التنوع البيولوجي في زمن كورونا 2/1

كان من المفترض أن يكون عام 2020 “عاما رائعا للطبيعة” مع مؤتمر عالمي لحفظ الطبيعة، ومؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات وقمة الأمم المتحدة للطبيعة، وكلها تتوج بمؤتمر عالمي حول التنوع البيولوجي الذي كان سيؤثث فضاء مناسبا لـ “إطار التنوع البيولوجي لما بعد عام 2020” صالح لعقد من الزمن، كما كان من المفترض أن يكون عام 2020 العام الذي سيطلق عقد الإصلاح ويضع في نهاية المطاف الحلول القائمة على الطبيعة في قلب المفاوضات المناخية، لكن الفيروس التاجي المستجد كانت لديه خطط أخرى  سلطت الضوء على نقاط الضعف في مجتمعاتنا، سواء من حيث الرعاية الصحية أو عدم المساواة.

   وككل سنة احتفلت هيئة الأمم المتحدة ودول المعمور باليوم العالمي للتنوع البيولوجي شهر ماي الماضي، وباليوم العالمي للغابات الاستوائية (الاثنين الماضي 22 يونيو 2020)، كمناسبتين رئيسيتين لتعزيز الوعي العالمي والعمل من أجل حماية الغابة الاستوائية والتنوع البيولوجي والنظم البيولوجية المحتضنة له. وعلى مر السنين، تطور الاحتفال بهذا اليوم ليصبح أكبر منصة عالمية للتواصل العام حول النظم الإيكولوجية وأنواع التنوع البيولوجي والذي يحتفل به الملايين من الناس في أكثر من 100 دولة.

 ويعتبر التنوع البيولوجي عنصرا حيويا لصحة البشر ورفاهيتهم سواء تعلق الأمر بفرادى الأنواع أم بالنظم الإيكولوجية بأكملها. وقد أكد على ذلك أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في رسالته بمناسبة اليوم العالمي قائلا “وإنني بمناسبة اليوم الدولي للتنوع البيولوجي لأحث الجميع، حكومات ومؤسسات تجارية ومجتمع مدني، على اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية شبكة الحياة الهشة والحيوية على كوكبنا الوحيد وإدارتها على نحو مستدام”.

 

التنوع البيولوجي وأهداف التنمية المستدامة

 وفي ارتباط التنوع البيولوجي بأهداف التنمية المستدامة يهتم الهدف الخامس عشر من أهداف التنمية المستدامة بحماية النظم الإيكولوجية البرية وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام، وإدارة الغابات على نحو مستدام ومكافحة التصحر، ووقف تدهور الأراضي ووقف فقدان التنوع البيولوجي.

ووفقا للتقرير التاريخي الصادر هذا العام عن هيئة الخبراء الدولية حول التنوع البيولوجي، فمن المتوقع أن تقوض الاتجاهات السلبية الحالية في التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية التقدم المحرز في تنزيل أهداف التنمية المستدامة ذات الصلة بالفقر، والجوع، والصحة، والاستهلاك والإنتاج المستدامين، والمياه، والمدن، والمناخ والمحيطات والأرض.

وكان كل من ريكاردو لوزانو، وزير البيئة والتنمية المستدامة الكولومبي ويوشن فلاسبارث، وزير الدولة للبيئة في ألمانيا، وإينغر أندرسن، المديرة التنفيذية للأمم المتحدة للبيئة، قد أكدا على هامش مؤتمر الأطراف المعني بتغير المناخ في نسخته الخامسة والعشرين الذي عقد في العاصمة الإسبانية مدريد، العام الماضي، أنه مع وجود مليون نوع من النباتات والحيوانات التي تواجه خطر الانقراض، لم يعد هناك وقت أكثر أهمية للتركيز على مسألة التنوع البيولوجي مثل هذا الوقت.

