الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الماء

أولا: سياقات التعاقد بين القطاعين العام والخاص، والحاجة إلى الشراكة بينهما

تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أفقر دول العالم من حيث مواردها المائية، فهي لا تحتوي سوى على 2 % من مصادر المياه المتجددة على الصعيد الدولي، ناهيك عن تصنيفها من أكثـر المناطق تعرضا وتأثرا بالتقلبات المناخية التي تنعكس سلبا على الدورة المائية.
فقد أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثـر عرضة للظواهر المناخية القصوى التي اشتدت حدتها في السنوات الأخيـرة، فمن جهة هي معرضة لفترات جفاف قد تمتد لسنوات متتالية، ومن جهة أخرى لسيول طوفانية فجائية خطيرة تخلف ضحايا من الأرواح البشرية، ودمار البنيات التحتية.
في ظل هذا السياق، أصبح رهانُ الأمن المائي رهانا قوميا وسياديا لكل بلدان المنطقة، نظرا لما له من تداعيات ومخاطر ليس فقط على التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة، بل على أمنها واستقرارها السياسي أيضا.
هذا الوضع يُحتم على صناع القرار السياسي التعاطي معه بجدية وحزم وشجاعة، حيث بات أمر التملك السياسي لرهان الأمن المائي ضروريا وملحا، تماما مثل مراجعة السياسات المائية المتبعة لجعلها أكثر مرونة وصمودا أمام المخاطر المناخية، انطلاقا من التخطيط ثم البرمجة، مرورا بالإنجاز ثم التدبير.
وتعد الاشكالية المتعلقة بتمويل الاستثمارات في قطاع الماء من الإكراهات الأساسية التي تواجه بلدان دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، على اعتبار أن الاستثمار في البنيات التحية المائية يتطلب إمكانات مالية ضخمة تتجاوز القدرات المالية العمومية، مما دفع الحكومات للبحث عن مصادر تمويلية بديلة.
في هذا الإطار، شرعت حكوماتُ دول منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا في البحث عن مصادر بديلة أو مكملة، سواء باللجوء الى هبات الجهات المانحة والمنظمات الدولية، أو الاقتراض من أبناك ومؤسسات مالية، أو التعاقد مع شركاء من القطاع الخاص.
ذلك أنه بدأ، منذ العقود الأخيرة، التفكيرُ بجدية في إشراك الرأسمال الخاص والاستفادة من ابتكاراته المالية كآلية من آليات تمويل الاستثمار في البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية للمرتفقين بمنطق تعاقدي رابح – رابح.
ذلك هو السياق العام الذي أود من خلاله المساهمة بهذه المادة من أجل تقديم التجربة المغربية في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، عبر قراءة في إطارها التشريعي، لا سيما وأن المغرب قد صادق على أول قانون يؤطر هذه الآلية التمويلية، وهو القانون 86.12 المتعلق بعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتم الشروع في العمل به منذ 24 دجنبر 2014.
هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن تعاقد الدولة مع القطاع الخاص في مجال الماء ليس ممارسة جديدة، بل إنها تعود إلى عهد الحماية، وبالضبط إلى سنة 1914، حيث تم تفويض الخدمة العمومية المتعلقة بتوزيع الماء الشروب، على مستوى أربع مدن مغربية، إلى الشركة المغربية للتوزيع، قبل أن تَــتْــلُــوَ ذلك تجاربُ أخرى عديدة، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وذلك سواءٌ عبـر صيغة التدبير المفوض الذي تُــفوت من خلاله الجماعات خدمة توزيع الماء والكهرباء والتطهيـر السائل إلى مؤسسات عمومية أو شركات خاصة، أو أيضا من خلال آلية تفويض تدبير الري في بعض التجارب المحدودة لحد الآن، كتجربة سبت الكردان، من أجل سقي ضيعات الحوامض بمنطقة سوس في وسط المغرب.
لكن هذه الشراكات ظلت محدودة، ودون تأطير قانوني أو مؤسساتي واضح وصريح لمسألة التعاقد العمومي- الخصوصي، حتى جاءت المصادقةُ على القانون 86.12 الذي أطر التعاقد بين القطاعين العام والخاص في مجال الاستثمار في البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية، بشكل يطمح إلى ضمان مصلحة الاقتصاد الوطني، وتخفيف العبء على الميزانية العامة للدولة، وضمان توفير الخدمات الأساسية وجودتها، بالإضافة إلى الربح بالنسبة إلى الفاعل الاقتصادي الخاص.
وقد ظل الرهان على هذا الورش الجديد رهانا آنيا ومستعجلا، وذلك لمواكبة الاستثمارات العمومية وتمويل المخططات الاستراتجية الحكومية، خصوصا على مستوى البنى التحتية والخدمات الاجتماعية المرتبطة بها، من توفير للماء الشروب، والخدمات الصحية، أو النقل الطرقي أو السككي، إلى غير ذلك.
وباعتبار الاستثمار في المنشآت والتجهيزات المائية معنيٌّ أيضا، فقد أدى هذا الانفتاح إلى فتح آفاق واعدة أمام قطاع الماء، لا سيما من أجل تدارك النقص المُسجل على مستوى تعميم توزيع الماء الصالح للشرب والصرف الصحي في المناطق الجبلية والقروية، وفي هوامش المدن والمدن الصغرى، أو من خلال تطوير أنظمة الري أو إنتاج الطاقة الكهرمائية.
هكذا، أصبح للعديد من المستثمرين الحافز اللازم للإقدام على تمويل منشآت مائية، خصوصا السدود الكبرى والمتوسطة المتعددة الأهداف (تخزين الماء وإنتاج الطاقة الكهربائية والحماية من الفيضانات،….)، بالإضافة إلى محطات التحلية، بل وحتى التجهيزات الهيدروفلاحية، بمنطق تعاقدي مع الدولة.
ثانيا: قراءة في أهم مضامين القانون المتعلق بعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالمغرب

