التباس مفهوم العلم

وتأثيره على الخلط بين الديني والسياسي

مقدمة:
يحضر في بالنا سؤال مشترك هو لماذا تُصرّ الفرق المتشددة من دعاة ما يسمى “بالإسلام السياسي” على تبديد كل الرأسمال الحضاري والثقافي للإسلام الذي راكمه منذ قرون، وكيف نشأ لدى هؤلاء القوم هذا التعطش الأعمى والدموي للاستيلاء على السلطة والدولة بالحديد والنار؟
هناك عدة زوايا ممكنة للاقتراب من هذه الأزمة الشاملة التي يعاني منها الإسلام، ولكن آليت على نفسي إلا أن أنظر إليها من زاوية محددة وهي كيف تتحول العقيدة إلى معرفة، والمعرفة إلى حقيقة، والحقيقة إلى عنف؟
لماذا نركز على المعرفة والحقيقة في علاقتهما بالعنف، أولا لأن نشأة الفكرة الديمقراطية سواء في اليونان القديمة أو في انجلترا الحديثة ارتبطت بإجراءات قانونية لحماية الناس من العنف. وثانيا، لأن إقلاع الحداثة السياسية والعلمية في الغرب تزامن مع الوعي بالعلمنة المعرفية والسياسية، أي باكتشاف انفصال موضوع الإيمان الذي هو الوحي الإلهي، عن موضوعَي كلٍّ من العلم والسياسة الذي هو الطبيعة والسلطة. وأنه ما لم نكتشف هذا الانفصال، فسنظل مقعدين عن اللحاق بالركب الحضاري.

عن أسباب معاداة العقل والعلم عند المتشددين المسلمين

أزمة الإسلام الشاملة في العقدين الأخيرين يلخصها انتشار جنون العداء للعقل والإرادة، أي للعلم والسياسة، وتكفير كل من يستعملهما بحرية سواء كان فردا أو جماعة أو دولة. الغاية من هذا الجنون توقيف الزمن في تجربة ماض عتيق لا توجد مناسبة بينه وبين زماننا. ومن نتائج هذه القراءة المتزمتة والمنطوية على نفسها، والمكتفية بذاتها، تكاثر الفتاوى بالإباحة الشرعية لاقتراف جرائم سياسية وثقافية مرعبة باسم “الحكم لله”، كحرق المكتبات وطمس المعالم الثقافية والحضارية، وتفجير المساجد أثناء صلاة الجمعة والأعياد الدينية، ونشر ثقافة الحقد والتعصب والاضطهاد والظلم والإقصاء والتكفير والذبح من أجل “إحياء” نموذج للحكم والحياة يعتقدون أنه سماوي المصدر. فتم إفراغ الإسلام من محتواه الحضاري وبُعده الأخلاقي والإنساني، وتقديمه في صورة مشوهة لا مروءة فيه، ولا مشروع مستقبلي يحركه نحو إقرار العدالة والإنصاف بين الناس. فحوّلوا الإسلام إلى كابوس ينشر الدمار في كل مكان يهيمنون عليه.
هناك عدة أسباب لهذا الجنون الأعمى والعداوة الخرقاء للعلم والعلماء وللتجديد والمجددين، ولكننا نعتقد أن أحد أسبابه هو التزامهم بالتمييز الحنبلي القديم بين “العلم النافع” و”العلم غير النافع”. فبالنسبة لهؤلاء القوم “العلم النافع” هو العلم الديني النقلي، و”العلم غير النافع” أو “العلم المذموم” هو العلم العقلي بصناعاته وفنونه المختلفة، كالمنطق والرياضيات والطبيعيات والطب الخ. بل وحتى العلوم الإسلامية المنقوعة بالعقل أو بالذوق، كعِلمَيْ الكلام والتصوف، وعلم الأنساب وعلوم العربية.
معنى “النفع” في عبارة “العلم النافع”، هو أن تحصل به معرفة الله، ومعرفة ما يرضاه وما يَكرَهه، والعمل به. “النفع” يخص المعرفة بالعقيدة والمعاملات، وما يترتب عنها من انفعال ووجدان. والغاية المرجوة من هذا النفع هو »الهرب من الدنيا، وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح«. والطريق للحصول على العلم النافع، الذي هو العلم الحقيقي والكامل، هو التقليد والاقتداء بالصحابة والتابعين. وهذا يعني أن علم السلف هو فوق الزمان والتاريخ، وكأن الحق كمل عندهم، والتاريخ توقف عند زمنهم.
أما “العلم غير النافع”، والمتمثل في العلوم العقلية التي تعالج مشاكل المرض والفلاحة والملاحة والصناعة والتجارة، أي العلوم التي تنتج الخيرات المادية للإنسان بوسائله الذاتية، فهي في نظرهم ضارة لأنها تُلهي عن العبادة وتؤدي إلى البغي. هكذا يريد هؤلاء أن يصبح الإنسان ذا بعد واحد، أي كائنا دينيا محضا لا يرى من معنى وجوده في العالم إلا العبادة. والحال أن الإسلام يُعرَف بنفوره من الرهبنة، وتنويهه بأهمية البعد الدنيوي، محمّلا الإنسان مسؤولية إعمار الأرض بالعمل والتفكير والإبداع. هكذا يُعطّل هذا التيار السلفي المتشدد الأمانة التي حمّلها الله للإنسان بتعطيله الفكر والإرادة، العقل والحرية معاً.
ما يميز هذه السلفيات المذهبية أنها تعاند في ألا ترى الواقع كما هو بعقولها الخاصة والمستحدثة، وإنما كما يتمثل في خيالها عبر متون المذهب العتيقة، فتزداد انغلاقا على انغلاق، وجنونا على جنون، كلما تضاعفت انتصارات الحداثة السياسية والحضارية كل يوم وازدادت فتوحات العقل والعلم.