كما قالت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: “عام 2020 هو عام الطموح والعمل لمعالجة الأزمة التي تواجه الطبيعة، إنها فرصة لإدماج الحلول القائمة على الطبيعة بشكل كامل في العمل المناخي العالمي”. وأكدت هذه السنة بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للبيئة (5 يونيو) الذي اتخذ شعارا له التنوع البيولوجي واقتصر به الاحتفال على الصيغ الافتراضية “كل يوم، يمثل اليوم العالمي للبيئة منصة قوية لتسريع وتضخيم وإشراك الناس والمجتمعات والحكومات في جميع أنحاء العالم لاتخاذ إجراءات بشأن التحديات البيئية الحرجة التي تواجه الكوكب.”

 

 عام الحسم

ويعد عام 2020 عاما حاسما بشأن التزامات الدول بخصوص الحفاظ على التنوع البيولوجي و استعادته، حيث كان من المنتظر أن تستضيف الصين الاجتماع الخامس عشر لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي في كونمينغ قبل أن يؤجل الى موعد لاحق بسبب جائحة كورونا، ويوفر العام المقبل أيضا فرصة لتعزيز بدء عقد الأمم المتحدة لاستعادة النظم الإيكولوجية 2021-2030، الذي يهدف إلى توسيع نطاق استعادة النظم الإيكولوجية المتدهورة والمدمرة على نطاق واسع لمكافحة أزمة المناخ وتعزيز الأمن الغذائي وإمدادات المياه و التنوع البيولوجي.

وفي كلمة له قبل الإعلان عن تأجيل قمة الأطراف للتنوع البيولوجي المرتقب تنظيمها بالصين أكد ريكاردو لوزانو وزير البيئة والتنمية المستدامة في كولومبيا: “سنواجه تحديا مهما في عام 2020 في كولومبيا، وهو استضافة الاجتماع الثالث والأخير للفريق العامل المفتوح العضوية للإطار العالمي للتنوع البيولوجي لما بعد عام 2020 قبل انعقاد مؤتمر الأطراف في الصين، في كولومبيا، نحن على استعداد للعمل معا للتوصل إلى اتفاق يتيح لنا المضي قدما نحو تحقيق نتائج طموحة في مؤتمر الأطراف الذي سيجمعنا في الصين؛ إننا نرحب ببادرة الدعم الألمانية في هذا الجهد العالمي ونتطلع إلى تعاون ناجحا.”

وتحتل كولومبيا المرتبة الأولى في العالم التي تقترب من 10 في المائة من حيث التنوع البيولوجي للكوكب، وتحتل كولومبيا المرتبة الأولى في تنوع أنواع الطيور والأوركيد والثانية في النباتات والفراشات وأسماك المياه العذبة والبرمائيات، وتوجد في كولومبيا عدة مناطق ذات تنوع بيولوجي عال في النظم الإيكولوجية للأنديز، مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأنواع المستوطنة، كما أن لديها جزءاً من غابات الأمازون المطيرة والنظم الإيكولوجية الرطبة لمنطقة شوكو الجغرافية الحيوية.

وقال يوشين فلاسبارث، وزير الدولة للبيئة في ألمانيا: “لا يوجد وقت أفضل للاجتماع معا من أجل الكوكب من الآن”، وأضاف “العمل المناخي والحفاظ على التنوع البيولوجي وجهان لعملة واحدة، نحن بحاجة إلى تطوير سياسات توقف انقراض الأنواع النباتية والحيوانية”.

وبسبب جائحة كورونا تم تأجيل قمة الأطراف بشأن تغير المناخ في نسختها السادسة والعشرين وقمة الأطراف بشأن التنوع البيولوجي في نسختها الخامسة عشر، ومع ذلك، اعتبرت هذه المفاوضات الدولية، المقرر إجراؤها عام 2021، ضرورية لمستقبل الكوكب، لكن تأجيلها يمكن أن يتحول إلى إعطاء نفس جديد في المفاوضات برؤية جديدة ومفاهيم جديدة وطرق تفاوض جديدة ستكون ايجابية ولصالح كوكب الأرض.

