التيه في فلات الموت

تجولت عيناي على الكثير من الأحداث التي تمر بحياتي ليتملكني التأمل في كل تفصيل جديد… غالبا لا أبحث عن أجوبة حين تزداد العقد في رأسي وأوقظ الذكريات من سباتها بقدر ما يتملكني الفضول نحو الموت… فأنا أعلم أن الموت حتمي والحياة إمكانية وبين الإمكانية والحتمية تضيع كل الفرضيات.. أبحث عن هذه الأجوبة حين يساورني الشك وأنا أرى مدينتي تصحو وقد أوشكت على الهلاك، فيبدد الموت صوت الخواء الذي أسمعه الآن في قلبي المعطوب.. فكرة مجردة لا يسعني تصورها أو التعبير عنها فأنا التائهة هنا. ثم ماذا؟ ثم يجثو على ركبتيه ذلك الصمت الذي أرهق جسدي وأدمى قلبي وأنا أصارع أمواجه العاتية مع أنفاسي المتقطعة.. علني أفك وثاقه أو ربما أربطه باللون الأسود.. أو الأبيض.. أو غياب الألوان.. فتتوارى قيوده ليتشكل التعب والأرق في غياب الصوت والشعور بالأشياء، فيبتهج ذاك الموت الذي أجهله وأهابه ككل البشر.. فحين نفقد بعض ما منحنا نعانق السماء ونشعر بالدوار لنرتطم بظله.. نتجاهله. كما نتجاهل أي شخص لا يروق لنا.. أو يروق لنا فينسينا مرارة الغياب. غياب ماذا؟ ربما غياب تلك الطفلة التي أضعتها منذ مدة فاختفى صوتها بين ثنايا صدري فكـان كل حرف يجرح حنجرتي عِندما أهم بِنطقه ويهم بالتلاشي لأعلم أنه الموت.. ربما أنا في شجار دائم مع فكرة العدم.. ووجود الفكرة.. ولا يسعني أبدا إخماد ولو قليل من فضولي وأسئلتي.. وطروحاتي المتناقضة، لأراقب عن كثب كل واحد فينا وهو يتوقف لوهلة عن ممارسة حياته اليومية.. ولو لمرة واحدة.. وأتساءل: كيف هو الموت؟ لا يهمنا ما هو فعلاً.. لكن ما هو شعورنا خلال الموت.. وقبل الموت بلحظات.. وبعد الموت، مهما قرأنا من نصوص ومخطوطات ونظريات وقصص وأساطير.. كل ذلك لن يجيب مخاوفنا عنا. نحن نهاب الموت لذلك نبحث عنه.. كي نتهرب منه إلينا. فرضا لو واجه أحدنا فكرة الموت المحتم.. وأصابه مرض عضال لا شفاء منه.. وتوقع موته في القريب العاجل.. فإن الحياة تنهار بكل نظرياتها أمامه. وإن كان قد عاشها من أقصاها لأقصاها.. فالبعض يبالغ بالحياة ويتواضع عند الموت.. لذلك حين يقترب من الموت وبلمحة البصر.. يتوقف.. ويجرد نفسه من نفسه.. ويتقرب من الموت كي يحاول فهمه، ربما الخوف من المجهول.. فالفضول، بحد ذاته، خوف. وفكرة الانفصال عن الوجود الذي نعرفه، خوف. الخوف من الشعور بالخوف أيضا خوف، نحن لا نهاب الأفكار بل نهاب شعورنا حين يخبرنا باقتراب الموت.. فنخاف ردات أفعالنا تجاه الأفكار تلك ونهاب أنفسنا. فعلا تبادر إلى ذهني الآن الموت.. بذلت كل جهدي كي أصفد أول دمعة كادت أن تسيل.. أو ربما آخر دمعة ذرفتها فوق أوراقي، تبا فقط أكذب، كم أنا ممثلة بارعة. شاهدت الكثير من الدموع الشاحبة.. وبت أعلم تماما متى تكون