الإرهاب ثمرة تحويل العقيدة إلى معرفة

لكي أبدد غيوم الالتباس التي قد تتسرب إلى سؤالي: كيف تتحول العقيدة إلى معرفة، والمعرفة إلى حقيقة، والحقيقة إلى عنف وإرهاب، أود أن أدلي بتوضيحين: أولهما أن الإرهاب ليس صناعة إسلامية محضة، فكل الديانات تَحفُل بشتى أشكال الإرهاب الرمزي والمادي، إلى درجة أنه حتى البوذيين المشهورين بتسامحهم الذي صار مضرب الأمثال والذين لا يمتلكون لا شريعة ولا علم كلام، يلجئون بين الحين والآخر إلى القيام بأعمال إرهابية لا معنى لها، من بينها ما نُشر من أن جماعة بوذية يابانية لجأت أكثر من مرة لتسميم الناس بمواد كيماوية في التسعينات من القرن العشرين؛ أما الإرهاب المسيحي في القرون الوسطى وفي أمريكا اللاتينية في الأزمنة الحديثة، والإرهاب اليهودي في فلسطين، فحدث ولا حرج. التوضيح الثاني، أن من حق الإسلام، كأي ديانة أخرى، أن تكون “المعرفة الدينية” أحد أسسه الرئيسية لعقيدته. لكن أن تصبح المعرفة الدينية المتصلة بالأخبار والقصص وتاريخ الأنبياء والرسل والمعجزات بديلاً للمعرفة العقلية المتصلة بحل المشاكل الطبيعية والإنسانية، أي أن يتم الخلط بين المعرفة الدينية التي قصْدُها الأول العمل من أجل “الآخرة”، والمعرفة الدنيوية التي غايتها حفظ الصحة ومقاومة المرض أو ضمان الغلة للفلاحين أو تصنيع الآلات للتجار، فهذا فيه نظر.
وهنا لا بد من بعض الكلمات عن الإرهاب، الذي هو أحد موجودات عالم الدين والسياسة في كل زمان ومكان، الذي لاحظنا تكاثره في السنين الأخيرة بشكل مهول في زمن كثرت فيه الأكاذيب، أكاذيب أمريكا وإسرائيل التي تطمس الحقيقة وترفع الكذب إلى مرتبة الحقيقة. النصب على الحقيقة بالكذب والبهتان هو أحد أسباب الإرهاب، الذي هو الفعل الذي لا معنى له. ذلك أنه عندما تصبح الحقيقة زائفة، أي مضادة لنفسها، تتحول إلى أداة اغتيال، وإزهاق حق الآخر الطبيعي والشرعي في الحياة والسلم والحرية. هكذا تصبح الحقيقة في الممارسة الإرهابية قرينة العدم واللامعنى، بعد أن كانت قرينة الوجود والمعنى. وبالتالي يمكن تعريف الإرهابي في نفس الوقت بأنه من لا يملك نورا ذاتيا يحكم به على الأشياء والأفعال والناس بكل حرية بعد روية وإدراك للعواقب، وهو من لا يملك الإيمان الديني الصافي الوديع والداعي للعدل والإحسان والرحمة. باختصار، الإرهابي هو من لا يملك شيئا، فيلوذ بالعدم، خوفا من الحقيقة والحرية معا. هكذا تصبح العدمية هي سلوك من يُلبس الحق بالباطل، والمعنى باللامعنى والوجود بالعدم. ومن ثم، لا يحق لنا أخلاقيا أن نبرر إرهاب المتطرفين الإسلاميين بأنهم يشكلون مقاومة للظلم الذي يمارسه الآخر على المسلم، أولا لأن الظلم لا يعالَج بالظلم، وثانيا لأنهم غير قادرين على البناء، أي على العطاء ما داموا ينطلقون من أفق العدم.