وحتى لا ننسى قمة الفشل بامتياز- مؤتمر الأطراف حول تغير المناخ المنعقد تحت رعاية الأمم المتحدة نهاية عام 2019 في مدريد- فقد جعلتنا هذه القمة العالمية التي حشد لها ما يزيد عن 25 ألف مندوب من كل بقاع العالم، نعيش شعورا رهيبا بعدم المسؤولية الدولية، فقد عملت القوى العالمية الكبرى على رفع درجة التسويف إلى رتب متقدمة، بعدما كانت قد استدعت الشباب والمنظمات غير الحكومية من أجل “تغيير النظام العالمي لإنقاذ المناخ” وللضغط دون مزيد من التأخير على الاقتصاد العالمي القائم على الكربون للانتقال الى الاقتصاد الخالي من الكربون مرة أخرى، ومع ذلك لن يأتي الحل إلا بالتضامن الدولي الذي لا غنى عنه ومن قدرتنا في المستقبل على ربط الأزمات الصحية والبيئية.

ويتوقع بأن يكون مؤتمر قمة الأطراف من أجل المناخ، الذي كان مقررا عقده في اسكتلندا في غلاسكو في نونبر المقبل، الأهم منذ مؤتمر باريس المنعقد عام 2015، وكان من المقرر أن تحدد القمة السادسة العشرون لتغير المناخ طموح اتفاقية باريس للمناخ، تلك التي كان على البلدان في جميع أنحاء العالم الوصول إليها من خلال مراجعة أهدافها للحد من الغازات الدفيئة بشكل كبير، حيث لا مزيد من تضييع الوقت فالالتزامات الحالية التي تعهدت بها الدول ستؤدي حسب تقديرات علماء المناخ إلى ارتفاع درجة الحرارة ما بين 3 و4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن بينما يهدف بروتوكول باريس الى احتوائه في درجتين مئويتين.

 ولم يكن عام 2020 عاما للمناخ فقط، بل عاما للطموح والانتصار المنتظر لسنوات خصوصا بعد انتكاسة بروتوكول كيوتو وانسحاب كندا مرفوقة بمجموعة من الدول العظمى في بداية القرن الحالي، والانتكاسة الأخرى التي رافقت انسحاب الولايات المتحدة الامريكية من بروتوكول باريس لتغير المناخ، انتكاسة أخرى كان من المنتظر أن يشهدها العالم في شهر أكتوبر المقبل في الصين، إذا لم يضع العالم بأسره حدا لها عبر وضع قوانين جديدة لحماية التنوع البيولوجي، فقد كان الغرض من الاجتماع الخامس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي هو وضع خطة عالمية لاستعادة النظم البيئية وحمايتها، تعويضا عن الوقت الضائع. فلا شيء يبدو على ما يرام: 75٪ من البيئة الأرضية و40٪ من البيئة البحرية تظهر عليها علامات كبيرة من التدهور، ويتعرض ما بين 500 ألف ومليون نوع بيولوجي من ضمن ثمانية ملايين نوع على هذا الكوكب لخطر الانقراض.

        كما تم تأجيل قمة مهمة أخرى، و يتعلق الأمر بقمة الأمم المتحدة حول المحيطات التي كان من المقرر عقدها في شهر يونيو الحالي في البرتغال، وكذلك مؤتمر الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة والذي كان من المقرر عقده في شهر يونيو الحالي في مرسيليا حيث سيعقد في  بداية شهر يناير  من عام 2021، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ستستغل قمة دولية لتوعية عامة الناس بشكل موضوعي تماما بضرورة حماية الطبيعة، في الوقت الذي تم فيه توثيق الصلة بين الأوبئة والتدمير الشامل للتنوع البيولوجي على نطاق واسع في الأسابيع الأخيرة.

        يقول لورانس توبيانا مهندس اتفاقية باريس للمناخ والرئيس المشارك للجنة الحكامة من أجل المناخ التابعة لاتفاقية مؤتمر المناخ: “دعونا نجعل الأزمة الصحية التي نمر بها والتي ترتبط بالأزمة البيئية فرصة” وأضاف “هذه لحظة حاسمة لتسريع العمل المناخي وليس للرجوع إلى الخلف.”

