التكثيف الرمزي والدلالي في ديوان “جسور على صهوة الريح” للشاعرة المغربية سلمى الزياني

من الصعب على أي قارئ الغوص في أغوار قصيدة أو ديوان شعري إذا لم تجذبه أو تثير شهيته و فضوله، لأنه عندما تولد القصيدة من ذات الشاعر وتصبح تجربة شعرية خاصة به، فهو في حد ذاته إبداع يستمد جمالياته وتصوراته مما يختزنه الشاعر ويكتنف أحاسيسه ومشاعره الدفينة، كلغة دلالية تشكل فيما بعد صورة بلاغية لا يعرف عمقها إلا هو، ليتلقفها ذلك القارئ حسب مقدار تفاعله معها، أو تأثيرها فيه للوصول إلى المتعة التي يبحث عنها، و هنا تبرز قيمة العمل الإبداعي للشاعر و مقدرته على التأثير.
وفي ديوان “جسور على صهوة الريح” تمثل الشاعرة سلمى الزياني، أحد أولئك المبدعين الذين استطاعوا تفجير القصيدة الشعرية التي اتخذت من الإيحاء دالة ذات أبعاد ورؤى شفافة، عكست ما تعانيه النفس من الآلام والكدمات والأوجاع، أصبح لزاما علينا عدم السكوت عليها، وذلك بلغة شعرية بليغة لامست عمق الواقع والسؤال الثقافي وجعلت القارئ يتذوق كتاباتها التي رغم تكسيرها لحاجز الوزن والتفعيله والتفعيلة، استطاعت خوض تجربة الشعر بكل سلاسة وطواعية ومرونة في اللغة والنظم، فهي حين تقول:

“أنفاسي
مداد القصيدة
و ما تزاوج من رحم الشمس
أذيب لها حرفا خياليا
تلبي ليلا حاسما
يتمنى عناق حلم” (1)

فهي بتكثيفها الرمزي والدلالي هذا، قد جسدت لنا تمثيلا لما يمكن أن تشكله قصيدة النثر على مستوى الرؤية التي تختزل انفعالات وهواجس الشاعرة من خلال الحالات التي تعيشها وتراها، وبمعنى أدق الصور التي تعتصر الذات الشعرية في وعيها الوجودي، كحضور طاغ لهذه الذات، أما الآخر فهو المخاطب “القارئ” بغية إشراكه هذا الولع ومحاولة إيجاد الشفرة المناسبة كحل لهذه الأوجاع.
إن أول ما يستوقفنا في ديوان الشاعرة المغربية سلمى الزياني هو العنوان، حسب قول الناقد الفرنسي “ميشال هاوسر”: ” قبل النص هناك العنوان، وبعد النص يبقى العنوان “عنوان يضم بين طياته تنافرا دلاليا حيث أنه يجمع بين بناء معماري ثابت و هو الجسر، كما هو الحال مع الصهوة و التي هي وفق معجم اللغة العربية المعاصرة، أعلى الشيء، و بين شيء متحرك و غير ثابت و هي الريح، .فــ ” جسور على صهوة الريح”، عنوان يجسد صورة معبرة تحمل من الدلالات و الإيحاءات، ما يجعله مدخلا شهيا لمجموعة من التأويلات على مستوى البنية والوظيفة الرمزية التي يحملها، والتي لها ارتباط قوي بالعبور السريع نحو الضفة الأخرى، من أجل معانقة الحلم المنشود، والمستقبل الواعد، سيما أن هذه الجسور على صهوة الريح، هذه الأخيرة التي جعلت لها في نصها “حروف هاربة” جياد، “يتوجع بك … تزاحمك جياد الريح”، وبالتالي فجسور سلمى الزياني لا يمكن لمن يود العبور من خلالها والدخول لعوالمها – نصوص الديوان – لتفكيكها والتعرف على دواخلها الدلالية، دون أن يكون فارسا في القراءة والتحليل، إضافة إلى أن العنوان ابتدأ باسم نكرة “جسور” فهو مبتدأ والذي سوغ الابتداء به هو الإبهام الذي يخلق نوعا من التوتر في ذهن المتلقي، ويجعله يتساءل أي جسور؟ وأي دلالة يقصدها الشاعر؟ لنلاحظ بعدها أن حالة البدء باسم نكرة ظاهرة لغوية هيمنت على جل عناوين النصوص التي بالمجموعة الشعرية ( رقصة الجراح – أميرة التراب – لسعة الصمت – همسات في أذن المكان – حروف هاربة…). و هذا هو الأصل في الكلمة فيما تبقى المعرفة فرع، و هي لا تحتاج إلى قرينة للدلالة عليها، فيما المعرفة تحتاج إلى قرينة، يقول سيبويه في ” الكتاب ” (1/22 ): ” واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة وهي أشد تمكناً، لأن النكرة أول ثم يدخل عليها ما تعرف به، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة).
قبل أن نغوص في قراءتنا لنصوص المجموعة، لابد من الإشارة إلى أن الشاعرة سلمى الزياني، هي فاعلة جمعوية ومناضلة، الأمر الذي نلمسه من خلال كتاباتها المعتقة بروح التمرد على سياسات الظلم والتفقير والتحقير التي تطال المواطن العربي بصفة عامة، وهي التي تقول في ختام ديوانها:

“حين تصبح القصيدة شبهة
تكون الكلمة تهمة
يصبح الحرف مقصلة
تغتال الشاعر في نص لم يكتب بعد”.

