البعثات التعليمية في العهد الحسني – الحلقة 17 –

لم يطرح موضوع الإصلاح في المغرب إلا بعد الاصطدام بالدول الأوروبية من خلال حدثين كان لهما أثر بالغ في نفوس المغاربة. يتجلى الأول في هزيمة المغرب أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي، حيث شكلت هذه الهزيمة التي لم يكن أشد المتشائمين بتوقعها، صدمة للنخبة السياسية المغربية، وطرح سؤال الذات لدى النخبة المثقفة والقادة السياسيين. ويتجلى الثاني في الهزيمة النكراء في حرب تطوان أمام إسبانيا، حيث استفحلت الأوضاع مرة أخرى، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية وزادتها تأزما، وفقدت الدولة المغربية هيبتها السياسية والعسكرية في الساحة الدولية فانكسرت شوكتها. كما كشفت معركة إيسلي عن تقادم النظم السياسية والعسكرية والتعليمية المغربية التي اعتمدتها سياسة البلاد في خضم صيرورتها التاريخية، فأصبح الإصلاح ضرورة ملحة تفرضه الظرفية آنذاك، وشمل بالخصوص الجانب العسكري الذي أخذ حيزا مهما. كما أن الجانب التعليمي نال هو الآخر قسطا بعكس الأول، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الخارج.
شكلت البعثات التعليمية في العهد الحسني، لحظة تاريخية مهمة في التعليم العصري، وكان الهدف المقصود من إرسال البعثات توفير الكفاءات الوطنية اللازمة لتنفيذ المشاريع الإصلاحية التي برمجها السلطان في سياسته. فانكب اهتمامه على هذه البعثات لتنفيذ طموحه السياسي بعد عودتها للنهوض بالمرافق الحيوية، الشيء الذي نلمسه في التوزيع الجغرافي لطلبة البعثات، حيث تم توزيعهم على العديد من الدول الأوروبية.
سنركز في هذه الحلقات على أن نتائج البعثات لم تكن بارزة ومؤثرة في بناء دولة مغربية حديثة، كل ما سبق ذكره يجعلنا نطرح مجموعة من الإشكالات التي حاولنا الإجابة عليها بالتفصيل في الفصول الآتية:
كيف جرى انتقاء الطلبة الواقع عليهم الاختيار بغية إرسالهم للدراسة بالخارج ؟ وهل تمت دراستهم في ظروف ملائمة ؟ وإلي أي حد يمكن تفسير سيطرة العائلات الكبرى على السير العام لهذا المشروع الإصلاحي؟ وهل كان هناك تنويع في البلدان الأوروبية التي قصدها طلبة البعثات لإكمال دراستهم بها ؟ هل يمكننا الحديث عن تقييم الحصيلة إذا كانت إيجابية أم سلبية ؟ وما هي العوامل المؤثرة على المشروع الإصلاحي وساهمت في إفشاله

