الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد.. الحكاية لا تعوض القراءة

تعتبر دينيس أسعد واحدة من آلاف الفلسطينيين المجبرين على حمل جواز سفر إسرائيلي، أو “الجواز الأزرق” كما تسميه، ورغم أنها تحاسب وتلام عليه، إلا أنه ومن جانب آخر أمّن لها دخولا سهلا ويسيرا إلى معظم البلاد الأوروبية، وبعض البلاد العربية سواء بفيزا (تأشيرة دخول مسبقة) أو حتى من دونها، في الوقت عينه الذي يُمنع فيه بعض العرب كالسوريين على سبيل المثال من دخول أراضي تلك البلاد أو حتى الحصول على تأشيرة لها.
 تقول مررت بمواقف بسبب هذا الجواز سببت لي ألما لن ينسى، ففي أولى ورشاتي التي أقمتها بفن الحكي في العاصمة الأردنية عمان 2003، وكانت مع مجموعة مشاركين من الوطن العربي، صادف أن وصلت متأخرة للورشة، فقام تربوي  معروف من رام الله بتعريفي، بدينيس صاحبة الجواز الأزرق، الأمر الذي أشعرني بانعدام وجودي وهويتي كفلسطينية، ورغم مرور كل تلك السنوات لم أستطع تجاوز هذا الموقف، الذي لطالما أشعرني بأنني ملزمة في كل دقيقة من حياتي بأن أثبت أنني فلسطينية مخلصة.
ليس هذا فحسب، بل اتهمت من قبل البعض بتشجيعها لفن الحكي، على أنها محاولة لإلغاء اللغة العربية الفصحى، تقول أسعد “كنا مجتمعين في عمان أواخر العام 2004 حول تشجيع القراءة، تحدثت بدوري عن بداية عملي كحكواتية وكيف أن إعادة سرد الحكاية من قبل الأطفال تكسبهم مهارات لغوية مختلفة، إضافة للمتعة وللتواصل مع ثقافتنا، وفجأة تعترضني متدخلة وتهينني وتتهمني بالتحدث بالعبرية داخل منزلي، وأن فن الحكايات الشعبية ما هو إلا مؤامرة لأضعاف اللغة العربية، متابعة في الحقيقة وزارة التربية بفلسطين كانت معترضة تماما على إدخال الحكاية الشعبية إلى حصة أدب الأطفال الأسبوعية في المدارس، لكنهم اقتنعوا بعد ذلك بأنها لن تأتي مكان القراءة أبدا”.
وأسعد ليست أفضل حالا من الفلسطينيين في الشتات، فهي أيضا كانت قد هجرت داخليا من مدينتها قيساوية، تقول “أنا ابنة لأم وأب مهجرين في الوطن”، وتلفت إلى أنها ما زالت تملك كواشين الأرض ومفاتيح البيت دون أن تمتلك حق العودة إليها، كل ما تمتلكه اليوم هو الحكاية والتراث الشعبي، تحملهما معها في قلبها ولسانها لترويه ليس فقط للفلسطينيين بل لكل شعوب العالم، في محاولة منها للاحتفاظ بالهوية الفلسطينية والحكاية الشعبية التي تحاول إسرائيل سرقتها ونسبها لها.
والدها كان أول من حكى لها تلك القصص، بهدف إسكاتها كطفلة، تقول دينيس “والدي كان حكواتيا بالفطرة وورثت عنه ذلك، والحكاية أصبحت بالنسبة إلي الملاذ الآمن، أرى فيها فلسطين الواحدة، التي لا تحتوي حواجز ولا جدار فصل عنصري، القصة وسيلتي لأهرب من الواقع الصعب”.
في حكايتها “الديك الهادر” يمشي الديك بمرج ابن عامر طولا وعرضا بين الناصرة وجنين دون جنود يوقفونه، وفي حكايتها “السماك البطل” يسير الصياد طول الساحل من عكا إلى غزة دون حواجز تطالبه بتصريح، وحين تروي الحكاية تطلب من الأطفال أن يتتبعوا رحلته على الخارطة وهذا أضعف الإيمان لتبقى على الأقل الخارطة كاملة في عقولهم.