        وكانت قد أعلنت كل من بولونيا والجمهورية التشيكية عن التخلي عن “الصفقة الخضراء الجديدة” التي أطلقتها رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية أورسولا فون دير لين، تعبيرا عن المواقف المؤيدة لخطوة إلى الوراء بشأن التدابير المناخية داخل الاتحاد الأوروبي، اتفاق أخضر تم منحه ألف مليار يورو على مدى عشر سنوات، لتمويل الانتقال الإيكولوجي، اتفاق اعتبرت دولة بولونيا أنه سيعيق الانتعاش الاقتصادي بعد أزمة فيروس كورونا.

        ويؤكد لورانس توبيانا مدير مؤسسة المناخ الأوروبية: “ستشكل أزمة الفيروس التاجي نقطة تحول حقيقية وفرصة لن يتم تفويتها أبدا.”

        وتطالب العديد من المنظمات غير الحكومية باستغلال الفرصة التاريخية التي منحها الفيروس التاجي، يقول لورانس توبيانا إنه ضروري مع “بعض المبادئ الأساسية”: فقبل كل شيء، لا تطبق الوصفات القديمة للاقتصاد لإعادة تشغيل الجهاز كما كان من قبل، ففي كل مرة، تأخرنا لسنوات مع زيادة في انبعاثات الغازات الاحتباس الحراري منذ بداية الانتعاش الاقتصادي، كان هذا هو الحال بعد الأزمة المالية لعام 2008.

         كما ينبغي أن يكون الانتعاش الاقتصادي القادم فرصة لإزالة مليارات الإعانات المخصصة للوقود الأحفوري، “نحن لا نلحق أي ضرر ونستثمر في قطاعات تنافسية للغاية اليوم مثل الطاقات المتجددة، فلم يكن هذا هو الحال قبل عشر سنوات في وقت خطط التحفيز المرتبطة بأزمة عام 2008” يؤكد لورانس توبيانا، ثم يضيف “يجب ألا نساعد بعد الآن، وتمويل القطاعات التي تطلق غازات الدفيئة بصعوبة دون أن تطلب منهم أي شيء في المقابل، عندما ندعم القطاعات الاقتصادية، فإننا نساعدهم بشرط أن يسرعوا عملية انتقالهم، كما هو الحال بالنسبة لقطاع السيارات ولقطاع الطيران، في خضم الأزمة”.

        وخلص لورانس توبيانا إلى أنه: “سيعتمد المستقبل إلى حد كبير على النقاش العام وعلى استعداد الحكومات للتشاور على نطاق واسع، فلا يمكن أن يكون لديك خطة تحفيز فقط من قبل الحكومة وعدد قليل من الخبراء، نحن بحاجة إلى مناقشة واسعة للغاية لأنها تنطوي على مستقبلنا، وهذا ما يقلقني ولكن في نفس الوقت فإن الحجر الصحي الاجباري الذي نعيشه يجعل العديد من المواطنين يفكرون.”

        وهذا هو الحال مع أولئك الذين شاركوا في مؤتمر المواطنين حول المناخ الذي استعملت فيه تقنية التداول بالفيديو يومي 3 و4 أبريل 2020، حيث أجمع العديد من المواطنين على ربط الأزمة البيئية بالفيروس، وبالنسبة لمعظمهم، فإن الرابط راسخ، وموثق على غزو الأنشطة البشرية للنظم الإيكولوجية، وأصبحت الحاجة ملحة إلى الحفاظ على المناخ والتنوع البيولوجي للحد من الفيروسات، ويمكن أن يقنع هذا الوباء المواطنين بأن علينا تغيير الأشياء، وبالتالي، منح الحكومات الطاقة والشجاعة للذهاب بعيدا في هذا النهج، حيث سيكون عامل الرأي العام هذا حاسما للغاية.

