“التراث المغربي الحي”.. كتاب يعيد الاعتبار للتراث المغربي اللامادي

في بادرة طيبة من شأنها أن تعطي إضافة نوعية للثقافة وصيانة التراث بالمغرب، صدر مؤخرا كتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان “التراث المغربي الحي” (Patrimoine vivant du Maroc)، بحيث يقدم هذا الكتاب الجديد نظرة وقراءة في عناصر من التراث المغربي اللامادي الذي تزخر به بلادنا.
هذا الكتاب، الذي صدر في طبعة أنيقة، والذي سيقدم في الدورة الثالثة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب يوم 17 فبراير الجاري، أشرف عليه كل من سعد الحصيني وأحمد السكنتي في إدارة النشر، وفاطمة أيت امحند في التنسيق والنشر، والذي يتضمن نصوصا لكل من أحمد السكنتي، فاطمة أيت امحند، رحمة ميري، محمد الريفي العلمي، مصطفى نامي، بالإضافة إلى صور بعدسة حسن نديم وعبد اللطيف الصباري، يتطرق إلى ست عناصر من التراث اللامادي المغربي المصنف ضمن قوائم اليونيسكو، ويميط اللثام عن عادات وتقاليد مغربية عريقة، طال النسيان بعضها رغم أنها مستمرة، بحكم التقادم وعدم التوثيق، حيث ضاع منها جزء، قبل أن يعيده الكتاب في صفحاته إلى الواجهة.
الكتاب الذي يقع في 238 صفحة، من الحجم الكبير وبورق صقيل، يأخذ القارئ إلى معالم التراث المغربي الأصيل ويحيي ذاكرته، ويلفت الانتباه إلى العديد من أشكال الحضارة والتراث التي تحيط بنا في المغرب. والتي تغني الرصيد الثقافي والمعرفي للمغرب وتجعله من بين البلدان الغنية بالحضارة والثقافة، لا سيما وأن هذا التراث سجل ضمن قوائم التراث العالمي لليونيسكو.
ويأخذ الكتاب قارئه في البداية إلى معالم جامع الفنا بمراكش حيث يقدم الكاتب أحمد السكنتي في نصه، وصفا للنمط الشعبي للفرجة والترفيه التي يحييها السكان المحليون وتتميز بحضور العديد من السياح والزوار القاصدين مدينة مراكش للاستمتاع. بحيث تصبح الساحة القلب النابض لمدينة مراكش، خصوصا بعد غروب الشمس، إذ تشكل الساحة حينها نقطة التقاء بين المدينة والقصبة المخزنية والملاح وتشكل محجا للزوار من كل أنحاء العالم للاستمتاع بمشاهدة عروض مشوقة لمروضي الأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، والموسيقيين إلى غير ذلك من مظاهر الفرجة الشعبية التي تختزل تراثا غنيا وفريدا، ما جعل اليونيسكو تدرج هذه الساحة ضمن قائمة التراث اللامادي الإنساني في 18 ماي من عام2001. كما أعادت إدراجها مجددا في ذات اللائحة سنة 2008.
بعد ذلك يعرج الكتاب على موسم طانطان الذي صنفته اليونيسكو بدوره سنة 2004 ضمن قوائم التراث الإنساني اللامادي. وتكشف الكاتبة فاطمة أيت امحند في نصها عن تقاليد عريقة بالجنوب الصحراوي المغربي، حيث تستقبل طانطان عشرات القبائل خلال موسمها السنوي الذي ينظم على شكل احتفال كبير يجسد مختلف مظاهر الحياة الصحراوية بعاداتها وتقاليدها. إذ يتميز هذا الموسم بتعدد أشكاله الثقافية اللامادية من موسيقى ورقص وطقوس وميثولوجيا ومعارف وممارسات ذات صلة بالطبيعة والكون ومهارات مرتبطة بالممارسات الحرفية التقليدية بالإضافة للمجالات الثقافية. وقدمت الكاتبة وصفا جميلا لأجواء الموسم الذي يتميز أساسا بنصب الخيام التقليدية التي تجسد تقاليد الحياة الصحراوية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية وبفنها الحساني خصوصا.
