الباحث الصينيّ لي شيجيون: الثقافة العربية زاخرة بعناصر التجديد

ولد لي شيجيون (لطيف، Li Shijun) في مقاطعة قانسو الصينية، وهو الآن باحث في كلية الدراسات العربية بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين باعتباره مرشح الدكتوراه للغة العربية وآدابها تحت إشراف الدكتور شوي تشينغ قوه، مدير مركز الشيخ زايد للغة العربية والدراسات الإسلامية بالجامعة. اختار لي شيجيون الفكر العربي المعاصر موضوعه لرسالة الماجستير حيث نجح في كتابة الأطروحة التي تختص بأفكار المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري. نشر عدة مقالات تناولت الفلسفة العربية والقيم العربية الإسلامية والأدب العربي، إضافة إلى حضوره كباحث شابّ في مؤتمرات وندوات أكاديمية داخل الصين وخارجها تخص التواصل الإنساني بين الصين والدول العربية.
والجدير ذكره أنه كان يزور المغرب ضمن دراسته في مرحلة الماجستير عن طريق المنحة الحكومية الصينية ومشروع التبادلات المغربية الصينية عام 2014-2015، حيث درس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في الرباط. وتعرف فيها عن قرب على الثقافة العربية الإسلامية في المغرب الإسلامي.
يشتغل لي شيجيون الآن في دراسة القضايا الاجتماعية والثقافية للبلدان العربية والقضايا الفكرية العربية.
هنا حوار معه:

أول لقاء بالعربية كان في سن العاشرة

< ما هو أول لقاء لك باللغة العربية؟
> كان أول لقاء لي باللغة العربية هو الحوار بيني وبين صديقي المسلم وكنت في سنّ العاشرة. ولدت في مدينة لانتشو التي تقع غربي الصين، وسكانها مكونون من قوميات عدة، بما فيها قومية “هوي” التي اعتنقت دين الإسلام منذ القدم. وقد لاحظت منذ صغري، أن كل هذه القوميات تعيش وتتشارك دومًا في جو الوئام والتناغم والاحترام المتبادل، شأن ذلك شأن الإخوة داخل أسرة كبيرة عادية. لذلك كان عندي، في الفترة ما بين المدرسة الابتدائية والثانوية، العديد من الزملاء والأصدقاء المسلمين، الذين يتعلمون ويتفاعلون مع المجتمع الصيني المعاصر بلا فرق أو اختلاف. إلا أني عرفت ذات يوم من صديقي المسلم، واسمه “هو هو” بالصينية، أنه قد تعلم جملة من اللغة العربية من أبيه ألا وهي “السلام عليكم” (كان ينطق باللهجة الصينية القريبة إلى العربية الفصيحة). فسألته: “هل لك اسم خاص لدينك؟” قال: “نعم، اسمي في الإسلام باللغة العربية هو أمين”. وبكل صراحة فوجئت إلى حد كبير بهذه اللغة العجيبة والجديدة بالنسبة لي، على الرغم من أني لم أكن أعرف شيئًا حول الإسلام أو اللغة العربية. لقد تركت تلك المرحلة بالفعل انطباعات طويلة المدى في قلبي، والأمر الذي أدى إلى اختياري لها كتخصصي في الجامعة قبل تسعة أعوام تقريبًا، حيث بدأت رحلتي في الفهم والتقرب الحقيقي من هذه اللغة والحضارة المتألقة التي تعيش وراءها بشكل رسمي.