وتعاني أسعد ومن مثلها من فلسطينيي الداخل من أزمة اللغة إلى جانب أزمة الهوية، فرغم أن اللغة العربية هي اللغة المستخدمة داخل المنزل، لكن المصيبة تكمن كما تقول دينيس في “أن الأغلبية يدخلون كلمات عبرية في كلامهم اليومي بمن فيهم سكان الضفة، وخاصة الأشخاص الذين يعملون مع اليهود، كما أن أولادنا اليوم وككل الأولاد في العالم يستعلمون اللغة الإنجليزية”.
وعلى جانب آخر يجبر الفلسطينيون على تعلم اللغة العبرية، لأنها اللغة المعتمدة للتعلم في مرحلة الجامعة وما بعدها، الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، كما أنهم مضطرون لتعلمها للحصول على عمل أو بحكم وجودهم في المناطق المختلطة سواء ضمن حارات منفصلة أو مشتركة مثل حيفا ويافا وعكا واللد والرملة.
قامت دينيس ما بين العام 2011 و2014 بعدة جولات وعروض للبالغين في كل من عمان وتونس وبيروت، قدمت خلالها بالتعاون مع كمال خليل، عملا بعنوان “حكايات عن الحب والثورة بنكهة الميرمية”، كما بدأت بكتابة قصص “كشكول الحيفاوية” منذ العام 2014، عن العنوان تقول “أسميته بالكشكول بسبب والدي، الذي كان يفتح لي حقيبتي المدرسية ويرى فيها أشكالا وألوانا من ‘الكراكيش‘ (الفوضى)، فيقول لي ‘حقيبتك  مثل كشكول الغجرية‘ على اعتباره عاصر الغجر في فلسطين قبل العام 48”.
 ويحتوي كشكول الحيفاوية على مجموعة من القصص الواقعية التي عاشتها دينيس في فترة الطفولة والشباب في كل من حيفا والناصرة بشكل مرتبط بأحداث سياسية، ويبدأ الكشكول كما تقول دنينيس “بقصة زواج والديها، وولادتها وأخيها، وكيف أصرت أن تحكي لمعلمتها وهي لم تكمل العامين أول حكاية شعبية، وقصصا أخرى بعضها متعلق بحرب 67 كقصة ‘أرتيك إيمون مشمش حلاوة‘ وأرتيك اسم المثلجات التي كانت رائدة حينها، وتحكي القصة عن منزل العائلة الذي أصبح ملجأ لكل سكان البناء من يهود حيفا”.
 وعبر تلك القصة تروي عن واقع المعيشة في حيفا في فترة الستينات، حين كانت المدينة مختلطة ما بين العرب واليهود، وكيف عبر جيرانهم عن فرحهم باحتلال القدس في مقابل حزنهم على نفس الخبر، وكيف أقام اليهود  شركة حكومية بعنوان “عميدار” التي تعني “شعبي يسكن” بالعبرية، عبر تلك الشركة تم احتلال بيوت فلسطينيي حيفا ليسكن فيها اليهود القادمون من أوروبا، ثم بيعها لاحقا بخلو رجل.
تبقى الحكاية بالنسبة إلى الصغير والكبير وحتى لذوي الاحتياجات الخاصة وسيلة لتعزيز المشاعر وليس فقط للتواصل، فبحسب أسعد “لطالما تجمعنا جنبا إلى جنب ونحن أطفال حول جداتنا وخالاتنا ليس فقط لنستمع للقصص بل أيضا لنشعر بالدفء، وفي زمن الكورونا زمن التباعد حاولت الاستفادة من التكنولوجيا ووسائل التواصل فقدمت حكايتها عبر بث مباشر من منطقة قريبة من منزلها”.

Related posts

Top