        وتقتل الأمراض الحيوانية المنشأ حوالي 700 ألف شخص سنويا، هذا ما أكدته آن لاريغودري السكرتيرة التنفيذية لـلجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالتنوع البيولوجي مضيفة: “إن العملية التي تحرك فيروسا من مجموعة من الفقاريات – الخفافيش على سبيل المثال – التي توجد فيها بشكل طبيعي، إلى البشر  تعد عملية معقدة ولكن سببها البشر و أن الإجراءات البشرية تهيئ الفرصة للفيروسات للاقتراب من البشر.”

“إن السرعة التي تغيرت بها المساحات الطبيعية على مدى السنوات الخمسين الماضية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، “والعامل المباشر الأكثر أهمية هو التغيير في استخدام الأراضي” تضيف آن لاريغودري.

حددت دراسة أمريكية أنجزت قبل ظهور الوباء الحالي ونشرت مؤخرا أن القوارض والخفافيش تعتبر مضيفات لغالبية الفيروسات التي تنتقل إلى البشر بنسبة 75.8٪ في حين أن الحيوانات الأليفة تحمل 50٪ من الأمراض الحيوانية المنشأ المحددة.

     

   وتظهر الدراسة أنه بالتركيز على الحياة البرية المهددة بالانقراض، فأولئك الذين يتشاركون معظم الفيروسات مع البشر هم على وجه التحديد “أولئك الذين ينخفض عدد سكانهم بسبب الاستغلال وفقدان الموئل”.

        وتؤكد كريستين جونسون من كلية الطب البيطري في لام بجامعة كاليفورنيا، التي قادت الدراسة: “نحن نقوم بتعديل المناطق، مما يزيد من شدة الاتصال بين البشر والحياة البرية، ويخلق الظروف المثالية لانتقال الفيروس”.

وتحذر آن لاريغودري من أن هذا الاتجاه ليس من المتوقع أن يتغير، بل المتوقع أن تؤدي التغيرات في استخدام الأراضي، مقترنة بالزيادات في التجارة والسفر، إلى زيادة وتيرة الأوبئة في المستقبل.

        لذلك يجب أن تكون الاستجابة منهجية، كما يؤكد غوينال فورش: “إلى جانب الاستجابة الأساسية الوحيدة لكل وباء، يجب أن نفكر في نموذجنا” وعلى وجه الخصوص “إعادة التفكير في علاقتنا بالنظم البيئية الطبيعية والخدمات التي تقدمها”.

        تدعو آن لاريغودري إلى “تغيير تحويلي لإيجاد حل لهذه المأساة العالمية” من خلال العمل على “ترسيخ البيئة” لمختلف القطاعات الاقتصادية، من التمويل إلى الصيد إلى النقل والطاقة.

        وكان تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2016 قد أشار إلى أن “الاستراتيجيات الفعالة موجودة بالفعل للسيطرة على معظم الأمراض الحيوانية المنشأ المهملة، لكن يبقى العائق الرئيسي هو نقص الاستثمار”، مشيرًا إلى أن “سلامة النظم البيئية تدعم الصحة والتنمية  للإنسان “.

        أمضت جين جودال معظم حياتها في دراسة الحيوانات والدفاع عنها وخاصة الشمبانزي من إفريقيا وخاصة بدولة طنزانيا، وتحذر عالمة علم الأحياء البريطانية من أنه “كان من المتوقع حدوث ذلك، وسيحدث مرة أخرى حتى نتعلم الدروس”، لأن أسباب الوباء بالنسبة لجين جودال واضحة: “ازدراؤنا للطبيعة وعدم احترامنا للحيوانات التي ينبغي لنا أن نتشارك الكوكب معها”.

        وقال نيكولاس هولو وزير الدولة الفرنسي المكلف بالانتقال الايكولوجي سابقا عن كورونا: “الطبيعة ترسل لنا رسالة”. وهل يجب أن نرى في الواقع انتقاما من الطبيعة؟ لا يزال العلماء في مرحلة الفرضية اليوم، والأرجح أن حيوان البنغولين، أحد أنواع الحيوانات البرية التي تباع في سوق المأكولات البحرية في مدينة ووهان الصينية بؤرة الفيروس العالمية، كان سيعمل كمضيف وسيط بين الخفافيش والبشر.

