الرواية القصصية.. هل هي بداية تلاشي القصة وذوبانها في الرواية؟

• الرواية القصصية
تنقل إلينا الصفحات الثقافية كل يوم أخبار صدور نصوص روائية لأسماء نعرفها مبدعة للقصة، أو نصوصا تحمل أغلفتها ما يجعلها تتحدد نصا سرديا غير محدد النوع رغم تحديد هويته باعتباره سردا، وتَزايد عدد هذه النصوص والاطلاع عليها، يدفعنا إلى طرح أسئلة كثيرة يتصل بعضها بالنص نفسه، من حيث خصائصه الفنية الهجينة، وبالمؤلف ومدى إلمامه ومعرفته بالأنواع السردية وخصائصها الشكلية، ويتصل بعضها الآخر بالنقد ومتابعته لها من عدمها.
ضمن هذا الإطار نسعى إلى الاقتراب من روايات مغربية صادرة في الآونة الأخيرة، وإذا كان بعض هذه الروايات لا يثير انتباه الناقد كما المتلقي ولا اهتمامهما لما يسمها من ضعف على مستوى اللغة والشكل الفني وتقنيات الكتابة، كما على مستوى موضوعاتها وما تنشغل به من قضايا وظواهر اجتماعية أو تاريخية، مما يعكس استسهال أصحابها للكتابة، وعدم معرفتهم بقواعدها وأشكالها، فإن بعضها الآخر-على الأقل- يستحق هذا الاهتمام بل والقراءة النقدية المتابعة له، لما يثيره من أسئلة تتصل خاصة بالأنواع السردية وخصائصها المميزة.
لقد سبق لسعيد يقطين أن أثار في كتابه “قضايا الرواية العربية الجديدة” سؤال التمييز للرواية عن القصة (المفارقة النوعية) ووقف على العلاقة القائمة بين الشكلين الإبداعيين، مؤكدا على أن القصة بعبارته “أم الرواية وأختها” وأن الكثير من كتاب القصة لا محالة ينتقلون إلى كتابة الرواية إلا قلة قليلة ظلت وفية للشكل القصصي، وأن القصة لا تعدو أن تكون تمرينا للكثير ممن يطمحون إلى خوض الكتابة في شكلها المركب ومن خلال ذلك تنكشف مسألة المفاضلة الضمنية بين الأجناس الأدبية، ويشير في السياق ذاته إلى أهمية الانتقال من كتابة القصة إلى كتابة الرواية باعتباره صيغة من صيغ التجديد في الرواية بما يحدثه فيها من تطور.
وإذا كان أمر الانتقال من الكتابة القصيرة إلى الطويلة المركبة أمرا طبيعيا بل ومحمودا، لما يعكسه من تطور أشكال الكتابة وتقنياتها وتوسع دائرة معارف كتابها وخصوبة خيالهم، فإن ذلك لا يمنع من التأكيد على ما ذهب إليه قبل قرن من الزمن أحد أهم المنظرين للنظرية الشكلانية “بوريس ايخنباوم” من أن القصة والرواية على الرغم من أنهما شكلان إبداعيان غير متناظرين، إلا أنهما شكلان: أحدهما أجنبي عن الآخر بصورة عميقة وهذا ما يجعل القصة غير الرواية تماما.
يعي الكثير من كتاب هذه النصوص، أن نصوصهم لا هي بالقصة ولا هي بالرواية، وتحليلها والبحث في خصائصها يجعلنا نصنفها نصوصا وسطية (بين بين) جامعة لخصائص الشكلين السردين الرواية والقصة تارة، وأخرى لخصائص أشكال إبداعية غيرها كالمقالة والمقامة والحكاية والخاطرة والرسالة، ومن اليسير أن يجد القارئ للنصوص القصصية والروائية المغربية أمثلة كثيرة لهذه النصوص نذكر منها تمثيلا لا حصرا: “موسم الكرامة”(رواية قصصية) لعقى النماري، و”أمواج الجنة”(نصوص نثرية) لمحمد بازي و”لحظات في محراب الصمت” (لوحات سردية) لإدريس الجرماطي، “ورائحة المكان”(نص) لعبد الإله بلقزيز “وبادية الرماد” (رواية) لمحمد كروم “وشمال الروح” (رواية) لمنير برحال.
إن كل هذه النصوص وغيرها، نصوص جامعة بينية، يُمكننا ما تتميز به الرواية من قدرتها على أن تكون جامعة حاجبة من جهة، وما تتميز به هذه النصوص نفسها من حضور واضح للخصائص الفنية للقصة من جهة ثانية من اعتبارها جميعا “روايات قصصية”، وسنقتصر لبيان ذلك على نصين إبداعين يحملان تجنيسا يصنفهما في خانة الرواية؛ الأول “بادية الرماد” للقاص محمد كروم ، والثاني ” شمال الروح” لمنير برحال.
2-“بادية الرماد” و”شمال الروح”: بداية تلاشي القصة وذوبانها في الرواية
