الإشكال العلائقي في المجتمع.. وأزمة الخطاب

لا شك أن الخطابات النارية التي تنتقد الواقع وتنتقد الوضع السائد وما يتصل بذلك من معوقات وعراقيل وما يكتنفها من غياب شبه تام للعلاقات سببه ضعف الجانب المعرفي والثقافي عند البعض، بالرغم من الشواهد والمؤهلات العلمية التي تحصلوا عليها، أو بالرغم من مراكزهم ووظائفهم العليا. لأن السمة البارزة في العلاقات الإنسانية تتحدد بالوعي وبالتربية وبالثقافة وبالمعرفة، بيد أن عددا كبيرا من فاقدي البوصلة يُجهزون على العلاقات ويحدثون فوضى بين مختلف الأطياف التي تشكل نسيج المجتمع في سياقاته المختلفة. فبعضهم لا يتقبل الآخر، وبعضهم لا يروق له الاختلاف في الرأي، والبعض يسيطر عليه الحسد والبغض والضغينة، وغير هؤلاء ممن  يُشكّلون مجموعات غير متجانسة لا من حيث الرأي بكل مشمولاته، ولا من حيث الثقافة، فتظهر في المجتمع على إثر ذلك مجموعة من الخطابات المتناثرة هنا وهناك، تُنتج مجموعة من الإشكالات التي لا تمت للواقع العادي بصلة، لأن معظم تلك الخطابات تجسد أخيلة صاحبيها لتحريك وضع معين دون النظر إلى مستوى التفاعل والتحولات الإيجابية للمجتمع، وهي مدعاة إلى السخط والقبح. ومن تم يجب أن ندرك أهداف ومرامي تلك المساعي والتحولات التي يرغبها أصحابها.

إن الواقع الآني تختلف فيه مجموعة من الأمور ذات الصبغة التأثيرية، فيضحى بذلك ضحية للخطابات اللامسؤولة بما تحتويه من خلفيات تُجهز أحيانا على الثقافة، وتؤثر على الجانب المعرفي وكذلك على الجانب التنموي. فللعلاقات بُعد واضح في مختلف الخطابات، فهي تؤكد تجليات الواقع بما يحتويه من أفكار مختلفة ومتنوعة. فبقدر ما يحتضنه الواقع من تعايش وتسامح وتلقائية في مجريات الأحداث التي تضفي معنى على الحياة في عمومها؛ بقدر ما تتجلى فيه ركامات من الاختلالات التي تسببها العلاقات في سياقاتها المغرضة، وفي أساليبها السلبية، لتُنتج الخطاب الفضفاض الذي يحتاج إلى علاج على مستوى التفكير، وعلى مستوى الثقافة المتدنية لبعض الأشخاص، وعلى مستوى الوعي. لذلك، نجد ميزان تأثير العلاقات في المجتمع مختلا بين فئات رامت عوالم ثقافية ومعرفية وعلمية وراكمت رصيدا تاريخيا له قيمته البارزة، وبين أصحاب المصالح الخاصة الذين لا يهتمون لا بمعرفة ولا علوم ولا ثقافة وليس لديهم وعي ولا تربية.. وهي أرصدة جسدت في سياقاتها رؤى ومسوغات بالغة الشؤم في أفكار البعض الآخر، ويحملون كل شيء بمزايدات، ما يسهم في تدمير بعض المكتسبات، ويؤدي إلى توسيع الهوة الثقافية بين الأفراد والجماعات، ويقلص من فرص التنمية.

 إن العلاقات الإنسانية داخل المجتمع بعملياتها الثقافية والتربوية المتنوعة، وبكل عناصرها المجتمعية هي مقاربة تواصلية لها دلالتها في التاريخ، وهي لا تحتاج إلى تأويل، لأن كل مكوناتها الظاهرة والباطنة تشكل لغة تواصل من حيث الخطاب الذي تمرره، ومن حيث هي ثقافة مجتمع تحتوي مجموعة من الأحداث التلاحمية الدالة على عدد من المعاني. هذا فضلا عن كونها تحمل قيما تاريخية ودلالية بين الأجيال، ورسالة نبيلة تتصل مباشرة بالهوية، فهي تمثل حاملا ثقافيا ومكونا من مكونات الأسس التاريخية المبنية على مرجعيات فكرية وفلسفية، قد يفقهها الإنسان العادي، بينما لا يدركها البعض الآخر ولا يستجلي مضامينها لغياب الوعي والنضج الثقافي لديه، ولأنه لا يمتلك رؤية فاعلة ومتفاعلة تتضمن ثقافة الخطاب في سياقه المجتمعي الذي يوفر إمكانية التفكير والفهم العميق لعدد كبير من العوالم والمعارف ذات الأبعاد الدلالية. فللآليات التواصلية، وتوجيه هذا التواصل من خلال العمليات التأثيرية مدركات بنائية تتطلب قسطا من المعرفة ومن الوعي، في نطاق أنظمة تفاعل ضمن آليات متعددة، يتحرك فيها تفكير المجتمع على نحو من التراضي والاختلاف في أمور متعددة وفق نظام من العلاقات التي تُعد من الركائز الأساسية في الحياة.

 فهل من رجل شهم ينتصر للعلاقات الإنسانية بموضوعية ليفكك شفرات المجتمع ويحل إشكالية تأزم الفهم، ويسمو بالعلاقات الإنسانية إلى المعنى الذي يقود إلى التنمية الحقيقية على شتى المستويات؟ سؤال مطروح، يجيب عنه بعض نساء ورجال المجتمع حين يرغبون العزف على الوتر نفسه.

د. جلال المرابط 

Related posts

Top