ومن المعروف أن الفيروس الذي يسبب الوباء الحالي هو “سارس كوف2” الذي ينتمي إلى جنس كورونا فيروس، و نعلم أيضا أن أنواع الخفافيش تحتوي بشكل طبيعي على عدد كبير ومتنوع منها، حيث نجح فريق من العلماء الصينيين في عزل فيروس من البنجولين يشبه تسلسله الوراثي إلى حد كبير فيروس السارس 2، عندئذ كان من المحتمل أن يكون هناك إعادة تركيب جيني بين فيروس بانجولين وفيروس خفاش، غالبا ما تحدث هذه الظاهرة الطبيعية ويمكن أن يكون لها عواقب وخيمة، و هنا كان سيمكن السارس كوف2 من اكتساب القدرة على دخول الخلايا البشرية.

        مرة أخرى، هذه مجرد تخمينات، فهناك العديد والمئات من أنواع الخفافيش التي لم يتم فحص فيروساتها بعد، فقد يجد أحدهم قريبا فيروسا مطابقا تقريبا للفيروس المسبب لوباء فيروس كورونا البشري الحالي، ويمكننا بعد ذلك أن نستنتج أن الفيروس ينتقل مباشرة من الخفافيش إلى البشر، دون أي مساعدة من البنغولين.

         وعلى أي حال، ما زلنا في وباء مرتبط بأمراض حيوانية، أي مرض يكون فيه خزان العامل المعدي حيوانا، ومن بين هذه الأمراض الحيوانية، تأتي الأغلبية من الحيوانات البرية، ونتيجة لذلك فإن وباء الفيروس التاجي هذا يدل على الحالة الراهنة للتنوع البيولوجي، وبشكل أكثر تحديدا الطريقة التي يسيء بها البشر معاملتها.

        فكيف يمكن للمرء أن يشك في أن البنجولين أو آكل النمل الحرشفي هو أصل الوباء، عندما يكون من الثدييات الانفرادية والليلية التي تعيش في الغابات الاستوائية في آسيا وجنوبي أفريقيا، نظريا فاتصالاته مع البشر محدودة، وبالتالي فإن احتمال انتقاله إلينا جد منخفض، باستثناء أن البانجولين هو واحد من أكثر الأنواع البيولوجية المستهلكة في العالم، وهي مرغوبة على حد سواء لمقاييسها ولحومها، التي تستهلك بشكل رئيسي في الصين وجنوب شرق آسيا و أفريقيا، هذا الاتجار في الحيوانات الغريبة له نتيجتان رئيسيتان: من ناحية، فإنه يزيد من خطر انتشار وباء عن طريق جعلنا على اتصال مع العوامل المعدية النادرة، و هذا النوع من تجارة توريد الأسواق موجودة اليوم في المراكز الحضرية الكبيرة، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاتجار يجعل الحيوانات المختلفة على اتصال ويسمح للعوامل المعدية بإعادة التركيب وبالتالي تكون قادرة على عبور الحاجز بين الأنواع، كان هذا هو الحال بالنسبة لفيروس السارس السابق، و يبدو أن هذا هو الحال بالنسبة لـفيروس كورنا المستجد.

        وجدت الاوبئة على مر الزمن كانت هناك دائما أوبئة موجودة. ومنذ فترة طويلة وقبل ظهور أزمة التنوع البيولوجي، تمكن العلماء في الواقع من تعقب الأمراض التي يرجع تاريخها إلى قرون، أو حتى الى آلاف السنين، حيث اختفى البعض، في حين أن البعض الآخر  مثل الملاريا والسل  لازال موجودا، لكن ما هو واضح اليوم هو أن عدد الأوبئة المرتبطة بالأمراض الحيوانية قد ازداد في العقود الأخيرة، مرة أخرى، نحن ندمر البيئة الطبيعية بوتيرة متسارعة، ونقوم بتربية الحيوانات و بطريقة ما نقوم بإنشاء مفاعلات الأمراض.

