الساعة لله…

لو كان هناك مسؤولون في الإعلام العمومي لهم حس مهني يقظ، لكانوا الآن يفركون أيديهم فرحا بما هو متاح أمامهم من مادة إعلامية وافرة، من تلك المواد الهادئة التي لا تدخلهم في شقوق الشِّقاق مع أي كان من أهل الحل والعقد؛ مادة إعلامية غنية وشيقة وقادرة على ضمان أكبر قدر من انتباه المشاهدين والمستمعين، شريطة الإعداد الجيد لطرق معالجتها. أفكر في هذا الحدث بالغ الأهمية المتمثل في تغيير التوقيت القانوني المغربي بزيادة ستين دقيقة إلى توقيتنا السابق المتطابق مع التوقيت العالمي الموحد أو توقيت غرينويتش.
بإمكان هؤلاء المسؤولين بقليل من الاجتهاد وإعمال الخيال أن يسارعوا إلى عقد برامج خاصة مع متخصصين من مختلف الآفاق التي يعنيها الموضوع، ليوضحوا للمواطنين أولا ما معنى التوقيت القانوني، وما علاقته بالتوقيت الفلكي أو الشمسي، ويزودوهم بمعلومات مفيدة حول تاريخ التوقيت ومبتكريه وملابسات ذلك… بإمكانهم أن يستضيفوا متخصصين في فيزياء الأجرام السماوية وجغرافيين وعلماء بحار، وأطباء ومؤرخين، فضلا عن الاقتصاديين وأهل القانون والفلاسفة لمعالجة الموضوع من زواياه المتعددة..
سنكتشف مع القانونيين والفيزيائيين مثلا أن التوقيت القانوني لا يتعلق بالتوقيت الفلكي أو الشمسي إلا من زاوية أن الأخير قد يشكل مرجعا قياسيا لتحديد الأول؛ وأن عددا من الدول تتبنى توقيتا مختلفا على نحو كبير مع التوقيت الشمسي الذي يشمل مجالها الترابي، وأن تحديد التوقيت القانوني يخضع لاعتبارات عملية قبل الاعتبارات الفلكية.
سنكتشف أيضا في خضم هذا النقاش أن التوقيت الموحد لبلد أو لمجال ترابي ما تقليد لا يعود سوى إلى القرن التاسع عشر في سياق التطور التكنولوجي المتمثل أساسا في ظهور السكك الحديدية واختراع التلغراف، الشيء الذي مكن المتعاملين بالزمن على مدى عدة عقود من النجاح في توحيد المعيار الزمني لمجال ترابي معين. وسنكتشف أن توحيد التوقيت عملية قادت إليها شركات السكك الحديدية لحاجات تتعلق بنشاطها التجاري وبضمان سلامة السير على السكك وتفادي اصطدام القطارات، في غياب معيار زمني مرجعي.
سنكتشف في خضم هذا النقاش المثمر أن العلاقة مع الزمن والحاجة إلى التوقيت المعياري تختلف من مجال ومجموعة اجتماعيين إلى مجال أو مجموعة آخرين. وأن هذا التفاوت كان قبل منتصف القرن التاسع عشر أقل حدة مما صار عليه بعد ذلك. فقبل منتصف ق 19 لم تكن هناك أي عناية بتوحيد التوقيت، وكان التوقيت السائد في التعاملات هو التوقيت الشمسي، مما يعني أن جميع أفراد المجموعات البشرية في المدن أو القرى يستعملون بشكل متقارب التوقيت الشمسي الملائم لمكان وجودهم. وعندما اضطر مهنيو السكك الحديدية والمواصلات اللاسلكية إلى توحيد التوقيت بالتدريج، ظلت شرائح واسعة من الناس خارج هذا التوحيد.
في الدول المتقدمة اليوم، انخرط الجميع في التوقيت الموحد على نحو شبه متطابق، أما في الدول التي يوجد جزء كبير من اقتصادها خارج التنظيم والهيكلة مثلما هو الحال عندنا، ما زالت شرائح واسعة من المواطنين خارج نطاق التأثير العملي المباشر للتوقيت الموحد.
من المفترض أن يفيدنا النقاش الإعلامي الذي نتمناه حول الموضوع في فهم أن التوقيت القانوني، هو مثل العملة الوطنية، إجراء قانوني له قوة في ترتيب الآثار القانونية على كل ما يتعلق بالحياة الفردية والجماعية والمعاملات فوق التراب الوطني الذي يغطيه هذا التوقيت. سنفهم أيضا أن التوقيت القانوني بهذا المعنى جزء من مظاهر سيادة الدول. ومن ثمة سنعرف أن هناك مناطق من العالم لا يغطيها توقيت قانوني موحد بسبب موقعها الجغرافي (المنطقة القطبية في شمال الكرة الأرضية وجنوبها، حيث تلتقي كل حزم التوقيت المتوافق عليها مما يجعلها منطقة لا توقيت فيها إلا إذا اعتبرنا علامة UTC+- ) سنكتشف أن المياه الدولية هي مناطق لا يغطيها أي توقيت قانوني وأن تحديد التوقيت فوق البواخر التي تعبرها يبقى رهينا باختيارات قادة هذه البواخر.
سنفهم من خلال النقاش أيضا أن التوقيت القانوني أمر مرتبط بالبشر وليس بالأجرام السماوية، وأنه اتفاقي ونسبي وعلى صلة بالملابسات التاريخية أحيانا والاقتصادية أحيانا أخرى والجيواستراتيجية أحيانا أخرى. سنكتشف مثلا أن فرنسا التي تقع عمليا في منطقة مطابقة زمنيا لتوقيت غرينويتش تعمل بتوقيت غرينويتش + 1 منذ أن احتلتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تراجع ذلك بعد تحريرها؛ وأن إسبانيا التي توجد عمليا في غرينويتش- 1 في أجزائها الغربية تتبنى توقيت غرينويتش + 1 (أي بفارق ساعتين) بسبب تحالف فرانكو مع النازية ولم يتم العدول عنه بعد ذلك.
وهناك غرائب ومعلومات كثيرة أخرى قد يفيدنا بها مثل ذلك النقاش، من قبيل أن الصين مثلا زادت 14 ساعة دفعة واحدة لتفادي مرور خط تغيير التاريخ اليومي فوق ترابها، واضطرارها للعمل بتاريخ يغاير تاريخ بقية الدول الكبرى.
مجمل القول، إن مثل هذا النقاش المهني العميق، سيساعد مواطنينا على استيعاب ملابسات هذا المفهوم، وسيعمل على الخصوص على التعامل معهم كمواطنين من حقهم أن يفهموا ما يتخذ من قرارات تخصهم، وسيساعدهم على المشاركة البناءة في كل قرار، وسيؤدي إلى وضع كل العناصر بين أيديهم ليشعروا حقا بأنهم موضع اهتمام مسؤوليهم وأنهم مواطنون يعامَلون كراشدين كاملي الأهلية.

> بقلم: د. عز الدين بونيت

الوسوم ,

Related posts

Top