البَهْـلول والإبْـداع المَثَـلِيّ.. “أمثال تحْت الخيمَة” أنموذجًا

تشكّل مجموعة “أمثال تحت الخيمة” الحلَقة الثانيةَ في سلسلةٍ أطلقها الزّجّال المغربي “عبد المجيد البهلول”، قبل سنوات، باسم “سلسلة الأمثال”، بعد أضمومة أولى عنْوَنَها بـ”أمثال اليوم”، وهدفُه منها إبداع أقوال مَثَليّة، وعدم الاقتصار فقط على ترديد الأمثال التي وصلتنا من أسلافنا، والتي عادةً ما نسمعها من أناسٍ كبارِ السنّ، أو مِنْ حَكَواتيّين، يذْكُرونها تحت عبارة دالّة، هي “قالوا زْمَانْ”، وكلُّنا يتذكّر برنامجا ناجحا كان يُبَثّ على أثير الإذاعة الوطنية في رمضان، قبل حوالي ثلاثة عقود خَلَت، اسمُه “قالوا زْمانْ..”، ومنه سمعْنا أقوالا تراثية وحِكَما كثيرة من ماضينا البعيد.
يسعى البهلول، من خلال عملَيْه المذكورين، إلى كتابة أمثال جديدة، غير متداوَلة بين الناس، حول مواضيع حديثة يفرضها العصر الراهن، وفي أشكال فنية تنطوي على شيء من التجديد كذلك. وهو لا يَدّعي أن ما يكتبه ينْسَخ ما تقدَّم، أو يتجاهلُ ذلك الإرث الهائل الذي خلّفه أجدادُنا في أدب الأمثال، بقدْر ما يُريدُه أن يشَكّل إضافة إلى ذلك الرصيد الإبداعي الأصيل في الأمثال، الذي يَحِقّ لنا أن نفْخر به، ويلزمنا أن نُوليَه اهتماما أوفر تجميعا وتصنيفا وتحقيقا ودراسة. على أن الأنجعَ أن يُدْرَس برُؤًى منهجية فعّالة في المقاربة للوقوف على كثير من الفوائد والمعاني التي تختزنها أمثالُنا الموروثة. فعمَلُه – مع اعترافه بكونه مجهودا قابلا للنظر – يَروم ابتكار أمثال جديدة يتركها للأجيال الحاضرة والمستقبلية، ويحْسِبها تنطوي على غير قليل من الفائدة والمتعة معًا، ويمكن أن تكون موضوعا لأبحاث علمية في النطاق الجامعي وخارجَه.
ولا مناص من الإشارة، ها هنا، إلى تجربة مُشابِهة، صاحبُها الزجّال المغربي “لحسن باديس”؛ ابن تافيلالت، الذي صدر له عملٌ، في جزأين، ضمّ جملة وافرة من الأمثال التي ابتكرها، بعنوان “مائة مَثل ومثل”، علاوة على أضمومات زَجَليّة؛ من مثل “كِيفاشْ..؟”، و”مْحايَنْ الوَقْت”، و”هْوايَشْ لَمْعانِي”. وفي مجال الإبداع الشعبي دائمًا، صدر لباديس كتاب “صيفطْتْ لكْ السّْلامْ”، الذي ضمّنه خمسين ومائة (150) “سْلاَمْ” من وَضْعِه وابتِكاره أيضًا.
إن الدافع الأساس الذي يَقْبَع وراء توجُّه البهلول، منذ بدايات الألفية الجارية، إلى إبداع أمثال في مواضيع متنوعة ومتعددة، هو تأثره البالغ – كما ذَكَرَ لي – بالأمثال التي كان يرويها له أبوه رحمه الله، منذ صِغَره، وكان يحرصُ على تلقينها له بشتى الطرق؛ لِما فيها من مَعانٍ عميقة، ومن حِكم وقِيم راقية، ومن جمالية طافِحة أيضا؛ من قبيل: اللي دار شي يلقاه – خايف عليك .. ما أنت من السلاكْ، ما أنت من الكلابْ… فقد أدرك والده أنّ الأمثال وسيلة فعالة في التربية على القيم والمُثل العليا، وطريق ناجعٌ لتهذيب الذوق وتنميته، ولغرس الجمال والسمو الروحي في الأذهان والأفئدة، ولتنشئة الصبيان على حبّ الكلمة الشعرية الراقية والبهية. وقد صدَق في رُؤياه هذه؛ إذ كانت الأمثال – وما تزال – كذلك تماما؛ بالنظر إلى أدوارها الفاعلة في التربية والتكوين والتهذيب.
