التشكيلي العراقي علي رضا سعيد: الجسد ورهاناته

لا يتناول المقال التالي كل المراحل الإبداعية التي ميَّزت المسار التشكيلي للفنان العراقي المغترب المقيم في تونس علي رضا سعيد، قدرما يرُوم مقاربة الخصائص الفنية والتعبيرية في بعض أعماله الصباغية، لاسيما الرَّاهنة منها الموسومة بالاشتغال على الجسد برهاناته المتعدِّدة والاهتمام بالمكان كذاكرة لهذا الجسد وكمعطى جمالي أمسى يُلازم قماشاته وورقياته..

سؤال المدينة

يدرك الفنان علي رضا سعيد بأن التشكيل في المدينة يقوم على إنشائية المكانPoïétique du lieu ، كما يتجلَّى ذلك من خلال العديد من التمظهرات المتنوِّعة التي تمتد لحاجة الإنسان إلى جمالية الفضاء، لذلك فهو منذ أن حلَّ بتونس أغرم ببهاء معمارها التقليدي ومبانيها ودروبها العتيقة التي جعلها ثيمة أساسية في أحد معارضه الشخصية. في هذه التجربة، امتلأت لوحاته – التي حملت أسماء أماكن بعينها (المدينة العتيقة، ورشة الخزف، السوق..) – بمشاهد من الواقع، لكن برؤية ذاتية تتواشج فيها الأزمنة والأمكنة بحسٍّ تصويريٍّ توثيقي يقدِّم المدينة كمعطى جمالي ينطوي على دلالات رمزية متعدِّدة تختزلها المشاهد المرسومة بتقنية تلوينية متقنه ومفعمة بحركة دؤوبة للجموع والحشود البشرية المتماهية مع العناصر الأخرى المشكلة للمكان (موضوع التصوير)..
ولأن الفن هو الذي يحملنا إلى الأمكنة، فإن عناصر الجمال التي يتيحها الفن هي التي تجعل المكان يستيقظ ويحيا داخل المدينة. على هذه الخلفية، أبدع الفنان رضا علي سعيد لوحات كثيرة بموضوعات التصقت بذاكرته وصارت جزءً من سجلاته البصرية المتصلة بالذاكرة الذاتية وبالمخزون اليومي الذي تحيا بداخله صور عديدة.. في هذه اللوحات محكيات وسرديات متنوِّعة دأب الفنان على التقاطها بعين ثالثة ليوقعها بأسلوبه الخاص لحظات اعتكافه في مرسمه الفني الذي ينبت بأحد أحياء تونس التي تعج بساكنة أصيلة وتمتلئ بطقوس أهل البلد وحواديثهم اللطيفة وعوائدهم الشعبية اليومية التي ألهمته وأغنت مخيِّلته لتزداد معرفته وصلته بالمكان..

لعبة الأضداد

تبرز مجموعة من اللوحات التي نفذها الفنان رضا علي حسن اشتغاله المكثف على الأسوَد والأبيض خصوصاً الأسناد الورقية التي تمتص رحيق الحبر بسواده القاتم (لكنه مضيء) في مقابل بياض نوراني نقي يفتح مساحات التأمل والتفكير لدى المتلقي، وبفعل ذلك صار الفراغ معادلاً جماليّاً للامتلاء. ظهر هذا النزوع الفني وتبدَّى خلال معرض الفنان “أبيض وأسود” الذي احتضنته غاليري “ننار” في مدينة مالموMalmö السويدية خلال السنة الماضية بدعوة كريمة من مؤسسة ننار الثقافية في السويد. جاد المعرض بلوحات من القطع الصغير والمتوسط قامت على السواد والبياض إلى جانب أخرى في أحجام كبيرة استعملت في إنجازها الألوان الزيتية وقد تأرجحت في عموميتها بين التشخيص والتجريد. إنها لعبة الأضداد التي راهن عليها الفنان باستعمال بلاغة أيقونية ذات دلالات مزدوجة، كالعتمة/النُّور،
المليء/الفارغ،
الغياب/الحضور،
الضامر/الظاهر،
المحجوب/المكشوف..
إلى غير ذلك من المفردات الثنائية في حدود تباينها وتمايزها الذي يمنح اللوحة التوازن البصري المفترض على مستوى تكوين الكتل وانتشار الخطوط وانسيابيتها مع النماذج المرسومة والمصبوغة بحِرفية متقدِّمة.
في عمق هذه اللوحات، تأخذ الشخوص حيِّزاً وافراً في مساحة التعبير وتبدو في هيئات مضبَّبة Silhouettes تغيب فيها التفاصيل الجسمانية التي حلت محلها الخطوط الرخوة والمنثالة على إيقاع الانحناءات والاستدارات التي تتبادل المواقع والأدوار من لوحة إلى لوحة.. إلى جانب أخرى موسومة بتعضيد المادة واستعمال صبغات عجينية مطروزة ببعض الزخارف الهندسية ومدعمة بتبصيمات وكولاجات ونتوءات لمنح العمل الفني ملمساً مُغايراً، وهي، في تعدُّد خاماتها وحواملها، لا تنقل إلى المتلقي سوى بعض تمثيلات الجسد وحركاته وإيماءاته المعبِّرة التي يقوم الفنان بتشخيصها وتجسيدها على نحو إبداعي خلاَّق ومبتكر..