أيضا نجد في الكتاب نصا عن مهرجان حب الملوك بمدينة صفرو، والذي يصنف كذلك ضمن لائحة اليونيسكو للتراث اللامادي. إذ يشكل هذا المهرجان حدثا سنويا يستقطب إليه آلاف الزوار احتفالا بموسم جني فاكهة “حب الملوك” (الكرز). الكاتبة رحمة ميري تكشف في نصها المدرج ضمن الكتاب الجانب الموازي لهذا المهرجان وترصد أهم العادات الموازية للموسم، بما في ذلك أجواء التعايش بين الأمازيغ والعرب واليهود، إذ تصف عالما حقيقيا من الذاكرة الجماعية الغنية والمتنوعة. وتتيح للقارئ أن يطلع على نمط التعددية والتعايش بين مختلف المكونات التي لها جذورتاريخية بمدينة صفرو.
كذلك يكشف الكتاب عن العادات التي دأب مهرجان حب الملوك على إحيائها طيلة عقود، خصوصا الأعراف المحددة لاختيار ملكة جمال الدورة والتي تعتمد على عدة معايير أساسية.
فاطمة أيت امحند تعود كذلك في النص الرابع من الكتاب لتبرز البعد الجمالي لتراث مغربي حي “الطير الحر” الذي هو تقليد متجذر في ثقافة بعض المناطق المغربية. فالكاتبة تأخذنا في رحلة الصيد بالصقور في نص تحت عنوان “قصة لا عمر لها” (Une histoire qui n’a pas d’âge…) إلى عبق التاريخ وتجذر هذا التقليد المغربي الأصيل في التاريخ، الذي لا يمكن تحديد عمره، لاسيما وأنه لا زال مستمرا وبنفس الحيوية إلى يومنا هذا، حيث تنظم المهرجانات والمواسم السنوية للصيد بالصقور، خصوصا بعدما أدرجت اليونيسكو الطريقة التقليدية للصيد بالصقور ضمن قائمة التراث الثقافي للإنسانية.
 ولعل ناشري الكتاب انتبهوا إلى روعة الصورة المرافقة للنص وأدرجوها في غلاف الكتاب، إذ أعطت بعدا جماليا، فنظرة الشيخ المسن الممسك بالصقر بثبات توحي بالقوة والعزيمة وتعكس مدى قدم وتجذر هذا التقليد الجميل في التاريخ المغربي.
ثم يأتي بعد ذلك في الكتاب، الذي وضع له وزير الثقافة محمد أمين الصبيحي مقدمة خاصة، النص الخامس حول الطباخة المتوسطية، والذي يقدم فيه الكاتب مراد الريفي العلمي نظرة على الطبخ المتوسطي وأساسا الأطباق المميزة لمدينة شفشاون، (بيصارة، اسماك مشوية، طبق الكسكس)، بالإضافة إلى الشاي الشمالي والعديد من الأطباق المميزة لشمال المغرب والتي صنفتها كذلك اليونيسكو ضمن التراث الإنساني اللامادي.
ويختم الكتاب أخيرا بنص الأركان لمصطفى نامي، الذي يعرض بدوره تراثا مغربيا أصيلا، لازال قائما إلى اليوم، خصوصا بمناطق سوس، حيث النسوة ينهجن طريقة خاصة في عصر زيت الأركان المستخلص من شجرة الأركان التي تواجه تحديات البقاء، وكانت اليونيسكو قد صنفت شجرة الأركان، والممارسات، والمعارف المرتبطة بها ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية عام 2014.
هذا ويطمح ناشرو الكتاب إلى إعادة طباعته باللغة العربية أساسا، بالإضافة إلى العمل مستقبلا على ترجمته وطبعه باللغة الإنجليزية كذلك، لما للكتاب من أهمية في صيانة الذاكرة التراثية المغربية. إذ يعد من بين الكتب القليلة جدا المهتمة بهذا المجال.
الكتاب الذي طبعت منه 3000 نسخة بدعم من وزارة الثقافة يعرض بأروقة المعرض الدولي للكتاب، كما سيخصص رواق وزارة الثقافة لقاء خاص يوم 17 فبراير لتقديم الكتاب وتوقيعه بحضور بعض الكتاب المشاركين.

 محمد توفيق أمزيان

Related posts

Top