• يُعـــرِّف القانون 86.12 عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص بكونه «عقدٌ محدد المدة يَعهد بموجبه شخص عام إلى شريك خاص مسؤولية القيام بمهمة شاملة تتضمن التصميم الكلي أو الجزئي والبناء أو إعادة التأهيل وصيانة أو استغلال منشأة أو بنية تحتية أو تقديم خدمات ضرورية لتوفير مرفق عمومي».
• التقويم القبلي: اشترط المشرع إخضاع جل المشاريع التي يمكن أن تكون موضوع عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتقويم قبلي قبل الشروع في مسطرة الإسناد، ويتضمن هذا التقويم تحليلا مقارنا لباقي أشكال إنجاز المشاريع، يبـرر اللجوء إلى آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويأخذ هذا التقويم بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة للمشروع وتكلفته الإجمالية خلال العقد، وتقاسم المخاطر المرتبطة به، ومستوى أداء الخدمة المقدمة، وتلبية حاجيات المرتفقين، والتنمية المستدامة، وكذا التركيبة المالية للمشروع وطرق تمويله.
• يتم إبرام عقد الشراكة وفق مسطرة الحوار التنافسي، أو طلب العروض المفتوح، أو طلب العروض بالانتقاء المسبق، أو وفق المسطرة التفاوضية.
• يُــلجأُ الى مسلك الحوار التنافسي في حالة ما إذا لم يستطع الشخص العام لوحده التعرف على الحل أو الحلول عبـر تحديد الوسائل التقنية لتلبية حاجيات المشروع موضوع عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص أو إعداد تركيبته المالية أو القانونية، فيتم إجراء حوار مع عدد من المترشحين حول جميع نقاط المشروع، ويمكن للشخص العام أن يقلص العدد على مراحل متتالية بالتنصيص على ذلك في نظام الاستشارة ومواصلة الحوار على أساس قائمة محدودة.
• أتاح المشرع أيضا إمكانية تلقي الشخص العام من طرف فاعل خاص حامل الفكرة لعرض تلقائي يشترط توفره على الابتكار التقني أو الاقتصادي أو المالي من أجل إنجازه في إطار عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويمكن للشخص العام قبول أو تعديل أو رفض أفكار العرض التلقائي، وفي حالة قبول الشخص العام إنجاز العرض يقوم بإنجاز التقييم القبلي، وكذا بإطلاق مسطرة الحوار التنافسي أو مسطرة طلب العروض، أو عند الاقتضاء وفق المسطرة التفاوضية.
•يمكن اللجوء الى المسطرة التفاوضية مع صاحب الفكرة في حالة ما تبين خلال التقييم القبلي أن العرض يستجيب لحاجة استعجالية وله صبغة ابتكارية ويتسم بالتنافسية على المستوى المالي، لكن لم يقدم القانون أي ضمانات لصاحب الفكرة باختياره كنائل للعقد بعد اللجوء الى المسطرة التفاوضية.
• يتم انتقاء الشريك الخاص، من بين المترشحين، الذي يقدم العرض الأكثـر فائدة من الناحية الاقتصادية وفق مجموعة من المعايير تهم بالأساس القدرة على إنجاز أهداف حسن الأداء والعرض المالي للمشروع و آثاره الاجتماعية والبيئية.
• يدفع الشخص العام أجرة للمتعاقد معه أو الشريك مقابل الخدمات التي يوفرها.
• تتـراوح مدة التعاقد ما بين خمس سنوات وثلاثين سنة، مع إمكانية تمديدها استثناء الى خمسين سنة.
إلا أن جل مقتضيات هذا القانون، بالرغم من أهميته، تجد صعوبات عدة في تطبيقها، لاصطدامها بعراقيل مسطرية غير محفزة للفاعلين الاقتصادين، وتتعلق هذه الصعوبات خاصة بطول المسطرة و تعقدها.