وأعود إلى سؤالنا الذي يلازمنا منذ البداية: لماذا يؤدي تحويل العقيدة الدينية إلى معرفة وحقيقة ومن ثم إلى الإرهاب بأشكاله المختلفة الخطابية والجسدية؟ إن نتيجة تحويل العقيدة إلى معرفة، وهذه إلى حق وحقيقة، هي وصف كل معرفة خارجة عن هذه “الحقيقة” بالباطلة، مما يفتح الباب أمام الإكراه والإقصاء والعنف والذبح. أكثر من ذلك، متى تم تحويلُ العقيدة إلى حقيقة وحيدة وواحدة، فإنه يتم توقيف جريان الزمن، وتثبيته في لحظة من الماضي، ورفع هذه اللحظة إلى مرتبة المقدس، لتصبح كل مناقشة وكل مداولة مستحيلة بشأنها. وهذا ما يفسر تركيز إرهاب الجهاد الإسلامي على تدمير معالم المعرفة، كالمدارس والمكتبات والمقامات الدينية والصوفية، من أجل فرض تصورهم للحقيقة على العالم بالقوة. والحال أن هناك معارف متعددة، وأنظمة متعددة للحقيقة، تساند كل واحد منها ترسانة من القراءات والتأويلات المتعددة للنصوص المؤسسة لشريعة الإسلام. لا يهم الجهاديون أن “يقتلوا نفسا بغير حق”، لأنهم عاجزين عن الشعور بأنهم “كمن يقتل الناس جميعا”، لأن قصدهم هو الهيمنة على نظام المعرفة ليجعلوه قائما فقط على المعرفة الدينية باعتبارها الحقيقة الوحيدة، ومن خلالها الهيمنة على كل مفاصل الدولة.
إن هؤلاء القوم يعرفون أن من يمتلك الحقيقة يصبح خطيرا بالنسبة للدولة أو المؤسسة، لأن امتلاك الحقيقة يمنح لمالكها سلطة، وطالما أنه لا يمكن تحرير الحقيقة من نظام السلطة، فستبقى تلعب دورا سياسيا في المجتمعات والفضاءات العامة. نعم، لا ننكر أن الحقيقة هي الطريق الواسع والمباشر للوصول إلى الحرية، لكن ينبغي أن نحتاط من “أشباه الحقائق”، خصوصا عندما تصبح موضوع اعتقاد أعمى أو تدليس وتشويه، لأنها تغدو حينئذ وَبالاً على الحرية، لا مدخلا لها.
بهذه الاعتبارات تصبح العقيدة أداة لمحاصرة الحرية في أبسط تجلياتها، ابتداءً من حرية الرؤية والمشاهدة (منع الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزية)، وحرية اللباس (محاصرة حرية المرأة في اختيار لباسها)، إلى حرية القراءة والكتابة والصحافة وحرية الإبحار في الأنترنت (التشويش على بعض المواقع الأنترنيتية أو منعها بسبب خروجها عن دائرة علماء الرسوم). باختصار العقائد التي تدعي امتلاكها للحقيقة دون غيرها، تعامِل الإنسان ككائن قاصر، لا حق له في التفكير والفعل والسلوك إلا بإذن الوصيّ أو الوكيل الذي يدّعي أنه يعرف “الحقيقة” كل “الحقيقة”.
لذلك من حق المرء أن يتساءل هل “الإسلام السياسي” سياسي حقا؟ إن رغبة بعض تيارات الإسلام السياسي المتشدد في جعل الدولة الإسلامية دولة شمولية، أي معادية لكل المكتسبات الإنسانية المتصلة بالتدبير الديمقراطي للشأن السياسي، يجعل من الصعب الحكم عليها بأنها ذات طابع سياسي. فهذه التيارات هي حركات إيديولوجية، لا سياسية. وبهذا المعنى يمكن اعتبار “الإسلام السياسي” آخر الطوباويات الشمولية التي عرفتها البشرية منذ أواخر القرن العشرين إلى الآن، خصوصا عندما يعتبر نفسه فوق الدولة والوطن، سواء بطمعه في تأسيس خلافة إسلامية تتجاوز الأوطان والدول الإسلامية، أو باستحواذه بالقوة على وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمراقبة سلوك الناس اليومي والحكم عليها.
في أسطورة الكهف الأفلاطونية هناك تقابل بين الحقيقة والسياسة، ومتى حصل التطابق بينهما تصبح السياسة إرهابا فجا.