 

عودة قوية لفيروس إيبولا

        ويواصل فيروس الإيبولا الذي ضرب غرب ووسط إفريقيا بانتظام الانتشار، حيث تماثل هذه المشكلة تقريبا مشكلة فيروس كورونا المستجد، حيث خزان العامل المعدي هو الخفافيش، في النظم الحرجية المتدهورة بشدة بسبب الأنشطة البشرية، تجد هذه الخفافيش نفسها أكثر سهولة في الاتصال مع البشر  خاصة أولئك الذين من القرى القريبة من هذه الغابات المتدهورة، هذا الاختلاط يجعل احتمال انتقال الفيروس أعلى قبل خمسين عاما، ربما ظل المرض محصورا في هذه القرى والبوادي لكن اليوم يمكن أن ينتشر بسرعة كبيرة في هذه المناطق القروية المتصلة بالمراكز الحضرية الكبيرة.

        ولا تزال قلة الوعي بالخطر الذي تشكله هذه الأمراض الحيوانية منتشرة نسبيا، بما في ذلك داخل المجتمع العلمي، والسبب هو بلا شك أن أزمة التنوع البيولوجي أكثر تعقيدا في الفهم من تغير المناخ وعواقبه: مثل الحشرات الضخمة التي ضربت أستراليا قبل بضعة أسابيع، فقد أطلقنا بالفعل ما يكفي من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي وستبقى هناك لفترة كافية، حتى يكون هناك احتمال كبير جدا أن تواجه أستراليا نوبات جديدة من الجفاف الشديد لذلك يمكننا أن نتوقع حرائق جديدة في هذه المنطقة في السنوات القادمة.

        نحن نعلم أيضا أننا سنواجه أوبئة مستقبلية مرتبطة بأمراض حيوانية المصدر، ولكن لا يمكن لأحد أن يتنبأ بموعد ومكان حدوثها بالضبط، ولا من أي خزان حيواني، ببساطة لأن هناك العديد من العوامل المتداخلة كإزالة الغابات، الصيد غير المشروع، تجارة دولية تتغذى على الحياة البرية ولأسباب ترفيهية خرقاء أو لتوفير الأدوية “الساذجة” التي تغذي ما يسمى بالطب البديل.

 

من أجل تجنب الأسوأ

        حضر نيكولاس هيلو الناشط البيئي ووزير الانتقال الايكولوجي الفرنسي السابق أشغال إحدى اجتماعات التخطيط للتنوع البيولوجي الرئيسية في شهر فبراير الماضي، حيث كان مقررا أن يعقد الاجتماع في الصين، ولكن تحول مكان الاجتماع إلى روما لأن الظروف الصحية في الصين لم تسمح بعقد اللقاء، في يوم وصول نيكولاس هيلو الى روما كان قد تم اكتشاف أول ثلاث حالات إصابة بفيروس كورونا في شمال إيطاليا، وفي أوروبا كانت تعتبر هذه هي أولى الحالات المكتشفة، لكن بعد يومين ارتفع العدد الى 21 حالة اصابة وإلى  229 حالة اصابة بعد خمسة أيام.

        غادر نيكولاس هيلو العاصمة روما بسرعة وقبل أن يحضر أشغال الندوة الافتتاحية الأولى لهذا اللقاء الدولي، حيث كان يخشى أن يكون قد تعامل بسرعة لكن تجربته في مجال الصحة العامة جعلته يخمن حدوث تسونامي لا يمكن توقيفه، وكما تنبأ الخبير الدولي فبعد أسابيع قليلة اتضح حجم الأزمة التي هددت بزعزعة جميع المجتمعات على كوكب الأرض.