< من هم أساتذتك الأوائل في اللغة العربية؟
> التحقت بجامعة الدراسات الأجنبية بداليان (مدينة داليان هي مدينة ساحلية صينية، تقع على الساحل الشمالي الشرقي الصيني، وكانت تشتهر بانفتاحها ونشاطها وجمالها الطبيعي وملامحها الحديثة منذ أواخر القرن الماضي حتى يومنا هذا) عام 2009، حين بدأت أدرس في تخصص اللغة العربية تحت إرشاد أساتذة كبار، ومنهم الأستاذ وو باو قوه (عماد، Wu Baoguo) ووانغ ده شين (إياس، Wang Dexin) ولي وي تشونغ (خليل، Li Weizhong)، وما كان يجمع بينهم في ذلك الوقت، هو أن جميعهم كانوا من رواد متعلمي اللغة العربية من جيل أربعينيات القرن الماضي وكانوا متفوقين في الدراسة، فقرروا البقاء في الجامعة بعد التخرج من أجل مواصلة خطواتهم في تعليم اللغة العربية والبحث العلمي والترجمة. كما أن جميعهم كانوا منهمكين في قضية تعليم اللغة العربية في الصين لمدة أكثر من أربعين عامًا، فلديهم خبرات وافرة في هذا المجال، وقد أصبح طلابهم منتشرين في الحقول المختلفة التي تتعلق باللغة العربية في أنحاء الصين.
في الوقت نفسه، كانت لكل منهم ميزته الخاصة. فالأستاذ وو باو قوه، مثلا، ظل يولي اهتمامًا كبيرًا بالبحث في العلاقات التجارية بين الصين والدول العربية وأيضًا اللسانيات العربية. والأستاذ وانغ ده شين يعجبه التاريخ العربي والثقافات العربية الإسلامية. أما الأستاذ لي وي تشونغ فكان يوصف بأنه مهووس بالترجمة وهو ينهمك بشكل عميق في ترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى الصينية، وقد ساهم في ترجمة وتقديم أعمال جبران خليل جبران و”ألف ليلة وليلة” للقراء الصينيين. وبالإضافة إليهم، كان يساعدني أيضا، في المرحلة الابتدائية، بعض الأساتذة الشباب مثل الأستاذة سونغ يي (سعيدة، Song Yi) والأستاذة لي بي (نفيسة، Li Pei)… إلخ. أما في الوقت اللاحق، فلحسن حظي أني نجحت في الالتحاق بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين للماجستير ثم الدكتوراه، وهنا التقيت بالأستاذ شوي تشينغ قوه (بسام،Xue Qingguo) العظيم والعزيز. وبودي أن أغتنم هذه الفرصة كي أعبر عن شكري القلبي لكل من هؤلاء الأساتذة الكبار لاهتماماتهم ومساعدتهم الدائمة لي.

العلاقة بين الفكرين العربي والصيني

< درست الفكر العربي، هل من علاقة بين هذا الفكر والفكر الصيني؟
> إجمالا، كان الفكر العربي ولا يزال مجهولا إلى حدّ كبير بالنسبة لمعظم الصينيين. إن الفكر، بلا شك، هو النخلة الجوهرية لكل حضارة. أما الحضارة العربية الإسلامية فهي في عيون أغلبية الصينيين، حتى الوقت الحالي، تعني الصحارى والمساجد والبترول والأطعمة الإسلامية وغيرها من الأشياء الرمزية. بمعنى أن معرفة وفهم الصينيين للحضارة العربية، بشكل عام، لم يتجاوز المستوى السطحي بعد. لذلك، ومع تطور وتقدم تجربتي في دراسة هذه اللغة العريقة الجذابة والبحث في عدة نواح من هذه الحضارة الغنية، أشعر بأن هناك مسؤولية للباحثين الشباب أن يدخلوا إلى عمق هذه الحضارة، من أجل عرض ملامحها الأصلية والحقيقية، خاصة في أوقات تشوّه صورة العالم العربي في إثر النشاطات الإرهابية والحروب والاضطرابات من ناحية، وتشدّد التأثيرات السلبية من قبل الخطاب الغربي من ناحية أخرى.
إذن، لقد بدأت أقرأ وأتعمّق في دراسة الفكر العربي حيث انشغلتُ كثيرًا بالبحث عن نقاط التشابه بين الفكر العربي والفكر الصيني. لقد وجدت، مثلًا، أن هناك العديد من الأفكار التوفيقية داخل الفكر العربي، مثل الدعوة إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، وبين الحداثة والتقاليد، وبين القرآن والعلوم والتكنولوجيا. في حين أن الحضارة الصينية المتمثلة في الأفكار الكونفوشيوسية والطاوية تأثرت إلى حدّ كبير بأفكار “التوفيق والجمع بين الإنسان والطبيعة”، حتى قال المفكر العظيم كونفوشيوس إن التوفيق (أو التوافق، الاعتدال، الوسط) هو من أسمى الأخلاق الإنسانية وينبغي للناس بذل كل الجهود لتحقيقه. إن هذه الأفكار، فضلًا عن أفكار السعي إلى السلام والوئام والإحسان وغيرها من القيم الإنسانية، في اعتقادي، كانت ولا تزال تعمل وتساهم في الارتباط القوي بين شعوب الحضارتين.

