الشعر في زمن العولمة بين الإبداع والتلقي

الإبداع والوسائط التفاعلية الحديثة:

أصبح الحديث عن العولمة في عصرنا الحالي جزءا من المسلمات التي ترسخت في الثقافة الفردية في المجتمع الإنساني ككل، فأضحت من بين المؤشرات الدالة على تحضر الشعوب إلى جانب التعليم والصحة والثقافة، فكان لزاما على الأدباء الانخراط في هذا العالم باعتباره قفزة نوعية في مجال التواصل الذي يعد مكونا مهما في العملية الإبداعية، وبالتالي فوسائل العولمة وتقنياتها ستسهم في نشر الأعمال الأدبية وتنويع القراء والمتلقين، وهذا ما نلحظه بشكل لافت على مواقع التواصل الاجتماعي وقبلها على المواقع الإلكترونية المتخصصة منها في الأدب والنقد أو العامة والمشتملة لمجموع الأنشطة الفكرية الإنسانية.
وانطلاقا من هذا وجدنا شعراءنا يخصصون لأنفسهم صفحات تواصلية ينشرن عليها ما ينتجون من نصوص وينتظرون تفاعل القراء معها، ويترددون بشكل مطرد ليقيسوا حرارة التفاعل بين النص والقارئ، وهنا نطرح مجموعة من الأسئلة حول، من يكون هذا القارئ؟ وهل يمكن إدراك مستواه الفكري والأدبي؟ وهل فعلا قرأ النص وتلقاه؟ ثم أي نوع من التلقي هو، أهو مجرد قراءة عمودية؟ أم مجرد قراءة اسم الناشر أو الناشرة؟ أم هي قراءة ذوقية أم واعية نتجت عنها نقرة إعجاب أو تعليق ما؟ لنتساءل بعد ذلك أيضا عن التعليقات وعن نوعيتها، واعتقد أن هذا الموضوع يغري بالدراسة. الشاعر بوعلام الدخيسي لم يشذَّ عن هذه القاعدة وإنما انخرط فيها أيما انخراط، وتكفي إطلالة سريعة على صفحته الزرقاء لتجد سيلا من المقاطع الشعرية المنشورة بين فترات متقاربة تارة ومتباعدة أخرى، وهي نفسها المقاطع الشعرية التي ستتجمع وتحتضنها دواوينه الشعرية خصوصا الأخيرة منها. إن قطب المتلقي في العملية الإبداعية يظل من أهم المرتكزات التي يقيس من خلالها المبدع مدى تقبل الوسط الفني لإبداعه، إذ تقوم عملية التلقي كما تحدث عنها ياوس على شقين اثنين أحدهما متعلق بالاستقبال وثانيهما بتأثير العمل وأثره، وتعتمد هذه العملية طبعا على طبيعة المتلقي الذي يفترض فيه أن يكون ذا قدرة وثقافة وخبرة في قراءة النصوص وتحليلها، مما يخلق تفاعلا بين النص والقارئ يؤدي إلى بناء نص آخر. وقد حضر المتلقي في تجربة الشاعر الدخيسي بشكل لافت ،إذ يستحضره في كتابة نصوصه الشعرية، ويحاوره فيها، بل ويسائله ويستفسره.
الشعر بين التلقي التقليدي والرقمي:
– الشعر والتلقي التقليدي: المقصود بالمتلقي التقليدي ذلك القارئ الذي استقبل النصوص الشعرية بالطريقة التقليدية إن ورقيا وإن إنشادا، في ملتقيات شعرية وجلسات إبداعية، ومنهم من يتقاسم مع الشاعر المعاناة الشعرية نفسها، كالشاعر المغربي محمد علي الرباوي الذي راكم تجربة شعرية منذ بداياته في السبعينات، وقد أخذ على عاتقه رعاية التجارب الشعرية وتوجيهها ومباركتها، فكان أول متلق لنصوصه: يقول:1
“محمد ذاك أستاذي وملء فمي
أقولها خاب في العشاق أشباه باركت أول إنشائي وضعت لهعلامة العشر ما عيّرت مبناه
وها أنا اليوم يا حِبي أحاوله
بلا عيوب لعل العين ترضاه”
يعترف الشاعر الدخيسي أولا بفضل الشاعر الرباوي باعتبار علاقة الأستاذية التي تجمعه به، ثم علاقة التلقي باعتباره متلقيا لنصوصه الأولى، لذا أهداه هذه القصيدة التي جاءت بعنوان “أنت لها”، معترفا يمكانته في الساحة الشعرية وبخصاله الإنسانية وقدراته الفنية والجمالية، ويتجلى التلقي التقليدي من خلال مجموعة من الإشارات من بينها، كلمة “إنشاء” و”علامة العشر”، إذ شاع في ثقافتنا أن الإنشاء هو كل ما عبر عنه الإنسان كتابة، فكان جزءا من مكون مادة اللغة العربية في مناهجنا التعليمية، وتأتي مفردة “علامة العشر” لتزيد من تأكيد دلالة التلقي التقليدي، كما قدم بعض مفاتيح هذا المتلقي الذي تؤشر عليه المؤشرات كونه تقليديا
يقول:2
“هل تعلم أني احْترق وأنا اقترف الحرف تقصفني الأقلام ويسحبني الورق”
إن وجود المفردات الآتية : “الأقلام” و”الورق” لدلالة واضحة على وجود المتلقي التقليدي الذي سيتلقى العمل قراءة، أو إنشادا في محفل أدبي، ويعتبر الإلقاء الشعري من بين أنواع التلقي التقليدي ويعود بنا إلى العصور الأدبية الأولى حيث النوادي الأدبية، وقد وجدنا هذا النوع من التلقي في نص الشاعر ضمن مجموعته الثانية يقول:3 “وليلى على البحر الطويل تُطاولُ قصيدي وتخفي حِلمها وتجادل تقول إذا شئت القصيدة ألقها كما كان يُلقِي في النوادي الأوائلُ”
ونستحضر في هذا المقام خيمة عكاظ الشعرية والناقدة أم جندب التي كانت تتلقى أشعار المتبارزين شعرا، ويحتكمون إليها لنيل أعلى المراتب الأدبية في القول الشعري، وفي المجموعة الثانية “الحرف الثامن..” يؤكد الشاعر حضور المتلقي التقليدي من خلال قوله:4 يا سامع نبض يراعي.. وقارئ حرقة ابداعي..وقوله أيضا في قصيدة “ساعة للصمت”5: “أيها السامعون قولي تواروا ساعة لا يُطيق طوقي الكلاما يَتْبع الغاوون الشُّداة فنَصْحو إن رضينا على الرَّصيف رُكاما”

