الجامع الكبير بأسفي .. ذاكرة محلية متميزة

عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء مسجده بالمدينة المنورة، صارت للمساجد مكانة مركزية في الحياة الفكرية والمجتمعية للمسلمين . ومن ثمة، أضحى المسجد منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده، مؤسسة  دينية وعلمية  بالدرجة الأولى، تقام فيه الشعائر الدينية كالصلوات الخمس وتلاوة القرآن وإلقاء الدروس في الفقه والتفسير والحديث .. ولم يقتصر دور المسجد على العامل الديني فقط، بل تعداه إلى أن يكون مؤسسة اجتماعية واقتصادية وثقافية وقضائية وتعليمية ومعمارية كما كان المسجد مكانا للتصدي للأعداء والاحتجاج ضد المستعمر على حد ما نجد في المسجد الجامع أي المسجد الكبير أو العتيق بمدينة أسفي، حيث تصدى السكان للاحتلال البرتغالي انطلاقا من المسجد، وذلك بالتخطيط لإجلائه عن المدينة، إضافة إلى ما سبق، كان الفقهاء يقيمون في المسجد منافسات لاستظهار القرآن الكريم بين طلبتهم في غير قليل من المناسبات الدينية، كشهر رمضان، خاصة في العشر الأواخر، حيث يجتمعون مع طلبتهم لإحياء ليلة القدر خاصة في المسجد الأعظم .
ومعلوم أن أسفي قد عرفت عبر تاريخها القديم، ظهور مجموعة من المساجد منذ العصر الوطاسي، منها المسجد الأعظم ومسجد البحر ومسجد باب أورير ومسجد تامرنوت ومسجد الشيخ أبي محمد صالح، ثم مسجد القصبة وغيرها من المساجد، مما يدل على توهج ديني وعلمي وحضاري عرفته مدينة أسفي من خلال مساجدها، إضافة إلى ما كان للمدينة من شروط ومقومات التمدن والإشعاع الحضاري، إلى أن ابتليت بدخول البرتغاليين إليها سنة 1508 حتى سنة إخلائها في 20 أكتوبر 1541، حيث عبثوا بمؤسساتها الدينية والحضارية، لدرجة أن سكان المدينة تقدموا برسالة شكوى إلى الملك البرتغالي ” إيمانويل ” ذكروا فيها أن “النصارى اشتغلوا بهدم جوامعنا وسرقة حصورهم ودفاتهم ..”، مما حولها إلى خرائب وأنقاض .
  ليعلم القارئ الكريم أن المسجد الأعظم أو الكبير بأسفي، يعد من أقدم عمران المدينة العتيقة، وربما يمكن اعتباره الركن الأساس فيما عرفته مدينة أسفي من تطور في عمارتها الإسلامية ونهوضها العلمي في العصر الموحدي وما تبعه من دول وعصور، وبذلك، يكون قد شكل النواة الأولى في تجديد تعمير المدينة .
ولتبيان ذلك، فإن مدينة أسفي ـ وحتى العصر المرابطي ـ لم تكن تنعت بصفة المدينة الإسلامية، نظرا لافتقارها إلى أهم شروطها وهي المسجد الجامع والسور
ولم يتحقق لها هذا الأمر إلا على يد الموحدين الذين أكسبوها صفة المدينة الإسلامية. وبعد قرون من التألق العلمي والإشعاع الديني والحضاري تحت الحكم الموحدي والمريني، ابتليت المدينة بالاحتلال البرتغالي كما سبق الذكر . وجريا على عادتهم عند احتلال أي مدينة إسلامية بالمغرب، فإن البرتغاليين الغزاة يعملون على تدنيس مساجدها وزواياها ملحقين بها التخريب والهدم، ليحولوها فيما بعد إلى مفارغ لقاذوراتهم ومرتعا لفضلاتهم .. وطبعا، لم يسلم المسجد الأعظم بأسفي من هذا الأمر .. فقد تحول هذا المسجد مكانا لرمي الأزبال، وإسطبلا للدواب، كما حولوا صومعته ( الموجودة حاليا ) إلى منارة للكنيسة . وفي هذا الصدد، يقول قاضي أسفي الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الأندلسي الأسفي : ” إن المسجد الأعظم الذي كان المنار الموجود له، قد اندرس باستيلاء البرتغال على المدينة ..