبيعية، والحماية من أضرار الفياضانات، وكذا مبدأ التضامن ما بين الجهات وما بين الأجيال.
ويجب أن يرتكز تمويل قطاع الماء بشكل أكبر على تطوير الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وقد حظي المغرب بشرف إطلاق أول مشروع شراكة ما بين القطاعين العام والخاص للري في العالم، وذلك في منطقة تارودانت، حيث اعتمد في السنوات الأخيرة سياسة استباقية لتطوير هذا النموع من الشراكات.
وتلعب الطبيعة دورا فريدا وأساسيا، في تنظيم الوظائف المتعددة للدورة المائية، حيث لا ينبغي لصناع السياسات المائية بالمغرب التغاضي عن الفرص التي تتيحها العمليات الطبيعية التي تحكم العناصر المختلفة للدورة المائية.
وأخيرا فإن التحديات وأوجه القصور التي تم استعراضها تشكل تحديا حقيقيا للبلاد. وهناك حاجة ماسة لاتخاذ تدابير عاجلة حتى لا يشكل الماء عقبة أمام الدينامية الاقتصادية التي يعرفها المغرب في السنوات الأخيرة تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس. لأنه وبكل بساطة فإن الماء في المغرب هو المورد الطبيعي الذي يرهن ازدهاره والذي يمكنه من تسريع أو إبطاء تحقيق الأهداف المحددة من قبل السياسات العمومية.

< فاروق العلمي (و.م.ع)

Related posts

Top