التعايش والحوار مفتاح لإنهاء الصراع الحضاري

أصبحت شعوب العالم اليوم تعيش حالة من القلق والخوف بسبب الخلافات والصراعات والتوتر الذي يطبع العلاقات الدولية، حيث عدم الاستقرار والحروب والهروب الجماعي من مناطق المواجهات العسكرية وما يسببه ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وصحية وبيئية وخيمة تهدد الوجود الإنساني. إن ما عاشه العالم من صراعات وحروب دموية بالأمس القريب خاصة في الحروب الصليبية والحربين العالميتين الأولى والثانية وحروب الإبادة الجماعية التي خاضتها الدول الاستعمارية في حق الشعوب المستضعفة، وما عاشته بعض الدول الإفريقية والآسيوية من حروب أهلية سببها النزاعات القبلية والعرقية والدينية والصراع حول الثروة المادية والسلطة السياسية، وحرب الخليج الأولى والثانية، والقتال الذي خاضته بعض الجماعات المسلحة في بعض الدول العربية بمبررات إسلاموية مستغلة الفراغ السياسي والعسكري الذي أحدثه الربيع العربي، وما قاساه الشعبان الفلسطيني واللبناني بسبب الاحتلال، فضلا عن بعض النزاعات الثنائية كحرب الرمال بين المغرب والجزائر وما يحدث باليمن وسوريا وغيرها من بؤر الصراع التي لا يسع المجال لذكرها… كل هذه المظاهر كفيلة بإقناع الإنسانية بعدم جدوى الصراع بمختلف أنواعه ومستوياته العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية بشكل عام، فالتعايش أصبح اليوم الحل الأمثل لمستقبل البشرية من خلال البحث عن القواسم المشتركة بين الثقافات والحضارات لمد الجسور والأيادي البيضاء وتهييء مناخ عالمي يؤطره التفاهم والتعاون المشترك والتواصل بين مختلف الشعوب.
إن العلاقات الدولية اليوم أصبحت تحكمها ثنائية الحوار والصراع، وبينهما مساحات شاسعة تملأها أشكال مختلفة من العلاقات: الهدنة، التوتر، الاحتقان، القلق، الحرب الباردة… فحالات الصراع تصل ذروتها إلى نشوب المواجهات العسكرية بين الدول وبين الفصائل السياسية المتناحرة حول السلطة، والحرب الباردة كانت ولاتزال إلى اليوم تشعل الكثير من بؤر التوتر بالعديد من مناطق العالم للحفاظ أو لتملك امتيازات اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية كما هو الحال مع الدول العظمى التي تسعى إلى السيطرة على الاقتصاد العالمي ولعب دور الشرطي وتتغدى على ما تجنيه من أموال من بيع الأسلحة وتوفير الحماية لبعض الدول، وأخص هنا بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأضيف إليهما حاليا الصين التي تسعى إلى الهيمنة الاقتصادية، وهي أجواء تذكر العالم بفترة ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن بين الأسباب التي أصبحت تغذي الصراع والتوتر كذلك الأهداف التوسعية لبعض الدول التي أصبحت غير مقبولة تماما في عصرنا والتي تسعى من منطلق ثقافي واقتصادي وأحيانا عسكري كإيران التي تريد استرجاع الأمجاد “الكسروية” وتركيا التي تحلم باسترجاع المجد “السليماني” بالمنطقة…
لكن بالمقابل نجد العديد من الدول التي آمنت اليوم بالحوار والتعايش استطاعت أن تحقق الرفاهية لشعوبها والارتقاء في السلم الحضاري كبعض دول الاتحاد الأوروبي، والاستراتيجية الجديدة التي أصبح يتبناها المغرب مع دول إفريقيا وبعض دول الخليج، والتعايش الداخلي المؤسس على وحدة الدين ومبادئ المواطنة، والتجارب الداخلية الناجحة ببعض دول شرق آسيا وعلى رأسها الصين واليابان وإندونيسيا، وتجربة جنوب افريقيا في تحقيق الوحدة والاستقرار، والتعايش الداخلي ما بين مكونات المجتمع الأمريكي الذي رغم تكونه من جنسيات عديدة إلا أنه تمكن من إذابة الخلافات العنصرية ما بين السكان البيض والسود رغم ما أثير مؤخرا من أحداث قبيل الانتخابات الرئاسية… وأقوى مظهر للتعايش عبر التاريخ هو توحيد الإسلام لمنطقة شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي على أساس ديني، واستطاعته تذويب الخلاف بين القبائل المتناحرة كقريش وتميم وأسد والأوس والخزرج، حيث امتد هذا التلاحم إلى مناطق شاسعة من دول المعمور، والسر في ذلك هو أن الإسلام لم يسع إلى تغيير أو قلب الأنظمة السياسية أو استغلال ثروات الشعوب وطاقاتهم بقدر ما كان ثقافة ومنهجا للحياة، ودافع عن كرامة الإنسان وتحقيق العدل والمساواة بين البشر بغض النظر عن اللغة أو اللون أو الجنس، والخطاب الإلهي يعبر بشكل دقيق عن نوع العلاقة التي يجب أن تجمع بين الشعوب، معتبرا التقوى هي المعيار الوحيد للتفاضل بين الناس، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
إن جل الشعوب اليوم أصبحت تتوق إلى بيئة عالمية مستقرة تقوم على أساس احترام التنوع الثقافي وإحلال صوت العقل والحوار محل الصراع والتنافس المدمر للبشرية، فكلما علا نداء العقل واندثرت أشكال التمييز بين البشر واستحضرت المصلحة العامة كان الحوار، وكلما تم تغييب التفكير العقلاني وطغت الأنانية المدمرة وأشكال التمييز العنصري كان الصراع.

  بقلم: فؤاد الكميري

 باحث في الحضارة الإسلامية

Related posts

Top