والمنار من المدينة القديمة، بدليل فصله عن المسجد بالديار والطريق .. ”   وينبغي التذكير بأن هذا المسجد قد عرف عدة إصلاحات، خاصة في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله .. كما أجرى السلطان المولى سليمان إصلاحات كبرى على هذا المسجد بأسفي . ويمكن تفسير تعاقب عمليات الإصلاح والتجديد التي عرفها المسجد الكبير بأسفي إلى تأثير الزلزالين الكبيرين اللذين ضربا مدينة أسفي سنة 1174 ه / 1760 م وكذا سنة 1196 ه / 1781 م . وهكذا يبدو أن هذا المسجد يشهد عادة، ومع نمو ساكنة المدينة، إصلاحات وتوسعات وزيادات عبر الدول والعصور، حتى يتمكن من توفير الشروط الملائمة لازدياد عدد المصلين به من جهة، ومن جهة أخرى، أداء الوظائف التي تمكن المسجد من القيام بالأدوار التي تجعل منه مؤسسة دينية تميزه عن غيره من مساجد مدينة اسفي قديمها وحديثها.
   وفعلا، كان المسجد الأعظم بأسفي منار إشعاع وتثقيف وتعليم، وكان للأئمة والعلماء والفقهاء الذين تعاقبوا عليه من الطراز الأول في العلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، العلامة عبد الخالق بن ابراهيم الحجام، وصفه السلطان المولى سليمان بالرسوخ في العلم وجودة الفهم، والعلامة عبد الله بن حمزة بن احمد الرجراجي والعلامة عبد الرحمن بن المكي بن عمر بن دحمان الحفيد والعلامة محمد بن بوعزة الأسفي والفقيه محمد بن الطيب بنهيمة والفقيه محمد بن عبد الواحد الفيلالي والفقيه علي بن محمد عواد السلاوي والفقيه بدر الدين الورياغلي الفاسي والعلامة أبو السرور سيدي البشير والفقيه أحمد بن محمد بن عبد العزيز الجرطيواعزيز والفقيه أحمد بن العربي بن عبد الله الكيري السباعي والفقيه عبد القادر بن عبد الله بن عبد القادر الشقوري والفقيه أحمد بن عبد السلام بن عبد الله الوازاني.. وغيرهم ممن برزوا في مجال العلوم الدينية وزادوا من الثقل العلمي لهذا المسجد . وفي السياق ذاته، لا ننسى أنه كان يتوفر على خزانة جامعة لأنفس وأغلى الكتب ونوادر المخطوطات .
  ولعل الإغلاق الموقت الذي يعرفه المسجد الكبير بأسفي، وكذا مسجد الشيخ أبي محمد صالح، يندرج في نطاق اهتمامات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وعنايتها بمساجد المملكة، خاصة العتيقة منها .
   وغير خاف على أحد ما تشكله العناية الملكية السامية بالمساجد والقائمين عليها، تكريسا للمكانة المحورية التي تتبوأها بيوت الله في النهضة الروحية والعمرانية للملكة، وتجسيدا عمليا بليغا لدور مؤسسة إمارة المومنين في حماية الملة والدين .. حماية تمكن من تحصين منابر إشعاع الدين، وتكريس دورها في تحقيق تنمية بشرية ذات بعد روحي وأخلاقي، وذلك منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين، حيث أضحت المملكة تتوفر على خطة واضحة المعالم لهيكلة الحقل الديني بجميع مكوناته . ولعل العناية المولوية للمساجد، تعكس بجلاء الحرص الموصول لجلالته على جعل مساجد المملكة تزاوج بين الوظيفة الدينية والجمالية المعمارية، بما من شأنه توفير ظروف ملائمة لممارسة الشعائر الدينية في أفضل الأحوال، وكذا مواكبة النمو الديموغرافي والحضري الذي تشهده مختلف جهات المملكة، والاستجابة للطلب المتزايد على الخدمات الدينية التي تتوفر عليها بيوت الله من تأطير وتوجيه ..