الشعر والتلقي الإلكتروني الرقمي:

عندما نتحدث عن الأدب الإلكتروني فإننا نعني به نقل الأدب من مجال النشر التقليدي الورقي إلى النشر الإلكتروني عبر مواقع إلكترونية، مما سيستدعي بالضرورة تحول عملة التلقي بما يتناسب مع طبيعة النشر الذي أصبح الآن ضرورة يفرضها الواقع التكنولوجي الجديد، وعملية التلقي الإلكتروني في تجربة الشاعر الدخيسي ستبدأ خفية في الديوان الأول “هديل السحر” يقول: 6 “غازلتُ اليوم فراشهْ طافت بين نواميس الحاسوبْ بين الأزرارِ وبين الممدو على سطح الشاشهْ”
يتعرض المقطع للتحول الذي عرفته عملية الكتابة، حيث تم نقلها من الورق إلى الكتابة على شاشة الحاسوب بالاعتماد على الأزرار، والفراشة ذات المفهوم المتعلق بالبحث عن الحق وطوافها الكثير حول النور ظنا منها أنه الحقيقة، إن وجود مفردات “الحاسوب” و”الأزرار” و”الشاشة” لدليل قاطع على دخول الشاعر عالم التكنولوجيا، وسيستمر الحديث عن النشر والتلقي الرقميين، إذ فاعلية النص الرقمي الإلكتروني لا يمكن أن تتحقق إلا بفاعلية التلقي الرقمي الإلكتروني. في الديوان الثاني”الحرف الثامن..” حضرت عملية التلقي بشكل متوار في قصيدة “جيم” حيث تحتمل هذه الكلمة احتمالين اثنين، يقول:7 “لما حاولت كتابته عاد يخاصمني ويعدد لي الأخطاء يستنطقني حبي سين: ما شأنك بي؟ جيم:
انطلاقا من هذا المقطع نستشف الدلالة الأولى ل”جيم” وهي اختصار لكلمة جواب التي دلت عليها مؤشرات من مثل: يستنطقني، سين بمعنى سؤال، إلا أن المقطع الموالي يجعلنا نستشف دلالة ثانية، يقول:8 “تلك علامة إعجاب لا تعرفها علقت عليها أملي وخرجت أوزع أشواقي وأفتش عني بين ضلوع الجدران”
عندما تعلق الأمر بالتلقي التقليدي وجدناه يقول “علامة العشر”، وأما الآن نجد “علامة إعجاب” وهي من المفردات الحديثة التي ظهرت مع عصر التكنولوجيا عبر وسائط
التفاعل الإلكتروني، أضاف إليها مفردات أخرى من قبيل “علقت” والمقصود بها “تعليق”
أما الجدران، فهي جمع “جدار” والمقصود به “FACE،
هي مؤشرات يمكن اعتمادها إرهاصات أولى لوجود عملية التلقي الإلكتروني أكثر مباشرة من الديوان الأول. إلا أن ديوانه الثالث “كي أشبه ظلي” قد حقق طفرة نوعية في مجال الحديث عن التلقي الإلكتروني، ربما من بين أسباب ذلك -إضافة إلى كونها ضرورة حتمية – كونه علمي التكوين ووظيفته تحتم عليه التعامل اليومي مع التقنيات الحديثة، لذا نجده دائم الحضور على صفحته الزرقاء، وكثير التواصل، يقول:9 “ألف صديق لا أعرفهم أهدي الواحد منهم في المأتم والمغنم ما طاب من النقر ولذ من الحركات أتحين أعياد الميلاد لأثبت أني ما زلت قيد الميعاد”
يوضح هذا المقطع والقصيدة كلها انتقال التفاعل الإنساني من مجال التفاعل المباشر المادي، إلى مجال التفاعل الافتراضي حيث ملايين الأصدقاء والأسماء، إلا أنها أسماء وهمية “لا تجد لها في الشارع وجودا عند موعد اللقاء”، وصدق الحكيم إذ قال:
“فما أكثر الإخوان حين تعدهم لكنهم في النائبات قليل”
ويقف الشاعر في هذا النص عند قضية جوهرية وهي قضية ثنائية الحقيقة والافتراض، فإذا كان الإنسان عموما على هذا الحال، فما بال النقرات على العالم الأزرق، حيث الضجيج الفيسبوكي، يقول:10 “كثر الضجيج ولم أعد أصغي لنفسي”
إن هذا الانخراط الكلي للناس في عالم التكنولوجيا بهذا الشكل الذي يصفه لنا الشاعر، يجعلنا فعلا نتساءل عن مدى فاعلية وسائل التواصل الاجتماعي هذه، وهل تنطبق فعلا هذه التسمية على فاعليتها الاجتماعية؟ حيث الكل يكتب شعرا إلا الشعراء، والكل أصبح ناقدا إلا النقاد، والكل مستتر في علب الليل الأزرق؟11، والكل يتلقى ما ينشر، وإذ كثر الضجيج ليلا فقد ارتأى الشاعر أن يخصص مجالا لحواره مع غاويته ضمن صفحة خاصة بعيدا عن الضوضاء، يبادلها العشق والحب والألم والشعر، يقول:12 “ولما عجزت عن البحث عنها وضعت لها صفحة للحوارْ أغازلها الليل وأفشي لها كل عشقي وأمضي أراجع شوقي.. وشعري,, لها في النهارْ تقول تذكر أول شعر وأول نقرة حب وضعت بعيدا عن الناس لما هممت تعلق:
أقسم أن القصيدة من نسل حواءْ”
هي صفحة عشق طبعا وأيضا صفحة حوار شعري، حيث يتحول الشاعر إلى متلق والمتلقي إلى شاعر، أو بالأحرى شاعرة، فالنص لا يكتمل وجوده إلا بالمتلقي، وهنا لا بد أيضا من الإشارة إلى سلطة الصورة التي ترافق النشر الالكتروني، إذ إن وجود أي أيقونة مرافقة للنص المنشور، هي نفسها تؤسس سلطة على المتلقي، وتسهم أيضا في توليد الدلالة والمعنى:
على سبيل الختم: إن التراكم الفني الذي حققه الشاعر بوعلام الدخيسي عبر التجارب الشعرية المدروسة في هذه الورقة13 وهي “هديل السحر”، “الحرف الثامن”، “كي أشبه ظلي” في ظرف زمني ما بين 2012 وبين 2016 أي بنسبة ديوان كل عامين، يجعلنا نقف عند بعض من سمات هذه التجربة المتعلقة بالتلقي، حيث حضر عبر مستويين أولهما المتلقي التقليدي العادي الذي تلقى نصوص الشاعر عبر الورق أو الإنشاد، والثاني المتلقي الإلكتروني التفاعلي، وقد ظهر هذا النوع من التلقي بعد الانفتاح الكبير للقارئ على وسائل التواصل الحديثة، مما يجعلنا نطرح العديد من التساؤلات حول هذه العملية، واستحضار الناقد باللفظ في تجربته مرة في ديوان “الحرف الثامن” وثلاث مرات في “كي أشبه ظلي” لدليل قاطع على اهتمام الشاعر بالمتلقي وعنايته بالناقد.

الهوامش:

1-هديل السحر، مطبعة الجسور، الطبعة الأولى 2012، ص: 48
2- هديل السحر، ص: 14
3- هديل السحر، ص:804- هديل السحر ص:825- الحرف الثامن، مطبعة الجسور، الطبعة الأولى، 2014، ص:116- الحرف الثامن، ص: 23 7- هديل السحر، ص:89 8- الحرف الثامن، ص:55 9- الحرف الثامن، ص: 58 10- كي أشبه ظلي، مطبعة الجسور، الطبعة الأولى، 2016، ص: 37 11- كي أشبه ظلي ص:13 12- كي أشبه ظلي ص: 39 13- كي أشبه ظلي ص:81
14- الشاعر مستمر في الإبداع

> بقلم: إلهام الصنابي

Related posts

Top