الترجمة وإشكالات المثاقفة

انكب أزيد من 130 باحثا أكاديميا من بلدان عدة، من بينها المغرب مؤخرا بالدوحة، على مناقشة واستعراض قضايا الترجمة وإشكالات المثاقفة في مؤتمر يواصل سنويا منذ 2014 إبحاره في عالم الترجمة ومراكمة مقاربات علمية من زوايا نظرية وتجارب مختلفة، يتم فيها الانتقال من لغات إلى أخرى ضمن تنوع جغرافي وثقافي، ومن خلال أجناس كتابات متعددة أيضا.
وتناول المتدخلون، انطلاقا من تجاربهم الخاصة في علاقتهم بالترجمة ومدارات المثاقفة، إشكالات وقضايا تتعلق بمنظومة اللغة في شموليتها من ضبط للمعاني وخواص المعجم وربطه بسياق النص (موضوع الترجمة) في مضامينه وجنسه من أصناف الكتابة، وأيضا بربطه بالسياق الثقافي العام، خلال عمليات الانتقال من أو إلى اللغة العربية كلغة منطلق أو لغة هدف في علاقتها باللغات الأخرى كالروسية والبرتغالية والصينية والأوزبكية والماليامية (لغة ولاية كيرالا جنوب الهند) والصومالية والإنجليزية أو الألمانية.
وكشفت هذه القراءات عن مقاربات شتى وانساق منهجية، جميعها تبحث في واقع وظروف وآليات انتقال النصوص من كساء لغوي إلى آخر، باعتباره انتقالا في الأساس بمنظومة ثقافية متكاملة الى منظومة أخرى، وليس فقط تحولا من ناقل لسني الى آخر، وذلك وفق شروط ورهانات لتبادلات ثقافية، من المفترض أن تجري على نحو سلس وواضح يتم فيه استحضار خصوصيات النص في جنسه وأبعاده الثقافية وأيضا السياق الثقافي للمتلقي في الطرف الآخر.
وحول هذا الانتقال وأهميته بالنسبة للغة العربية يرى الباحث المغربي حسن أوزال الاستاذ بجامعة القاضي عياض، أن الترجمة “رهان لإصلاح اللغة العربية وتأسيس الاختلاف”، باعتبار أن “لا ثقافة وطنية إلا عبر الانفتاح على ما هو غريب”، وفق مقولة للأديب الألماني فون غوته، والتي ذهب فيها الى أن اللغة الألمانية اكتسبت قوتها “لا من إقصاء الغريب وإبعاده وإنما من ابتلاعه و تملكه”.
واعتبر أن الانخراط في تجربة كهذه على مستوى اللغة العربية يستدعي موقفين؛ من جهة “العدول عن اعتبار العربية لغة توقيفية تأنف من كل تطور”، ومن جهة أخرى “الانكباب على عملية الترجمة من حيث كونها عملا فكريا لا مندوحة له من إبداع المفاهيم خارج التقعيد اللسني ودون الخوف من ضياع هوية مزعومة”، والتي قال إن “التصور الأصولي، الذي لم يحتد للأسف إلا مؤخرا، ظل ينافح عنها، وذلك خلافا للسبق التاريخي الذي كان يحظى به العرب، منذ القرن الثامن الميلادي”.
سبق تاريخي، يضيف الباحث، تجلى من خلال “مشروع كبير في الترجمة قاده سبعة مفكرين كبار هم على التوالي الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد”، مسجلا أن المفكرين العرب تعاطوا للترجمة باعتبارها “تفكيرا لا نقلا، وذلك حتى قبل أن تدخل كلمة الترجمة والمترجم وفعل “ترجم” في القواميس الفرنسية، أواخر القرن الخامس عشر.
وسجل أنه إذا “كانت الضرورة اليوم ملحة لاستعادة هذا الوهج التاريخي (…) تحقيقا للنهضة والتنوير”، فإن الأمر يتطلب على الأقل الاشتغال على منحيين إثنين؛ “المنحى المفاهيمي”، و”المنحى الدلالي.. رعاية للاختلاف ودرءا للتطابق”.