للتذكير، فإن عدد المساجد بالمملكة ـ حسب المعطيات الرقمية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، يبلغ 50 ألف مسجد ( 37 ألف منها في الوسط القروي ) وذلك بطاقة استيعابية إجمالية قدرها 07 ملايين مصلي ومصلية . كما بلغ عدد المساجد التي تمكنت الوزارة من تشييدها خلال الفترة الممتدة من 2005 إلى 2013، زهاء 256 مسجدا بغلاف مالي إجمالي قدره ملياري درهم . وفي إطار الحفاظ على المساجد التاريخية ( كالمسجد الأعظم بأسفي مثلا ) فقد أشرفت الوزارة الوصية على ترميم 55 مسجدا تدخل ضمن هذه الفئة، أي 30 بالمائة من مجموع هذه المساجد ( 183 مسجدا ) . كما تم بالموازاة مع ذلك، إعطاء الأولوية لتأهيل بعض المساجد المغلقة، حيث شملت أشغال التأهيل نحو 618 مسجدا بغلاف مالي إجمالي تفوق قيمته 34،1 مليار درهم .
 ومعلوم أن التقرير السنوي الذي سبق لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة الدكتور أحمد التوفيق أن قدمه إلى أمير المومنين محمد السادس نصره الله، يتضمن شقا يتعلق بالمساجد، حيث ذكر السيد الوزير بأن صاحب الجلالة أذن بفتح أزيد من 160 مسجدا جديدا بمناسبة شهر رمضان، مبرزا العناية السابغة التي يوليها أمير المومنين للمساجد التي أغلقت بسبب اختلالات في بنياتها، حيث أمر جلالته بتكوين لجنة وزارية تنكب على هذا الموضوع . وهكذا، فبعد أن كان عدد هذه المساجد 2427 عام 2010، جرى تنفيذ معالجات أدت إلى خفض العدد إلى 1700 مسجدا  توجد 200 منها في طور الإصلاح والترميم . وبعد تكوين اللحنة، أمكن تعبئة فعاليات مؤسساتية وإحسانية التزمت بإصلاح 370 مسجدا آخر، بينما برمجت الوزارة 100 مسجد في ميزانيتها . وقد روعي في كل البرمجات عنصر الأولوية على أساس الخصاص والكثافة السكانية . أما المساجد المتبقية وعددها 100 مسجد  فتقدر كلفة إصلاحها بمليار ونصف المليار درهم .. والمتوقع أن تراعى في الترتيب الزمني لبرمجتها نفس الاعتبارات، على أن تخصص لها اعتمادات استثنائية .
ندرج هذا الأمر، ليعلم المصلون بالمسجد الأعظم بأسفي ممن يستعجلون فتح هذا المسجد ويشتكون من عملية الإغلاق، أن الأمر ليس بالهين إن هم أرادوا للمسجد الأعظم بأسفي أن يصبح في حلة راقية تطمئن لها القلوب وترتاح لها النفوس . ذلك أن العناية التي يخص بها أمير المؤمنين الأماكن الدينية والثقافية،، وفي طليعتها بيوت الله، نابعة من خطة محكمة ورؤية مستقبلية للارتقاء بها .
  وبما أن المسجد الأعظم بأسفي يعد ذاكرة متميزة ومعلمة تاريخية شاهدة على جانب كبير من تاريخ حاضرة المحيط وتطورها العمراني، ومنارة علمية توهجت في كل العصور والدول، بما ضمته من حلقات متواصلة للعلم والتدريس والوعظ، وبما تعاقب عليها من علماء وفقهاء ومشايخ من كل الآفاق، وبما حوته خزانتها من نوادر المخطوطات ونفائس الكتب، وبما أيضا لهذه المنارة من دور في التسامح والتساكن، لآنه ـ كما لا يخفى ـ أن هذا المسجد الأعظم بأسفي يأتي في موقع يحاذي الكنيسة البرتغالية، كما يجاور عددا من بيع اليهود .. وفي ذلك تعبير صريح وواضح عن شيمة مترسخة ومتوارثة في أهل أسفي جيلا عن جيل وهي روح التسامح والتساكن والتعايش .. فإن المسجد بعد الإصلاح، سيكون إن شاء الله في حلة جمالية جديدة تعيد له أمجاده الغابرة، وعندها، سيدرك السكان عموما وسكان المدينة القديمة على وجه الخصوص، قيمة العمل الجاد الذي تقوم به وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في هذا الاتجاه بتعليمات سامية من أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس.

بقلم: منير البصكري

أستاذ جامعي ونائب عمدة كلي آسفي

Related posts

Top