ويمكن تفصيلها في ما يلي:
• التقويم القبلي: أدرج القانون إلزامية التقويم القبلي قبل الشروع في مسطرة إسناد العقد للشريك الخاص، ويهدف هذا التقويم إلى دراسة الجدوى، أي تبرير الحاجة إلى اللجوء، أو عدمه، إلى الشراكة مع شريك خاص لإنجاز المشروع، وإذا كانت هذه المرحلة مهمة من حيث المضمون لأنها تجنب مخاطر المجازفة بالاقتراض، إلا أن التنصيص على إلزاميتها بشكل مطلق وقطعي بالنسبة إلى كافة المشاريع حتى ولو كانت متشابهة من ناحية أهداف حسن الأداء وحجم المشروع وكلفته المالية، إذ من شأن ذلك تعقيدُ المسطرة وإطالة مدتها،،، ويمكن تفادي ذلك إن قامت الحكومة والمؤسسات العمومية وباقي أشخاص القانون العام المعنيين، بتحضيرٍ مسبق للائحة المشاريع التي من الضروري لتمويل إنجازها، اللجوءُ الى التعاقد مع الشركاء الخواص ووضعها رهن اشارة الفاعلين الاقتصاديين للمزيد من الشفافية و تكافؤ الفرص، ومن أجل ربح الوقت أيضا، ناهيك على أن هذا الاقتراح ينطوي على إيجابيةِ توفر الدولة على الرؤية الاستشرافية لمشاريعها وبرامجها، مما سيساعد ويحفز المستثمر على برمجة استثماراته أيضا.

• العروض التلقائية

• بالنسبة للعروض التلقائية، أتاح المشرع إمكانية اللجوء إلى الشخص العام مباشرة بعد توصله بعرض تلقائي من طرف «حامل الفكرة»، و بعد قبوله فكرة المشروع، يمكنه اللجوء إلى طلب العروض، أو المسطرة التفاوضية مع من يشاء من المترشحين، دون أي امتياز ولا أي شروط محفزة لصاحب الفكرة الأصلي، ولا بأي ضمانات له، حيث يمكن لمسطرة الإسناد أن ترسي على شريك آخر، وهذا الإجراء قد يبدو للوهلة الأولى تكريسا لمبدأ تكافؤ الفرص بين المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين، إلا أنه في العمق يظل مجحفا وغيـر مشجع لصاحب الفكرة الأصلي الذي لا بد أن يكون قد استثمر المال والزمن والجهد في بلورتها، من حيث الدراسات التقنية والمالية والقانونية، قبل عرضها على الشخص العام عبر اللجوء الى مسطرة «العروض التلقائية»، دون أن نتحدث عن ما يمكن أن يتمخض عن هذه الآلية من إشكالات معقدة متعلقة بصيانة حق الابتكار.
• كما حدد المشرع إمكانية اللجوء الى العرض التفاوضي مع مجموعة من المترشحين، من بينهم صاحب العرض التلقائي، إلا إذا استجاب المشروع للحاجة الاستعجالية وكانت له صبغة ابتكارية ويتسم بالتنافسية المالية. فاشتراط ثلاثة شروط للجوء الى المسطرة التفاوضية، بعد ممارستها، تبدو تعجيزية، حيث نادرا ما يمكن أن تجتمع في عرض واحد، خصوصا المشاريع المتعلقة بالمنشآت المائية: السدود، محطات التحلية، قنوات الجر…، حيث يظل شرط الابتكار التقني في بعض الأحيان مجازفة من ناحية أمن وسلامة هذه المنشآت التي تخضع لدراسات ومعايير تقنية محددة بضوابط صارمة ومتعارف عليها دوليا، لذلك من المحبذ أن يظل معيار الابتكار التقني مرنا وقابلا للتكييف حسب نوعية المشروع كما هو معمول به في بعض الدول.

• المسطرة التفاوضية

أتاح المشرع للشخص العام إمكانية اللجوء الى المسطرة التفاوضية، وحدد شروطا للجوء إليها، كما تمت الإشارة اليه أعلاه حيث يقتـرح، ولإضفاء المزيد من الشفافية وتكافؤ الفرص بين الفاعلين الاقتصاديين تحديد عتبة أدنى من خلالها يمكن اللجوء لمسلك المسطرة التفاوضية.
في ختام هذه المساهمة، من المهم أن أشير إلى أنه بالنظر إلى كون تجربة العمل بهذا الإطار التشريعي لا زالت حديثة، إن لم نقل جنينية، فإن الدولة يبدو أنها وقفت على الصعوبات المسطرية والعملية التي تعيق تطبيقه بالشكل الذي يساهم فعلا في حل مشكلة تمويل البنيات التحتية الأساسية.
لذلك، نحن اليوم أمام مشروع قانون جديد موضوع أمام البرلمان قصذ التعديل
نرجو أن لا يكون مجرد تعديل شكلي، بقدر ما نأمل أن يحمل تعييرات جوهرية من شأنها تجاوز النص المعمول به حاليا وما يطرحه من تعقيدات تحد من سلاسةِ وُلُوجِ القطاع الخاص الوطني والدولي إلى الاستثمار التعاقدي مع الدولة وهيئاتها العمومية، بالشكل الذي يُسْهِمُ إيجابا في مسار ومجهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب.

> بقلم: شرفات أفيلال (*)
*الوزيرة السابقة المكلفة بالماء خبيرة في قضايا الماء و المناخ

Related posts

Top