نتطرق في هذا المبحث إلى نماذج من الأعمال العلمية التي خلفها طلبة البعثات أثناء تواجدهم بالأقطار الأوروبية موازاة مع دراستهم؛ حيث سندرج الحديث عن أبرز هذه المؤلفات. كما سنقف عند كل واحدة على حدة.
بقي السيد العلمي منكبا على اشتغاله في الميدان العلمي بالمغرب حتى بويع السلطان الحسن الأول، حيث حدث حادث جديد في حياة المترجم، ففي عام 1291هـ بعثه السلطان ليدرس الطب -على الطريقة الحديثة- بالشرق، في الكلية الطبية الكبرى بقصر العيني بالقاهرة، بعدما كان ابتدأ دراسته الطبية بالمغرب.
ومن ثمرات دراسته للطب أنه بعدما عاد إلى المغرب وضع في هذه المادة مؤلفات عديدة طرزها بأعمال الطب الحديث، ومنها: «ضياء النبراس في حل مفردات الأنطاكي بلغة أهل فاس»، شرح فيه ما في تذكرة الأنطاكي من الرموز بما شاع من أسمائها بمدينة فاس، بالإضافة إلى مؤلف «البدر المنير في علاج البواسير» الذي فرع من تبييضه عشية يوم الاثنين 15 محرم عام 1297هـ/1879م. ثم مؤلف« الأسرار المحكمة في حل رموز الكتب المترجمة»، وضع فيه تفسير لإصلاحات وغريب الكتب المترجمة حديثا إلى العربية. وأخيرا مؤلف« التبصرة في سهولة الانتفاع بمجريات التذكرة»، رتب فيه تذكرة الأنطاكي بترتيب الأمراض بدلا من الحروف، ليسهل الفحص على من يطلب علاج مرض مخصوص حتى يجده في باب واحد، عوضا عن البحث في الحروف 12028.
ولما عاد من مصر اختصه السلطان مولاي الحسن -رحمه الله- طبيب لنفسه وعياله ولازم الأعتاب الشريفة بصفته طبيبا، وكان فتح مكانا لاستقبال المرضى ووصف الأمراض والعلاج في فاس، بناحية السلسلة الموالية للحمام بالتجارين، ولم يطل ذلك، فأصيب رحمه الله بفالج في نصفه الأسفل، فلزم داره من سنة 1304 إلى أن أدركه أجله سنة 1323.
وكان يتردد إليه طلبة فاس لقراءة ما يحسن من تلك العلوم الرياضية الميقاتية، منهم الشيخ محمد بن علي الأغزاوي، ومنهم السيد عبد الكريم ابن العربي بنيس مصحح طبع ضياء النبراس. بعد العلمي يأتي ابن الكعاب : محمد بن محمد بن علي الشركي، وهو من أفراد البعثة الحسنية إلى فرنسا ثم إلى بلجيكا، ابتداءا من أواخر عام 1297هـ/1879م، الذي خلف رحلة في مجلد لا تزال مخطوطة، وهي في حوزة الأستاذ المجاهد محمد بن الحسن الوزاني.
وتشتمل هذه الرحلة على نظائر المكاتب التي كان يبعث بها للموظفين المغاربة السامين أو إلى أصدقائه.
أما عن الطالب الزبير بن عبد الوهاب سكيرج الفاسي، نجد أنه ابتكر جهاز فلكيا أسماه« ذات الكفين الأفقية» وهو عبارة عن رخامة أفقية رسم فيها البروج الشمالية والجنوبية لتقريب معرفة نقطة حلول الشمس في أي من البروج، وذلك بواسطة الظل الذي يرسمه خط المري المركزي بوسط الرخامة.
كما خلف الطاهر الأودي كتابا تحت عنوان« الاستبصار» وهو في الأصل تأليف جغرافي عام يقع في 211 صفحة، استهله بالحديث عن أسباب
وأطوار الحرب العالمية الأولى ومخلفاتها، ثم انتقل للتعريف بالكيانات السياسية لكل قارة على حدة ،مفصلا تارة أخرى، ومذيلا حديثه عن كل قارة بجدول توضيحي حول أسماء أقطارها وعدد سكانها وعواصمها وعدد سكانها ووضعيتها السياسية، ثم تحدث عن بعض الأحداث السياسية التي عاشها المغرب قبل عهد الحماية الفرنسية وبعدها، ومنها حديثه عن المهام التي قام بها، وبعد هذا نجد بالكتاب مراسلات سياسية عديدة تأخذ قسطا مهما منه ضمنها في آخر كتابه.
لقد صاغ الطاهر الأودي كتابه هذابأسلوب مهلهل أقرب إلى الدارجة منه إلى العربية الفصحى، مما جعل قراءاته مستعصية وأحيانا متعذرة، فضلا عن افتقاره لوحدة الموضوع وانتظام محاوره.
ولا شك أن التأليف تلك خصائصه، وخال من أي سعي نظري جاد سيكون من المجازفة اعتباره إنتاجا فكريا قابلا للتحليل أو التأويل، وبالتالي استشفاف عناصر تقويمه.
ويمكن اعتبار الجغرافيا والهندسة من أبرز الميادين التي أينع فيها خريجي البعثات، فإلى جانب اختراع بعضهم ساعات تقنية وأجهزة فلكية وما يدخل في معناها من الرسوم، ترك عدد منهم تصاميم هندسية متنوعة وخرائط مرسومة وفق الطرق الحديثة، توخى واضعوها نوعا من الدقة ينم عن كفاءتهم في هذا الميدان.
ولتقريب صورة هذه الأعمال وإبراز مستواها، ارتأينا الاقتصار على تقديم نموذج تمثيلي يأتي في مقدمة هذا الصنف من الموضوعات التي برز فيها طلبة البعثات، وهو عبارة عن مجموعة من الخرائط الجغرافية جمعها أحمد شهبون في كتاب على شكل أطلس سماه« كتاب الجغرافية المغربية”.

> بقلم: يونس برحمة

Related posts

Top