يرى ألبرتو مورافيا في مقال له بعنوان “القصة والرواية” نقله إلى العربية مصطفى جباري ونشره ضمن كتاب جماعي يحمل عنوان “في نظرية القصة” أن كُتاب القصة المعتادين على التعبير في حدودها، وتبعا لقواعد النوع غير المحددة بوضوح، يستطيعون بصعوبة كتابة الرواية” (ص130) واقترب الناقد في هذا المقال من روايات كاتبين بارزين ينتميان إلى القرن التاسع عشر موباسان وتشيخوف معتبرا أنهما “لم يمتلكا في العمق تقنية الرواية” مما جعلهما غير كاتبين لروايات بخصائص القصة أو للقصة في شكل الرواية.
هذه الخلاصة النقدية حول روايات موباسان وتشيخوف، هي نفسها الخلاصة التي يمكن أن ينتهي إليها قارئ روايتي “بادية الرماد” و”شمال الروح”، وبيان ذلك يتأتى من الوقوف المتضمن للمفارقة النوعية بين الرواية والقصة على بنيتيهما السردية:
لا بد من الإشارة في البداية إلى انصرافنا في هذه الإضاءة المقتضبة للنصين ومن خلالها لغيرها من النصوص الشبيهة، عن التفاصيل وعن الخصائص المشتركة بين الرواية والقصة إلى الخصائص المائزة لهما، وللقصة على وجه التحديد، وتلمسها في نصي كروم وبرحال.
– تندرج الروايتان معا ضمن صنف من الخطاب السردي القصير يسرد حكاية نواة، تقيد بموضوع بؤري واحد يمكن تحديده في رواية “بادية الرماد” في الوضعية المزرية التي تعيش فيها البادية المغربية بسبب التهميش الذي يطالها، في المقابل استغلالها أبشع استغلال، وفي رواية “شمال الروح” يتحدد الموضوع في رسم صور الأنثى المغربية وعذاباتها المختلفة الأشكال والألوان.
– قادت وحدة الموضوع في الروايتين إلى الاقتصار على حدث مركزي واحد ويتمثل في رواية كروم في حدث التحقيق، على الرغم من كون حدث الترحيل الذي جاء في نهاية الرواية أهم وأقوى تأثيرا، ومن الممكن أن يعدد مسارات السرد في الرواية لو كان من أحداث بداية النص أو وسطه، وشكل البوح الحدث الجامع بين إناث رواية منير برحال، وهذا الحدث المركزي المستمر باستمرار السرد لم يساهم في تطور هذا الأخير ونموه في اتجاه توليد أحداث أخرى مرتبطة به، رغم كونه حدث يتشابك فيه الواقعي الاجتماعي بالنفسي. ونتيجة لوحدة الموضوع والحدث المركزي في الروايتين، صارت إمكانيات تمدد القصة في بنيتهما قليلة، مما جعل من القصر شرطا في بناء النص وتماسكه أكثر من كونه شرطا كميا.
– تعكس رواية محمد كروم وبشكل بارز تركيز الكاتب على جعل الحدث الرئيس يحدث أثرا ووقعا شديدا على القارئ، إذ الحدث النووي فيها رغم كونه يتجزأ إلى مجموعة من الأحداث الجزئية يبدو في تركيبه حدثا واحدا، وهو ما يؤكد تخطي القاص في محمد كروم لرقابة الروائي فيه وحواجزه.
– تنتظم وحدات الخطابين السرديين داخل فضاء مغلق أو شبه مغلق، ولذلك جاءت نهاية كل نص محددة دون أن تترك الألغاز والأسرار خلف قراءتها، وهي من أهم خصائص القصة لا الرواية التي تجعل النهاية احتمالا لنهايات والأحداث فراغات وألغاز وأسئلة والشخصيات رموزا.
– الشخصيات الرئيسة وغيرها في الروايتين تولد ببداية السرد للحدث المركزي في لحظة خاصة محددة في الزمان والمكان وتنخرط في مسار هذا الحدث ولا تبتعد عنه وتنتهي كما بدأت بنهايته، على عكس الشخصيات في الرواية التي لها مسار تطوري طويل وبطيء، تبنى بتوالي سرد الحدث وتتركب بتركبه من معطيات مختلفة، يجعلها السرد مادة الحكاية، مما يجعل شخصيات الرواية غير قابلة للحصر والتحديد بحدود ضيقة.
إن الملاحظات النقدية أعلاه لا نريدها إلا تقديما للنصين ولنصوص أخرى غيرها، تستحق القراءة والمتابعة النقدية، ولفت الانتباه إلى ما تثيره من أسئلة أهمها بالنسبة إلينا، سؤالان: هل تعبر هذه النصوص عن بداية تلاشي القصة وذوبانها في الرواية؟ أم تعبر عن بداية التأسيس لنوع (أنواع) سردي جديد يستند إلى فكرة أن كل مبدع له أن يبتكر الشكل المناسب لمضمون إبداعه.

> بقلم: إبراهيم أزوغ

Related posts

Top