تشظي الجسد

تصوِّر لنا مجموعة من لوحات الفنان رضا علي حسن مشاهد احتفالية إيحائية، حيث عروض الموسيقى ومغنون طقوسيون يعزفون على آلات تقليدية يحتشد حولهم شخوص وأجساد مندمجة مصاغة بأسلوب الأكواريل وأخرى بالصباغة الطرية (أكريليك)..
فما الذي يُعزف؟ ووفق أية ألحان؟ وما مدى تأثير هذه الممارسة الموسيقية المعبِّرة التي يكاد صداها يخرج من سند اللوحة لقوة إيحاءاتها ورمزيتها؟
وأيُّ نور تتراقص في ضوئه الأجساد والأطياف الإنسية الهلامية التي تتقاسم مصيراً مشتركاً في تجربة الفنان؟ والتي قررَّ ولادتها بالأحبار والرماديَّات الملوَّنة Gris colorés؟ هي هكذا تبدو كحلية ممزوجة بزرقة شفيفة أو صفرة ساجية وأخرى معتمة، عارية لا زي يكسيها، ومجرَّدة في شكل إسكيزات سريعة التنفيذ تحتل مركز العمل الفني لتعلن عن بيان التمرُّد ضِدَّ كل ادِّعاء أو زيف.. وخلفها تتراصف مربعات صغيرة متقايسة ترسم نوافذ الأمل أنجزت بتقنية المرسام (البوشوار)..
أجساد متشظية، حائرة، متسائلة بملامح ممحوة متوارية تحجب مرموزات شديدة الاتصال بانتظارات الإنسان ورهاناته.. أجساد مصاغة ببلاغة أيقونية وبتفاصيل متناثرة تتحرَّك وتتشابك داخل لجَّة تعبيرة صباغية.. وصباغة تعبيرية حداثية تنهض على خبرة فنية وافية راكمها الفنان على امتداد سنوات طويلة من العمل الإبداعي الجاد والبحث المتواصل الذي برز صداه في معرضه الفردي “تواشجات معاصرة” الذي اختتم قبل أسابيع في “غاليري الأورفلي” بعمّان (الأردن)..
ويرفض الفنان من خلال هذه التجربة تدجين الجسد وترويضه، لذلك فهو يقوم بإعطائه أبعاداً تعبيرية مغايرة ترسم حالات اليأس والقلق التي تدفع بالإنسان أحياناً إلى دائرة الانطواء والانعزال ليؤكد بذلك قدرته الإبداعية في التعبير عن قضايا وهموم مقلقة تنخر جسدنا المظلوم..
هي، بلا شك، رسومات فنية وسرديات بصرية عن مآسي وقضايا اجتماعية وإنسانية كثيرة ينحاز لها الفنان إبداعيّاً وإستتيقيّاً..

بقلم: ابراهيم الحَيْسن
ناقد تشكيلي

 

 

Related posts

Top