“أمثال تحت الخيمة”.. هو العنوان الذي اختاره المبدع لمجموعته الثانية ضمن السلسلة المذكورة في مستهلّ المقال، وهو يقوم على مكوِّنين مهمين دالّين؛ الأول يحدد نمط الكتابة الواردة بين دِفّتي المجموعة (أمثال)، والثاني يُفهَم منه مباشرةً الدلالة المكانية (تحت الخيمة)؛ إذ هي أمثال تصلح لأنْ تقال في جلسات سَمَر بدوية، كما أن جملة منها ترتبط بالخيمة وأجزائها، وتؤكد هذا الأمرَ الصورةُ التي تحتل حيّزا مهمّا من صفحة الغلاف الأول للمجموعة، وهي – للإشارة – صورة من إبداع البهلول كذلك. ولا يخفى علينا أن الناس اليومَ، ولاسيما الصغار والشُّبّان، لا يكادون يعرفون شيئا عن الخيمة والمعجم اللغوي المتصل بها، حتى إذا سألتَ أحدَهم الآنَ عن أسماء أجزاء الخيمة، فإنك لن تَظفر بجوابٍ إلا فيما ندَرَ من الحالات! الأمرُ الذي يَحِزّ في النفس حقا؛ لأننا بذلك نتجه إلى نسيان جزء من تراثنا اللغوي الأصيل، في ظل عدم قيام المدرسة والإعلام بدوريهما المفروضين في هذا الإطار. وحتى يُسْهِمَ في حفظ جزءٍ من هذا التراث، ارتأى عبد المجيد البهلول أن يَنْظِم – على غرار ما كان يفعله أصحابُ المنظومات العلمية؛ في الفقه والنحو والعَروض وغيرها – أبياتا شعريةً في أجزاء الخيمة حتى يسْهُل على المتلقي اليومَ معرفتُها وحفظُها؛ وبذلك يمكن أن نحفظ جانبا مهمّا من تراثنا اللامادي/ القَوْلي. ويمكن الرجوع إلى المجموعة للوقوف على جملة وافرة من هذه الأبيات تحت عنوان “أمثال عن الخيمة” (ص 12-14).
تقع هذه المجموعة، الصادرة عامَ 2004 بوجدة، عن مؤسسة النخلة للكتاب، في ستٍّ وخمسين (56) صفحة من القِطْع المتوسط، وتضمّ عدداً من النصوص الزجلية والأمثال المَقولة في مواضيع كثيرة ومتنوعة، بعضها اجتماعية، وبعضها ثقافية… وقد لَمْلَمَ جملة منها تحت عناوين فرعية، ولاسيما في بدايات الأضمومة، مع ملاحظةِ أنّ أكثرَها غيرُ وارد تحت عناوين، بل هي نصوص زجلية في شكل رباعيات؛ أي أربعة أشطر، تكوّن بيتين شعريين على النمط الكلاسيكي، ينتهيان بقافية ورويّ موحّدين، أو في شكل أبيات مفردة، أو أبيات مزدوجة ينتهي كل شطر فيها بحرف موحّد.
ومن هنا، يتضح مَيْلُ المبدعِ إلى كتابة شذرات شعرية زجلية، أو نصوص مُفْرِطة القِصَر، وبالغة الإيجاز، لكنها مكثفة ومشحونة بدلالات عميقة، ومَعانٍ وقِيم كثيرة؛ فقد تناولتْ جملةٌ من نصوص الأضمُومة العلاقات بين الناس، وتحولاتها في ظل مجتمعات متطورة على كافة المستويات اليوم، وجسّدت قيم الصدق والوفاء والإخاء والصبر والغربة والحنين والصُّحبة والإحسان والزهد في المتاع الدنيوي الزائل وغيرها من الثيمات والقيم الإيجابية النبيلة، وجسّدت نصوصٌ أخرى قِيمًا مُعاكِسة؛ إذ تطرق البهلول، في بعض رباعيات المجموعة وأبياتها الزجلية والمَثلية، إلى عواقب النفاق والخيانة والغش ونحوها من القيم السَّلْبية الواجبِ الابتعادُ عنها. ومن هنا، يظهر بجَلاءٍ البُعْد التربوي للأضمومة.