من جهته، لفت أحمد قيسامي مباركي من (جامعة غرناطة للترجمة والترجمة الفورية) الى أن الترجمة “ليست مجرد تخصص، له وظيفة، على المستوى اللغوي، في تمرير رسالة من لغة إلى أخرى بل ت عمد إلى إقامة علاقات بين ثقافتين مختلفتين”، مشيرا الى أن تركيز الدراسة في الترجمة تغير من “منظور لغوي إلى مقاربة ثقافية، ولم يعد مجرد منتج لغوي، ولكنه انتقال ثقافي وإيديولوجي للنص الأصلي”، في وقت “يمكن ان يكون في لغة ما العديد من الثقافات”، ويكون بالتالي من المستساغ “فهم الترجمة، بناء على دور المترجم، كوسيط ثقافي”.
وفي محور “إشكالات الترجمة في الإسلاميات”، لاحظ الباحث المغربي المختص في اللسانيات التداولية وتحليل الخطاب، ادريس مقبول، أن ترجمة المفاهيم الدينية “ليست مجرد انتقال من لغة مصدر إلى لغة هدف، بل هي علاقة معقدة لأنها انتقال من عالم تصوري فيه لغة موسومة بتجارب متكلميها الروحية، ومخزنة لعناصر نسقهم التصوري إلى عالم تصوري آخر فيه لغة موسومة بتجارب متكلمين مختلفين ومخزنة لعناصر نسقهم التصوري والاعتقادي المغاير”.
وإذا كان النقاش قد توقف أيضا عند إشكالات الترجمة الأدبية، حيث تناولت هدى المجاطي، الباحثة في التاريخ الثقافي لشمال المغرب، “ترجمة السيرة العالمية لثربانطيس: ادريس الجائي نموذجا”، فقد تواصل من خلال محور “معجميات” بحثا في إشكالات الاستجابة للمعاني والدلالات في القواميس الإلكترونية المتعددة اللغات، وحول إذا ما كان بالإمكان الجزم بأسبقية المعنى السياقي على المعنى المعجمي، ومدى أهمية العناية ببناء المعاجم والقواميس السياقية، حيث تطرق عز الدين غازي، الأستاذ بجامعة القاضي عياض، بطريقة تقنية ل”دور الوحدات اللسانية الذرية في تطوير دقة وسلاسة الترجمة”، مركزا على اوجه القصور في نظامي غوغل وروفرسو.
وسجل الباحث خالد اليعبودي، الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ورئيس الجمعية العربية للمصطلحية والترجمة أن تطور الدراسات المعجمية وازدهار الصناعات المعجمية والقاموسية أفضى إلى العناية بالمدونات وإلى اعتبار السياق عنصرا رئيسا ومحوريا في بناء المتون المعجمية والقاموسية، مؤكدا أن معنى الوحدة اللغوية لا يتحدد سوى بمراعاة علاقاتها بباقي الوحدات المصاحبة لها في الخطاب، وهو ما لفت الى أهمية استحضار السياق كعنصر مساعد في شرح المقصد الدلالي.
ومن المقرر أن يجري اليوم على هامش هذا المؤتمر حفل تسليم جوائز “الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي”، التي تأسست عام 2015، وسبق أن فاز بها عدد من الباحثين المغاربة، حيث عرفت دورة 2017 فوز ثلاثة باحثين مغاربة؛ وهما الأستاذان الجامعيان محمد حاتمي ومحمد جادور عن ترجمة كتاب “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” لعبد الله العروي (المركز الثقافي العربي- 2016)، وأيضا الأستاذ الجامعي أحمد الصادقي عن ترجمة كتاب “ابن عربي: سيرته وفكره” لكلود عداس (دار المدار الإسلامي- 2014 بيروت).

> زهور السايح (و.م.ع)

Related posts

Top