أنا والجابري

< أنجزت رسالة ماجستير حول المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فلماذا وقع اختيارك على هذا المفكر؟
> يرجع اختياري لهذا المفكر الكبير إلى تفكيري في زيارة المغرب. كانت أمامي اختيارات من بين مشاريع التبادلات للحكومة الصينية، ووجدت أن معظم الطلاب في الكلية يفضل مصر والأردن والكويت ولبنان وغيرها من الدول على البلدان المغاربية. السبب في ذلك أنهم كانوا يقلقون على عدم فهم الدارجة المغربية، وقيل إن اللغة الفرنسية تستخدم أكثر من العربية في تلك البلدان. ولكنني، حينذاك، صممت على أن أدرس الفكر العربي، كما أن المغرب، كما عرفت، تعتبر “مهد المفكرين العرب”، فقد نشأ فيها العديد من الفلاسفة والمفكرين العظماء قديمًا وحديثًا. ووجدت أخيرًا اسم الجابري بعد القراءة المتوفرة، وفوجئت بكثرة مؤلفاته وشهرته على المستوى العالمي، إضافة إلى رؤيته الفريدة للقضايا الفكرية العربية.
ومن ثم، قررت أن أبدأ البحث في الفكر العربي المعاصر، وأخذت أفكار الجابري نموذجًا، ذلك أن البحث في هذا المجال كان قليلًا للغاية في الصين. كما أن مثل هذه الأفكار العقلانية التي جاءت من قبل المفكرين العرب في الوقت المعاصر، في ظني على الأقل، يستحق البحث فيها وتقديمها إلى القراء والمسلمين الصينيين كل الاستحقاق. وما إن ذكرت هذا التفكير للأستاذ بسام حتى وافق وقدّم لي تأييدًا كبيرًا منذ ذلك اليوم حتى الوقت الحالي.
إني دائما في اشتياق شديد إلى الحياة والدراسة في المغرب وأتمنى بالفعل أن أرجع إليها يومًا ما كي أعيد خطواتي من الرباط إلى مراكش، ومن الجابري إلى ابن رشد.

< ما هي الخلاصات التي توصلت إليها في فكر الجابري؟
> حقيقة، كان للدكتور الجابري كثير من النظريات التي تتطرق إلى شتى الإشكاليات الفكرية العربية المهمة، مثال ذلك نقد العقل العربي، الهوية العربية، الأصالة والمعاصرة، الديمقراطية وغيرها. الذي أعجبني أكثر هو خطابه ورؤيته نحو مسألة “التراث”.
لقد قام الجابري، حسبما توصلت إليه، بتعريف “التراث” وتصنيفه مجددًا ونقد المواقف التقليدية في قراءته ووصف كل منها بالسلفية، إذ إنها تقوم على نفس البنية التفكيرية أي على التقليد والاتباع. كما اقترح القطيعة مع “الفهم التراثي للتراث”، و”الفصل والوصل” من أجل تجاوز قيود العقل التراثي في الحاضر وإعادة بناء العلاقة مع التراث. يرى الجابري أن على العرب أخذ الروح العقلانية والنقدية من كبار الفلاسفة العرب القدماء لا سيما ابن رشد، ثم تطويرها لكي تتماشى مع عصرنا الحاضر، وتوظيف دورها الإيجابي في إعادة بناء الثقافة العربية الإسلامية.
بجملة أخرى، فإن مفهوم التراث في نظرية الجابري، كما أظن، هو إحياء الأجزاء المتحولة داخل الأفكار والثقافة العربية والإسلامية واستخدامها في العصر الحاضر، من أجل أن تكون هذه الأفكار والثقافة حيّة وتتعايش مع العصر وتلعب دورها في النهضة العربية.

< ما هو اهتمامك بالفكر العربي عموما قديما وحديثا؟
>عمومًا، أهتم في الوقت الحالي بالعناصر التجديدية داخل الفكر العربي القديم والحديث، ذلك أني وجدت في داخل الثقافة الصينية أن قدرة ملاءمة التقاليد مع الحداثة عالية نسبيًا، ربما بسبب العناصر التجديدية فيها. ولا أظن أن هناك تناقضًا مطلقًا بين التقاليد والحداثة داخل الثقافة العربية الإسلامية كما يقول بعضهم، فأحاول الآن البحث عن كل العناصر التجديدية فيها، سواء أكانت من الفلاسفة القدماء مثل ابن رشد والفارابي والكندي وابن سينا، أو المفكرين الحديثين مثل الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وزكي نجيب محمود ومحمد أركون والجابري… إلخ. وأتمنى أن أترجم بعض مؤلفاتهم إلى اللغة الصينية في المستقبل لو سنحت لي الفرصة، بينما سوف أواصل دراستي وبحوثي في المجالات المعنية بكل سرور وحماسة.

Related posts

Top