        يقول نيكولاس هيلو: “إذا أتيحت لي الفرصة للعودة مبكرا من روما مما مكنني من شراء مخزون صغير من الضروريات الأساسية والمأوى، فإن 80٪ من البشرية تعيش على أقل من 10 دولارات في اليوم وستواجه هذا الوباء دون أي نوع من الضمان الاقتصادي أو الاجتماعي.” وأضاف “يمكن أن يكون التغيير معقدا ولا يمكن التنبؤ به، ولهذا السبب يجب أن تكون استجاباتنا ذكية واستباقية، كما رأيت عدد الحالات زيادة في روما، كان من الواضح وبكل بساطة أن الأمر يتعلق بمنحنى نمو رأسي، وهو نمط نميل إلى التقليل من شأنه، كان من الواضح أيضا أن هناك نقاط حاسمة: الإجراء السريع له فوائد آنية، في حين أن الاستجابة المتأخرة أو غير الموجودة قد تكون لها فائدة ضئيلة أو معدومة على الإطلاق، البلدان التي طبقت تدابير حازمة ومبكرة “لتسوية منحنى” الوباء لديها أدنى معدلات الوفيات، لذلك فإن عامل الوقت له أهمية حاسمة.”

إن أزمة مثل أزمة كورونا تتحدى أيضا ديناميكيات الوضع الراهن، كما يؤكد نيكولاس مشيرا إلى أن “الإجراءات التي بدت أمس مستحيلة أصبحت محتملة اليوم وغدا محتومة” وفيما بدا احتواء مثل ذلك الذي نفذ في مدينة ووهان مستحيلا في البداية في إيطاليا، أضحى الإغلاق أمرا لا مفر منه في أغلب المدن حول العالم.

ولتطبيق هذه الدروس على التنوع البيولوجي ينصح نيكولاس هيلو “يجب علينا إنشاء شبكة أمان كوكبية قائمة على الطبيعة من خلال تعزيز أضعف الروابط في أنظمتنا العالمية، فنظامنا الغذائي العالمي أصبح عرضة لفقدان التنوع البيولوجي: فقد اختفت ملقحاتنا، والأمر نفسه ينطبق على 35٪ من محاصيلنا العالمية، وفي مواجهة ملايين الأنواع المهددة بالانقراض يجب علينا تعزيز وتوطيد النظم البيئية الطبيعية”. ويؤكد “يجب أن نكون فعالين قدر الإمكان في حل التحديات متعددة الأبعاد للطبيعة والتنمية في وقت واحد، هناك بالفعل دعوة لخطط الاستجابة البيئية لجائحة فيروس كورونا المستجد، بداية جيدة هي الانخراط في استثمارات ضخمة وشاملة في الحراجة الزراعية والزراعة التجديدية وترميم أشجار المانغروف، ستساعد مثل هذه الحلول في القضاء على فقداننا للتنوع البيولوجي، وتقليل أكثر من ثلث غازات الاحتباس الحراري، ومنع الكوارث وحماية أكثر من ملياري شخص يعيشون في الفقر ويعتمدون بشكل مباشر على الطبيعة من أجل بقائهم”، وكذلك “يجب أن نكون مستعدين لاتخاذ إجراء استراتيجي وتحدي المصالح القوية التي تقاوم التغيير”.

يجب أن نستمع إلى العلم، ونفهم ونتجنب نقاط التحول في الطبيعة، وهذا يعني استخداما أفضل للبيانات المكانية المتاحة لاتخاذ قرارات مدروسة بشأن استخدام الأراضي، كما هو الحال مع فيروس كورونا المستجد، قد يبدو اتخاذ تدابير جذرية لمنع انقراض الأنواع والانهيار البيئي مفرطا، حتى يصبح  قليلا جدا ومتأخرا جدا”، وأخيرا “يجب علينا أن نعمل ككوكب واحد ونستثمر ما يكفي في حماية التنوع البيولوجي واستعادته وإدارته المستدامة لإعادة الطبيعة إلى صميم التنمية المستدامة، إن القيام بأقل من ذلك يعني الخضوع لأزمة بطيئة ذات عواقب أسوأ بكثير على البشرية من كورونا

محمد بنعبو

خبير وناشط بيئي.

Related posts

Top