فقد حاولت الشاعرة من خلال نصوصها التي زاوجت بين القصيدة الطويلة والقصيدة القصيرة وصف أكبر قدر من مشاعرها بأبسط التعابير والايقاعات الداخلية ذات الدلالة العميقة، بعيدا عن التعقيدات والتفعيلات الشعرية لتفادي الملل لدى المتلقي والاقتصاد ما أمكن في استخدام اللغة، مما أضفى على هذه القصائد جمالية وأعطاها رونقا وحسا موسيقيا داخليا، وبالتالي فالشاعرة سلمى الزياني تجسد لنا قولة: “الشعر مرآة الروح”، كونها تعتبر أن الشاعر الذي بداخلها هو شخص آخر يختلف عن حالتها العادية، لتتحول إلى نهر دافق من الهذيان اللاشعوري أمام الحالات التي تكتب عنها، تقول في “حروف هاربة”:

“عشقي جوهرة لا تحسن اللمعان إلا على صدرك
حنيني خاتم لا يستهويه إلا أصبعك
قصيدتي سوار تأبى أن تكتب إلا على معصمك
و أنت ….. أنت
نبتة زمن خلقت لتنمو في رحم الفصول
مرة على شرفة الفرح
ومرات على بوابات الشجن”

لقد لامست الشاعرة من خلال متنها هذا كما في أغلب قصائد المجموعة شغاف الحس الإنساني وآهاته، في صورة امرأة معشوقة كرمز للوطن، فالمرأة هنا وطن معشوق، رغم أنه يبحث عن العدل والحرية والمساواة، عشق نابع من ذات معلقة في الغربة، متعطشة لنسمات وأطياف هذا الوطن، والعيش بين أحضانه بكل أريحية دون عنف أو ظلم أو تفرقة بين كافة البشر، أنا كان توجههم أو ملتهم أو جنسيتهم.
تجرع لوعة العشق و الحنين للوطن لم ثتن الشاعرة من الانصات لنبات القلب و أحاسيسها الفياضة التي تهمس بحرارة الشوق والوجد، وآهات روح تهفو لتضميد جراح هذا العشق، عندما تقول في “مرج الياسمين”:

“أنا و أنت
فرعان ثابتان في مسافات متقاربة
الأشجار التي لعبنا تحت ظلها صغارا عانقت أراجيحنا
أهدتنا ثمارها الناضجة
…..
قلبي ثمرة يانعةو قلبك سيفه
أتفتح فيك
مبللة بالندى و الموسيقى
و أنوثة السنديان”

ومن اللافت في نصوص الديوان أن معظمها يكون لوحات من الطبيعة اختزلت فيها أرق اللمسات والتشكيلات الفنية، ووظفت أدق أدواتها (الفراشات، الحمامة، الورد، الأزهار، الشوك، الثلج، الربيع، الخريف، البحر، الثرى، الريح … ) مولدة مشاهد غنية الوصف والتشبيه، حيث نلمسها بقوة في قصيدتها ” وشاية كاذبة” حين اعتبرت الواشي بمثابة ذاك الشخص الذي يزرع الأشواك في طريق، وبأن الوشاية هي السم الذي تغرسه الأفعى ثم تغيب أو بمن يشتري النور بالظلام على جنبات المارين.

“أفعى تغرس السم و تغيب
أنثر نقاء سريرتك
دع للكائدين بكل ممر خيبة التسديد
لعنة الوشاية ضباب الأمكنة المزخرف بالظلام”

جاءت لغة الشاعرة واضحة ومقروءة كما الوجع العربي الظاهر الأثر، وعبارات الأسى والألم لم تفارق القصيدة مغلفة بالحنين والشوق، والأمل المتجلي في الحلم الذي يعتلي قصائدها، متحدية كل الآهات والانفعالات المتغلغلة في الذات الشاعرية، تقول في “هكذا نحن”:

“كطفل يلهو بكريات الثلج
كصقيع يخيم على خطواته
كفارس لا يظهر إلا في كفن
خذلان آخر ونضيع
في انتظار الربيع المزهر
في انتظار عبق الحياة الدافئ”

وبما أن الطفولة دلالة شعرية ترمز للبراءة وسهولة السيطرة، فقد كان لها بديوان “جسور على صهوة الريح” لسلمى الزياني نصيبها ضمن قصائدها، وهي التي مرت كمربية وفاعلة جمعوية قبل أن تكون أما، وأدركت معنى الطفولة ومدى إصرارها على الحياة بكل عفوية:
( تعجبني طفولة / كطفل يلهو / الطفلة الهرمة / إنسانية ذبحت طفولتي ).

ومن المحسنات البديعية التي اعتمدتها الشاعرة في نصوصها والتي أضفت عليها جمالية وتناسيقية بلاغية، لا يمكن نظمها إلا شاعر امتلك ناصية الشعر والإبداع إلى جانب المخيال والثقافة الواسعة، الطباق أو ما يصطلح عليه بالتضاد، أي الجمع بين ثنائية اللفظ وضده، لقد أبدعت في تصوير هذه الصور، متنقلة بينها بكل انسياب ورقة:

” لطفا أيتها الريح
عناقا أيتها الريح “
” يزرع من خطوه أشواكا
يحصد بالسراب ”
” مدان بريء “
” تمردي يعتصر صحاريه
شموخي يمتد جبالا
بحري صاف “

هذه جسور سلمى الزياني، جسور عشق وألم، وجع وأمل، تأمل و حلم نحو غد أفضل، عابرة إياها في تحد وثقة نفس من خلال شدو وتغاريد مبثوثة بكل عناية في هذا الديوان، وهو ما شدني لمضامينه وجعلني أسبح بكل طواعية في قراءته بكل تأن، لقد استطاعت سلمى الزياني أن توقعنا في شركها الذي نصبته لنا وأوقعتنا في فخ ذاتها، لنجد أنفسنا مشاركين في لعبتها الشعرية، معاناتها، آلامها، فرحتها، أحلامها.

> بقلم : محمد الصفى

Related posts

Top