الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة13

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

> استثناء الحزب الشيوعي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أشغال مجلس الدستور يشعل الساحة الطلابية

> شمعون ليفي وراء انضمام أحمد بورة للحزب الشيوعي والهادي مسواك كان أستاذه في كلية الطب

داخل أسوار كلية الطب والصيدلة بالرباط، بدأ أحمد بورة  مشوار إكمال رسم معالم مستقبله. بعد رحلة شاقة مع التحصيل، قدر له أن يخوض غمار الحياة الجامعية بعيدا مرة أخرى عن الأهل والأحباب، وأن يلج تجربة مخاض جديد، تجربة متميزة بكل المقاييس.. حينها أصبح محاطا بشلة من الأصدقاء الجدد إلى جانب قلة ممن اختاروا نفس توجهه العلمي. كان أحمد بورة وأصدقاءه مجموعة يطبعها التآلف والإخلاص.
خففت عليه التجربة السابقة هموم بداياتها، فمساكن الداخلية عوضتها أسرة الحي الجامعي.. ومسؤولية أحمد بورة وخبرته بداخلية ثانوية مولاي الحسن، ستثقل كاهله فيما بعد بمهام رئيس مجلس القاطنين بذات الحي الجامعي طيلة السنتين الجامعيتين 1963-1965. أما منحته الجامعية التي كانت محدودة في 500 درهم فقد ارتفعت قيمتها إلى 700 درهم على رأس كل شهر.
جل أساتذة أحمد بورة كانوا فرنسيين منحدرين في الغالب من مدينتي بوردو أو ليل ومنهم البروفيسور أوجين نوزيل Neuzil Eugène ، والبروفيسور لوكلير Michel Leclerc ، والبروفيسور صاماي Jean Samaille.
أما المغاربة فكانوا أساتذة مساعدين ويذكر أحمد بورة منهم، عبد اللطيف بربيش ، والهادي مسواك، وعز الدين العراقي، الذي شغل منصب وزير التربية الوطنية ثم الوزير الأول. وعبد القادر التونسي.
ضمن هذه النخبة من الأساتذة الأجلاء، وداخل تلك الأسوار العالية، وبين تلك القاعات الفسيحة، بدأ أحمد بورة  سفرا إلى وجهة غامضة لا يعلم منها إلا أن منتهى أقرب محطاتها التي تبعد بمسافة أربع سنوات، توصل إلى حمل اسم طبيب وسماعة طبية، المهنة الإنسانية العظيمة/ مهنة العلاج والإسعاد والرحمة بكل بني البشر، بعيدا عن كل المكاسب المادية وحساباتها الضيقة.
تساؤلات عديدة جالت في ذهن الشاب أحمد بورة وتوالدت طيلة السنة الأولى، هل ستكلل تجربته بالنجاح ؟ وهل بمقدوره تحمل كل أعبائها طيلة سنوات الدراسة الجامعية ؟ وهل خزان التحمل عنده قادر على المزاوجة بين التحصيل العلمي ومسؤولية تأطير العمل الطلابي التي كان يدرك جيدا أنها ليست بالأمر الهين ؟
وبالفعل ذاك ما حصل، فالمسؤولية من ذاك القبيل تطلبت منه نشاطا دائما لإيجاد حلول لكل المشاكل الأكاديمية والنقابية علاوة على أموره الشخصية، كما تطلبت منه التعرف عن قرب على انشغالات الطلاب وسلوكهم واهتماماتهم. والحضور والحوار المتواصلين بين مجلس القاطنين وإدارة الجامعة من جهة، وبينه وبين الأساتذة ومختلف العاملين بها.
تساؤلات كانت تبحث فيَ دواخله عن إجابات شافية، ومع ذلك فقد أحسن الظن بقدرته على حسن تدبير المهام والوقت لضمان تجاوزه بنجاح لهذا المنعطف.
كانت البلاد في تلم الفترة تغلي بسبب الاحتقان السياسي. وبإعلان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب عن مقاطعته لأول دستور مغربي طرح للاستفتاء يوم 7 دجنبر 1962، كان قد فتح باب المواجهة مع النظام على مصراعيه.. وأججت المنظمة الطلابية الجانحة بقوة لمعارضة نيران صراعات سياسية عرَضت العديد من القياديين والنشطاء إلى حملة اعتقالات واسعة.
ويمكن إيعاز أمر هذا التوتر إلى قرار صدر سنة 1960 قضى باستثناء الحزب الشيوعي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أشغال مجلس الدستور الذي أجهضت أعماله انسحابات أعضاء أحزاب الحركة الشعبية بقيادة المحجوبي أحرضان، والدستور الديمقراطي بقيادة محمد حسن الوزاني، والأحرار المستقلين بقيادة أحمد رضى كديرة، احتجاجا على تعيين علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال رئيسا عليه.
وشمعون ليفي رئيس متحف الثقافة اليهودية بالمغرب، ذاك المناضل الغيور الذي خاض مع الزعيم علي يعته رحلة الكفاح الوطني، هو من جذب أحمد بورة في تلك السنوات الحرجة من تاريخ البلاد للانضمام إلى الحزب الشيوعي في سن مبكرة.. بالفعل لم يكن ذلك من جهته، استقطابا لشاب متحفز مفعم بالحيوية التقطه  حدس شمعون ليفي، أستاذه في اللغة الإسبانية بثانوية مولاي الحسن، ولا كان من جهة أحمد بورة اختيارا مدروسا، وإنما هي فراسة وعين ثاقبة هدت الشاب أحمد إلى اكتشاف المعادن  النفيسة في الرجال.
كانت خلية الحزب تعج بمناضلين لا تنشطر لهم مواقف ولا تتفكك لهم عزيمة ولا يخشون في الدفاع عن قضايا الشعب لومة لائم.
ومن خيرة الشباب الحديث العهد بالالتحاق والذي أصبح مع توالي الأيام من الأعضاء الفاعلين والمؤثرين، نخص بالذكر الرفيق الرئيس المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي، ووزير التشغيل والتكوين المهني عبد الواحد سهيل، والمحامي الراحل الأستاذ محمد أنيق، والأستاذ الشرقي بالعبدي الملالي.
انخرط أحمد بورة ورفاقه في حزب محظور قضائيا منذ سنة 1959. وقبل معهم، كشباب متشبع بالأفكار الاشتراكية، اختيار العمل السري الذي سلكه الحزب. ظلت هذه السرية جاثمة على أنفاس قيادات ومناضلي الحزب وعلى تحركات هذه القيادة زهاء عقد من الزمان إلى حين ميلاد حرب التحرر والاشتراكية. حزب هو الآخر لم يسلم من الحظر بعد سنة واحدة فقط من إعلان نشاطه، ولم يتحرر من قيود المنع التي ضربت عليه حتى سنة 1974 تاريخ تأسيس حزب التقدم والاشتراكية.
رغم حملة تضييق الخناق على العناصر الطلابية التي تظهر علنا بتبنيها أفكار قوى اليسار التقدمية، استطاع احمد بورة  أن يعبر حاجز السنة الجامعية الأولى بنجاح. ولا زل إلى اليوم يعتبر ذلك الحاجز الأعند والأقسى في مسار تعليمه العالي، لكن السنتين المواليتين لم تكونا بأهون ولا أسلم من سابقتها.

إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top