التطرف كرة النار الجامعة

رغم ما شهده العالم من انفتاح وتطور بطريقة التفاعل بين الأفراد والمجتمعات لكنه مازال رازحا تحت حمل ثقيل من المشكلات التي تمد جذورها في تكوين الأفكار وصياغة الأيديولوجيات التي تخرج عن حد الاعتدال ضمن حيز القبول المجتمعي لتكوِّن نسقا يتسم بالقطيعة مع المحيط وتبني “تابو” خاصا من القيم والمعايير المختلفة التي يصل الدفاع عنها حدود العنف والإرهاب الفردي أو الجماعي الذي لا يختص بمنطقة دون غيرها، فالتطرف والشوفينية والحركات الشعبوية والعنصرية تحولت مع مرور الزمن لنهج يزداد اتساعا في كافة بقاع العالم.
مع الانتشار الواسع لحركات الإسلام السياسي وانتشار العنف تحولت الأنظار نحو دول المشرق العربي بوصفها مصنعا للتطرف والمتطرفين، فحالة النظر باتجاه واحد التي اعتمدها الغرب في طريقة تعامله مع الشرق كهويّة قومية وثقافية لبلدان متخلفة تنام فوق ثروات باطنية كبيرة، دون التطرّق للبُعد الديني، اتجهت عقب سقوط المعسكر الشيوعي إلى التركيز على الهويّة الدينية الإسلامية، وتضاعفت حدتها بعد حدوث أعمال إرهابية جرى ربطها بتدفّق ألوف المهاجرين واللاجئين من دول عربية وإسلامية، لتطال عموم العالم الإسلامي باعتباره مصدر الخطر القادم إلى الغرب، وتلتقي مع نظرة الحركات الأصولية العربية التي تركز على التناقض الحضاري على أساس الهوية الثقافية الدينية بين الشرق والغرب ذي الطابع المسيحي من حيث الثقافة والمطامع السياسية.
فكرة الشرق التي تمحورت في أدبيات السياسة الفرنسية إزاء (شرقها) بالمعنى الجغرافي لتعكس مفهوما جيوسياسيا واستراتيجيا ضمن مخططات تقاسم مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية الأوروبية، جعلت من التميّيز بين الشعوب على أسس سياسية وعقائدية وثقافية هو أساس التصنيف لدول الشرق “حصرا”، فمفهوم الغرب تمحورت حدوده عند الدول التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم، ما أدى إلى التغاضي عن الكثير من مظاهر التطرف والعنصرية والحركات الشعبوية في الغرب التي تميل إلى القومية في مناطق وإلى القومية الممزوجة بالدين في أخرى، والتي تشكلت عبر التاريخ وباتت تنتشر في الكثير من دول الغرب وتزداد شراسة مع صعود حركات قومية ودينية مسيحية تتخذ الإسلام عدوا لها، كحركة “بيغيدا” في ألمانيا، والتي تعني حركة “الأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب”، وحركة “لهافا” التي ظهرت في سبتمبر 2014، وهي حركة يهودية تعمل على الفصل بين اليهود والعرب، أو النازيين الجدد وحليقي الرؤوس وغيرهم من حركات شعبوية ازدادت حضورا وحصلت في كل أنحاء أوروبا تقريبا على أرقام قياسية من الأصوات، بل وتمكنت من إجبار الأحزاب في الوسط على التعامل مباشرة مع الهجرة والإسلام، ولديها مساعيها في الحصول على حيز من دفة الحكم للانتقام من المهاجرين الذين جرى تحميلهم وزر السياسات الخاطئة في دول الغرب.
التطرف بشكله العام الذي بات مشكلة تواجه العالم ككل لا يمكن فصله، فالتطرف في الشرق أو العالم الإسلامي لا ينفصل عن التطرف اليميني الغربي، أو العالم المسيحي السابق لعصر الأنوار ونهاية دور الكنيسة، فتلك المرحلة راكمت العداء بين العالمين الإسلامي والمسيحي كان أشدها شراسة الحروب الصليبية التي لا زالت ذاكرة الشعوب العربية الإسلامية والأوروبية تحتفظ بها.
ورغم أن مشكلة الإسلاميين لم تكن مع المسيحيين في الغرب، ورغم وجود قوى في المجتمعات الغربية تريد التقارب مع العرب والمسلمين، لكن الصراع بأوجهه الجديدة وبظهور التطرف في الغرب والتسويق لفكرة الصراع بين الإسلام والغرب جعل الغرب كله في جبهة واحدة ضدّ الإسلام أو العالم الإسلامي، وهو ما ظهر جليا في استدعاء الماضي وإعادة الإحياء الديني الذي رافق انتعاش الحركات الأصولية الإسلامية والمسيحية والتي مهما اتخذت من لبوس جديد ومختلف إلا أن لها ملامح مشتركة في البحث عن هوية مأمونة واعتبار القومية والدين أكثر تعبيرا عن الهوية بوجه التغيرات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية السريعة التي رافقت عصر العولمة، واعتبار العودة إلى المألوف التاريخي حبل نجاة من الأزمات الكبيرة والمختلفة التي تعيشها الشعوب، وعلى رأسها تفاقم السخط العام نتيجة اتساع تفاوت الدخل حسب المنطقة والطبقة والعرق والجنس “أنثى ورجل”، والتغيرات الاجتماعية في وضع النساء والعائلة والأعراف التي فاقمت معضلات الأبوية وخلقت جملة توترات كازدياد الطلاق والرعاية غير المناسبة للطفل والتنازع على الامتيازات للذكور الذي يشجع البعض على الحنين لما كان سائدا من ضوابط الأسرة الأبوية، وذلك رغم ما تعرضه هذه الأصوليات من فروقات بالتقاليد الدينية ومن أديان عدة وما تظهره من مستويات مختلفة من التطور والتواريخ.
 فالأحزاب والحركات المتطرفة شرقا وغربا تجمعها الخلفية نفسها في الدعوة إلى تقليد ديني أو قومي أعيد تفسيره لجعله حلا للمعضلات التي فاقمتها مختلف أشكال السلطة السياسية، والسعي لكسب السلطة السياسية لتبديل الحكومات على أساس برنامجها السياسي الديني، وهي تميل للظهور حيث توجد نسبة من السكان تتماهى مع معتقداتها الدينية والقومية، فمسألة التدين أو القومية الدينية “الطائفية” تشكل تفسيرا لوجود الحركات الأصولية في أميركا الدولة العظمى وفي “إسرائيل” وفي معظم العالم الإسلامي الذي ينظر إلى “الغرب – المسيحي” و”إسرائيل – اليهودية” كذراعي احتلال.
العمليات الإرهابية التي مارسها بعض المتشددين الإسلاميين، وتطرف النظرة الغربية تجاه العرب المسلمين وجمعهم في سلة واحدة عنوانها التمييز على أساس الدين والربط بين الدين والإرهاب، أدى إلى غرب أكثر تطرفا وأقل قبولا للآخر، وحوّل العالم ككل ضحية لكرة نار تشعلها أيدي المتطرفين شرقا وغربا، والذين يخدمون بعضهم بعضا رغم اختلاف ساحات القتال، والضحايا دوما من الأبرياء.

> خديجة هوزان
كاتبة سورية

Related posts

Top