العلمنة هي الحل

من المعلوم أن الإقلاع الحضاري تم في الغرب في لحظة الوعي بالعلمنة المعرفية والسياسية، أي أن تدشين الحداثة السياسية والعلمية كان متزامنا مع فصل اللاهوت السياسي عن الفلسفة السياسية، وفصل علم الكلام عن علم الطبيعة. وكانت العلمانية هي عَقد ميلاد الحداثة لأنها قدمت بديلا للحياة السياسية والمدنية قوامه أولا المواطنة، أي الانتماء للدولة بدلا من الولاء للطائفة وللجماعة الثقافية، وثانيا التسامح والاعتراف بالآخر بدل التعصب للمذهب وإقصاء الآخر. فهل يمكن للعلمنة أن تقوم بدور شبيه بالدور الذي قامت به في الغرب، أي نزع فتيل الاقتتال الدموي بين الأصوليات السنية والشيعية، والقيام في مقابل ذلك بالمنافسة من أجل الإبداع العلمي والسياسي والحضاري؟
نعتقد أنه لا يمكن تلافي الحروب الدينية التي تشتعل نيرانها في أكثر من بلد عربي، وبخاصة في العراق وسوريا ومصر إلا بالعلمانية. لكن لا يمكن للعلمانية أن تقوم بهذا الدور إلا بشرطين؛ أولهما أن تكون نابعة ذاتيا من توافق حقيقي، وليست مفروضة بالحديد والنار من خارج، كما كان الأمر في عهد صدام، وفي عهد الأسد، أي أن تكون العلمانية مرتبطة ذاتيا بالديمقراطية من حيث هي حوار عقلاني بعيد عن الأساطير والوجدانيات القديمة. والشرط الثاني، أن العلمانية لا يمكن أن تنجح في الدور المشار إليه إلا إذا كانت أداةً فعالة لحماية الإيمان من كل تشويه خارجي. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يمكن تطوير الديمقراطية بدون علمانية، لأنها تطرح مسألة جوهرية وبالغة الخطورة وهي: مَن له الحق في التشريع، هل هذا الحق مكفول للمواطنين جميعا من خلال ممثليهم في البرلمان، أم أنه ينبغي أن يبقى هذا الحق حكرا على الفقهاء؟ بعبارة أخرى، هل علينا أن ننتصر للشريعة الإلهية أم للشريعة الإنسانية، أم علينا أن نجمع بينهما.
أعتقد أن الجواب واضح، وهو أنه علينا أن نعترف بأن الترسانة الفقهية والكلامية التي تتوفر عليها الشريعة الإسلامية لم تعد قادرة على الإجابة على الأسئلة المستعجلة التي تطرحها المجتمعات الإسلامية، ولذلك علينا أن نسلم أمر التشريع للمؤسسة البرلمانية لا انطلاقا من الشريعة الإلهية، وإنما انطلاقا من العلوم القانونية التي لا يمكن أن يمنعها أي أحد من الاستفادة والاستئناس بالترسانة الفقهية الإسلامية.
وهذا هو الوجه الأول للعلمانية، أما وجهها الثاني فهو قدرتها على نشر جملة من القيم الأخلاقية العليا، وعلى رأسها قيمة التسامح والاعتراف بالآخر المخالف لنا والمختلف معنا. وهنا تحضرني حكمة لجلال الدين الرومي يقول فيها: »كن كالبحر في التسامح«، إذ عندما نكون كذلك، فإننا سنستطيع مقاومة تصحير الفكر وتجفيف منابع التعدد الثقافي للإنسان.