كما أن عددا من نصوصها يجري مَجْرى الحِكم، صاغَها انطلاقا من تجربته المَعيشة واقعاً، ومن تجاربِ غيره ممّنْ خَبَروا دروب الحياة بحُلْوها ومُرّها، وعبّر عنها شعرا، ووضَعَها بين أيدي الناس علّهُم يستفيدون منها في تقويم سلوكاتهم، وفي تهذيب أخلاقهم، وفي الارتقاء بحَيَواتهم معنويا وروحيا.
عُموما، فنصوصُ المجموعة لامَسَت موضوعات ترتبط بالذات والموضوع/ الواقع معاً، وراهَنَت على تحقيق غاية التربية والتهذيب والتخليق.. إنها تعكس رِساليّة الأدب، سواء الفصيح أو الشّعبي، التي يؤمن بها البَهْلول، ويدافع عنها باستمرار؛ فالكتابة الأدبيةُ – بالنسبة إليه – إذا لم تكن ذات رسالة نبيلة في الحياة، فإنه لا يرى فيها خيرا إطلاقا؛ لذا، تلْفي نصوصاً من المجموعة تدعو إلى أشياء، وأخرى تنهى عن أشياء مخالِفة…
وجديرٌ بالذكر أنّ مبدعَنا الشعبيَّ يَعُدُّ التعبيرَ بالمَثل وسيلة ناجعة وفعالةً في الإبلاغ والتأثير؛ فهو كلام يمتاز بالإيجاز والتركيز، وحُسن الصياغة، وخاصية التشبيه، والتعبير عن فائض المعنى ووافِرِه؛ وعليه، كان وسيلةَ تعبيرٍ لدى كثيرين قديما؛ كما تعكس ذخيرةٌ مهمةٌ من الأمثال التي وصلَتْنا من القُدماء، في كتب ومصنفات عِدّة منشورة. يقول: (ص11)
المثل كُــلو مْعـــــــــاني
وبالمعــنى يَمْكَن يتّفْـهَم
يَقْراه المَشْطون والهاني
ومَن سوارُو يزيد يَتْعَلّم
ولذا، كان دائمَ الحضور في مجالس العامّة والخاصّة، وكان أكيدَ التأثير ولوْ قَلَّ: (ص11)
المثل كُلْشي فيه تجمع
وهو حاضَرْ في كل مَجْمع
ايلا تنطَــقْ ليهْ سْمَــع
وغِيــرْ شْـــوِيا مَنّــو تشبع
وممّا قال في المثل كذلك: (ص11)
الجلسة أبْلا مثل كالزَّبْدة بْلا عْسَل
المثل سِيــفْ يضْـــرَبْ وما يقْــتلْ
وقَبلَ ختْم هذه المقالة المُقتضَبة، نورد بعض المقتطَفات والنُّصوص المختارة من أضْمُومة “أمثال تحت الخيمة” البديعة: (ص9، ص10، ص15، ص22)
– عــــوّلتْ على لقلـم وحــروفــــو
خلاّني عايش في الأوهام
اللّي يتْسَنّى من التأليف مَصْروفُو
يبــقى جيعـانْ طُول الأيام
– اللّي ابْغا في حْياتُو يتمَحّن
ايخَلّي شَغْــلو، ويَتــبع الفَــن
– دَرْت كْـلامـي في الــدّْلالة
ما جْبَرْت شْكُون اللّي يشْريه
حديث الصحّ ولاّ في حَالَة
وقْليلْ في الدَّنـيا اللّي يَبْغـــيه
– لَحْروفْ عَمّرو لوراق
والكـوّال اعْيا ما يْكول
هذا وقْــت الــــــزّْواقْ
اَلمَعْقول ما بْقى مَقبولْ.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد صدر لعبد المجيد البهلول، علاوة على المجموعتين اللتين ذكرناهما قبْلاً، ديوانان زَجَليان هما: “ريح الشُّگران” و”ردّ البالْ”، وشارك في كثير من المهرجانات والملتقيات الإبداعية في مُدن مغربية عدة؛ في مكناس، ووجدة، وبنسليمان، وأبي الجعد… وله إبداعات أخرى مخطوطةٌ يَعْتزم نشْرها لاحقا؛ كما أخبرني بذلك…

< فريد أمعـضشو

Related posts

Top