الأوقات مميتة، والألوان مميتة.. وغياب الألوان أيضاً مميت، كلما شعرت به تجاهه هو فراغ غير مبرر.. وغير مفهوم. فقدت الشعور تماماً.. وفقدت الرغبة بالشعور. لكن رغم كل هذا الخوف فالراحة بعد الألم والشعور بالخوف تستحق الانتظار.. لطالما فكرت بالكلمة قبل لفظها.. وبالفعل قبل الإتيان عليه.. وبردة الفعل قبل الفعل أحياناً كل ما أردته فعلا هو أن أكتب عن الموت… أجل الموت وبشدة.. وأقول للعالم.. كم هو مخيف للغاية. رغم كل محاولاته.. وابتساماته.. ودقات قلبه.. وصوته المرتجف.. كنت أعلم بأنه غادر.. وهو يعلم بأنني خائفة.. وكلانا ينتحل صفة الأبطال.. هو سينقذني من هذه الحياة البائسة وبالمقابل أنا سأرافقه في جولة نحو المجهول… فالأمور السيئة تصبح مضحكة قبل الموت، فهل هي مضحكة بعده؟ كلنا يتكبر أمام وطأة الخوف.. وكلنا يختار الصمت أمام زحمة الكلمات الغاضبة. كلنا يغضب أمام المرآة.. وكلنا يهاب رؤية ملامحه المذعورة .. فيا ليت الموتى بعد رقادهم يتكلمون.. ليتهم يخبروننا بماذا يشعرون.. أو إن كانوا يشعرون نحن نشعر طوال الوقت.. ونتساءل عن أحوالهم.. نقوم بزيارتهم في أماكنهم الجديدة.. نحدثهم عن أعمالنا.. ونجاحاتنا.. وإخفاقاتنا.. وأولادنا.. وأحفادنا.. ونحن على يقين بأنهم يسمعون.. وبأنهم لن يجيبوا.. ثم قبل أن نرحل.. نصمت.. أمام قبورهم.. بحسرة.. وحب.. ونلقي كلمة الوداع.. ونحن لا نعلم أصلا إن كانوا سيرافقوننا نحو الباب.. ويلوحون بأيديهم قبل إغلاقه. على رسلكم.. أنا أهذي.. إنه الخوف فعلا من الموت.. كما الأصوات القادمة من متاهات السنين.. لكن الراحة بعد الألم تستحق الانتظار.. كل من ماتوا وماتت أجسادهم وأرواحهم وصورهم وذكراهم وأصواتهم وآثار أقدامهم.. سبق وكتبوا عنهم في مذكراتهم ودفنوها معهم تحت التراب كآثار قديمة لم تدرس وأماكنهم لم تهجر والحنين بعدهم لم يستكن.. فقط اجعلوا كل النهايات رومانسية.. يوماً ما سيأتي أحدهم.. ويقرأ عنهم.. وربما عنكم، فعلت ذلك مرة.. وقبل أن أقوم بدفن مذكراتي قرأت صفحة واحدة عني فعلمت أني في دنيا الأحلام… أحلام تضج بها الأيام ولم تكن آثارهم أطلالا بلا ظلال تظللني من هجير فقدهم وتسبح بهم في فضاءاتي.. دفعتني حينها عنوة لإفشاء سرهم.. ومشاركة تجربتي مع كل من مر وما زال يمر بتجربة مماثلة ليستكين لهيب غيابهم.. الألم حتمي كالموت.. الخوف حتمي أيضاً.. لا بأس.. الحياة كما هي رائعة. لكن هذا كله كان تعزية لروحي الثكلى وهي تمر أمامي بذكرياتهم ولا تفنى.. انظروا لكل هؤلاء الأولين حولكم.. ليست كل ذكرياتهم ميتة.. وإن كانت فامزجوها.. وابتكروا ألوان جديدة.. وحياة جديدة.. وذكريات جديدة.. ففي ظلمة كل قيد أراهم يشرقون من جديد فتهب نسائمهم لتعود بهم إلى مداري..

بقلم: هند بومديان

Related posts

Top