************

نتفق مع نيتشه عندما يقول بأن الناس مضطرون أحيانا إلى قبول بعض الأوهام لكي يعيشوا في سلام. ولا شك أن نيتشه يعني بالأوهام تلك الحقائق التي نسينا أنها كانت أوهاما، والتي خلقها الإنسان لكي تكون أسسا لضمان الوحدة والانسجام بين الناس وتلافي الاقتتال العبثي فيما بينهم.
وبالنسبة للتمييز بين “العلم النافع” و”العلم غير النافع”، نريد أن نوضح بأننا لا ننفي أهمية هذا التمييز لتأمين الخلاص في الآخرة، لكن عندما يتم الخلط بين ما هو نافع في الدنيا وما هو نافع في الآخرة والدنيا، يصبح هذا التمييز خطيرا على وجود الدين والإنسان معا.
نعم، يقال إن   »الحقيقة بطبيعتها لا سياسية، بل لعلها مضادة للسياسة«، بيد أن هذه القولة تصح بالنسبة للحقيقة العقلية. أما الحقيقة الدينية فهي، بالنسبة للمتشددين من دعاة الإسلام السياسي، مطية للسياسة بامتياز. لكن هل الحقيقة التي يؤمنون بها حقيقية فعلاً. نعترف بأننا لا نملك الحق في البت في هذا الأمر، لأن الحقيقة في المجال الديني مغلّفَة بالمقدس، ومن ثم لا يمكن الحكم عليها ولا المس بها.
ومع ذلك، لا نؤمن بوجود حق واحد، إذ هناك عدة أنظمة للحق، وعدة مسالك للوصول إليه. إلا أنني لا أدعو إلى التخلي عن الحقيقة المنزلة، الحقيقة العمودية المطلقة غير القابلة للتعديل والتصحيح بوجه عام، لصالح حقيقة أفقية نابعة من الإنسان وقابلة للمداولة والتصحيح والتعديل بالحوار، وإنما أدعو إلى الكف عن الخلط بينهما، بل والكف عن الخلط بين طرقهما. فلنظام الحق الديني معناه وطرقه الخاصة به، ولنظام الحق العلمي والعملي معناه وطرقه الخاصة للوصول إليه.
وتزداد مسألة الحق صعوبة بالنسبة للحقيقة السياسية، إذ لا توجد حقيقة مطلقة ثابتة في هذا المجال، وإنما توجد حقيقة نسبية وتاريخية ومحتملة، لأنها ثمرة مداولة واتفاق تسهم في تركيبها أطراف متعددة ومختلفة. هذا علاوة على أن العقل العملي، الذي تصدر عنه الحقيقة السياسية، ليس واحدا، وإنما متعدد بتعدد الثقافات والأزمنة، ومشوب بالوجدان والانفعال، ولذلك لا يمكن حصول إجماع مطلق بشأنه.

عن المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية/ يونيو 2020)

> بقلم: د. محمد المصباحي

Related posts

Top