الشعر واقتفاء آثار المنفلت في مجموعة “تسكعات في خرائط التيه” للشاعر المغربي نور الدين ضرار

1 – إشارة

تحتفظ علاقة الشعر بتوقه إلى الإمساك بالمنفلت بتشعباتها المتمنعة عن كل اختزال مخل. ومن تم فإن هذه العلاقة مدعوة، دوما، إلى تقويض الحدود التي تصون فكرة الاطمئنان، والإبقاء على المسافة التي “تحمي مجهولها العصي على الامتلاء والانغلاق”1. مجهول أغرى الشعراء بالحفر فيه، منذ زمن سحيق، وأرسوا حوله تصورات تباينت بتباين تجاربهم التي تنشد الأقصى، وتعمق مسالكه نحو دلالات أبعد، لن تكف عن التجذر في الممارسة الشعرية و بها، انسجاما مع الرغبة في الغوص في أغوار المنفلت، والتوغل بعيدا في مجهول أسئلته، التي أمن لها الخفي اشتغالا خاصا في تلك المسافة السرية، حيث يصغي الشاعر لصوت الوجود، و”يحفظ المطلق باللغة”2، و يحوله إلى سؤال فكري ذي أفق مشرع على الاحتمال.
بالاحتمال تشتغل القصيدة وهي تمارس فعل التسمية لتوريط الذات في كتابتها، فالتسمية رهان يعول عليه الشعر “انطلاقا من المعرفة التي ينتجها عن المسمى”3، و”طريق الشاعر أن يسمي المطلق ليظهر الوجود” المتعدد، و”يحرس المتعالي الذي تتيه فيه القراءة4. تيه لا يتوقف عن أن يكون سفرا بين الذات والقصيدة والوجود، ولا يكف عن تعميق النسيان والمحو اللذين بهما يجدد النص معرفته بنفسه وبالعالم، ومن خلالهما يدرك الشعراء الواقفون على حدود المأساة والهاوية “بأن الأهوال هي طريق وحدتهم، وفي أثناء تأملهم يخلقون من أنفسهم “الصدى والهاوية”5 على حد تعبير فرناندو بيسوا.

2 – تمجيد الاغتراب وتعميق الانفلات:

تسعفنا الإشارة السابقة من الاقتراب من تجربة الشاعر نور الدين ضرار في مغامرتها الأولى6، من غير أن تتحول هذه الإشارة إلى آلة لتعنيف هذه النصوص المتحصلة من فعل قرائي رصين، والموقعة بالإنصات البعيد لنبض العالم. إنصات” يبدو فيه الشاعر مغتربا في اغترابه”7، إذ من خلاله يعيد ترتيب علاقته بالبياض والدهشة وشكل الانتساب للمجهول المنفلت باستمرار، ليكون الرسم بالكلمات أحد المنافذ الممكنة للإطلالة على مسالك التيه الغفير في هذه النصوص المفتونة بالبحث عن فجوة “لإخضاع المستحيل لممكن اللغة”8، التي تغدو عند نور الدين ضرار أفقا لاختبار قدرة الذات الكاتبة على تبني قلقها الوجودي والمعرفي معا. أفق آهل بالارتياب، باعتباره “علامة ظفر بالخيبة النتوج، أي الخيبة الخصيبة”9. يقول الشاعر في نص” من آخر سماء”:
في هذه القلعة الساقطة
من آخر سماء..
لا تسألوا الشاعر عما به
لا تسألوه عن اسمه
خلوه يكتب على وجنة الرمل بريش الرماد
ختما لبوح البحار
و سورة الأشجان،
خلوه ينقش على طلعة الماء بأصابع الريح
أسماءه الأولى
ومطلعا مستحيلا
لقصيدة عنيدة..10
تعددت مظاهر الاغتراب والألم المصاحب للفعل الكتابي عند نور الدين ضرار في هذه المجموعة الشعرية، فكتابة المنفلت تتحقق من داخل الإنصات لألم الإمساك به والاغتراب فيه لأنه “دال على الأفق البعيد الذي لامسته الكتابة. فيه حظيت بخيبتها التي لا تتحصل إلا لمن خاطر من أجلها”11، وتوغل عميقا في شعابها. بهذا المعنى، يمكن عد اختيار لوحة الفنان حسن الخنتوتي، كنص مواز على ظهر غلاف هذه المجموعة، اختيارا موفقا، ينم عن التمثل العميق للرهان الذي عولت عليه هذه النصوص. رهان يؤشر، من ضمن ما يؤشر عليه، على أن ما تتوجه إليه الكتابة هو دوما منفلت. ذلك ما يشهد عليه تقطع الحروف في اللوحة، إذ يمكن عده شكل معنى. المعنى المتمنع الاكتمال لانفلاته دوما.
تتيح لنا اللوحة، على المستوى البصري، تعيين بياضات تتموقع داخلها عتمات كثيرة، على سطحها حروف متشظية تحاول الانسلال إليها. إن العتمة، في رمزيتها الشديدة الصلة بالكتابة، تحيلنا على العمى كأقصى حد للرؤية، يخول للشاعر إبدال مواقعها لإنتاج أخرى مغايرة. ذلك ما يرسخ المجال لتشغيل الخيال، ويؤكد على أن المجهول هو ما يغوي فعل الكتابة، ويعمق قلقها ويدفع به نحو تخومه القصوى، غير أنه مجهول لا يشيخ، بتعبير محيي الدين بن عربي، لأنه يفتح دوما على اللانهائي ويمجد اللايحد.
إن تشظي الحروف، المشار إليه، يحبل، هو الآخر، برمزية كثيفة. فإقامة هذا التشظي بين فضاءي النور والعتمة، إحالة عميقة جدا على مواجهة الكتابة لجدار المستحيل، الذي يجب عليها أن تحدث شقوقا فيه، لكي تنتقل من فضاء إلى آخر، إن هي أرادت أن تتجدد، لأن “المرء إذا أراد أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه”12. إن قول المستحيل، هنا، مفتوح على مغامرة نجهل، منذ البدء، مضاعفاتها التي تضع الذات الكاتبة على الحدود القصوى للاغتراب. اغتراب لا تبلغه الكلمات، لأن الانفلات جزء من رهاناته، ألم يقل النفري:” الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف يخبر عني”13، ولعله نفس الطرح الذي يعمقه نورالدين ضرار في النص الموسوم ب “رؤيا”:
موجع
مرعب
مفزع
فظيع
فاجع
و مروع
صاعق
هذا التشظي..14
لقد اتضح للشاعر أن اللغة لا يمكن لها، وهي تنفتح على الاغتراب وتنكتب به، أن تعثر إلا على فشلها الخاص. فشل نتوج يهدم كل الأفكار المستريحة إلى طمأنينتها، ويشق مسالك مغايرة تصر على اجتراح توقيعها الشخصي. يقول الشاعر، معبرا بصورة تصل، في ألقها الشعري، حد تخوم التصوف، ومنتبها بعمق لاغتراب الحرف في ثنايا البياض:
وحين يضرم الحرف
بأصابعي
جمر الصبوات
يتحجر بعيني
وميض عينيك،
يتحجر بيدي
رحيل يديك،
وعلى شفتي
يتحجر
كل
الكلام.15
لم يكن من قبيل الصدفة أن يشكل هذا المقطع خاتمة لآخر نص في المجموعة، فقدر الكتابة أن تلامس الصمت وتقيم فيه، إنصاتا لعبور آخر به تجدد دماءها وتعمق معرفتها،” فالكتابة لا تقول وحسب، وإنما أيضا تصمت، لأن ثمة ما لا يستقيم للقول.”16
في الارتباط دائما بغلاف المجموعة، يتموقع على يسار اللوحة عنوان التأمت شظايا حروفه على مستوى الرسم، فيما هي تحيل على تشظ آخر على مستوى الدلالة. إن العنوان، باعتباره نصا موازيا أو شمسا معلقة فوق النص، بتعبير جاك ديريدا، يحضر كتوقيع شخصي يتقدم النص، مؤشرا على احتمالاته، ويكشف عما يوجه الممارسة النصية عند الشاعر، إضافة إلى حضوره كعين قارئة لرموز اللوحة الفنية. بناء عليه، إذا كانت هذه الأخيرة تحيل، كما أشرنا سابقا، على العتمة والبياض وحرقة الحرف الممتد بينهما كمسافة وصل، فإن العنوان جاء ليكثف ويعمق هذه الصورة. فأن ترد لفظة التسكع بصيغة الجمع، يفيد إلحاح الذات الكاتبة على الانفتاح على مغامرة تنخرط فيها الكتابة لاختبار قدرتها على تحمل هول التشظي، واجتراح المسالك الكفيلة بالانتساب إلى ما به يمكن قول التيه المبطن بالانفلات. بهذا المعنى، يغدو فعل الكتابة، عند نورالدين ضرار، محوا لكل يقين من شأنه أن يفرغ الممارسة الشعرية من الاحتمال الذي به تكون، ويزج بها بعيدا عن اغتراباتها القصية باعتباره نواة مركزية في هذه المجموعة الشعرية. إنها قضية وجودية وكتابية وشكل معنى كذلك:
يوقفني على بحر لا يسميه
ويقول لي: لا ساحل لك
دوما
لا ساحل لك17
إن التسكعات تبحث عن ملاذاتها البعيدة في خرائط وردت هي الأخرى بصيغة الجمع. ذلك ما يعمق سفرها نحو الأقاصي، اقتفاء لآثار المنفلت، فالخرائط مؤشر دلالي على تيه المسالك وشدة تشعبها حد المغامرة بركوب أهوال ليل النص، الذي لا يورث تفاصيله إلا للمدركين لما يتطلبه السفر في شعابه الأكثر انجذابا نحو اللانهائي. يقول الشاعر في نص” ليل الغرباء”:
ترى من يؤنس، الليلة، ليل الغرباء؟
سوى نجمة
أراها في سديم السواد
شاردة
عمياء،
بالكاد تكاد لا تراني
شاردا
ضليلا
أعمى،
أرى الظلام في غمرة بلاد من الأضواء..18
3- سطوة المنفلت وتماهي الألم بالكتابة:
تمت الإشارة، سابقا، إلى أن اللغة لم تظفر إلا “بالخيبة” وهي تتغيا الإمساك بالمنفلت، فانفلات المستحيل من اللغة تجربة عالية لا يتسنى خوضها إلا للمنتسبين بعمق لآلامها السحيقة الغور. ففي تجربة كل شاعر عميق هناك شقوق شاهدة على التصدع الذي يمس جسد اللغة في ذهابها نحو اللانهائي. تأسيسا على ذلك، يمكن لنا أن نتساءل: لماذا عول نور الدين ضرار على اللغة في كتابة المنفلت، علما أنه اتضح له، منذ العنوان، أن التيه أكثر شسوعا من اللغة؟ وإلى أي حد أمكن له استضافة تجربة قائمة على الاغتراب إلى الكتابة؟
إن الكتابة في هذه المجموعة تستل لغتها من الأنساغ الدفينة للروح والجسد معا، وعلى أنقاض رمادهما تخوض مغامرة اقتفاء أثر ممكن لا يكف عن تعميق انفلاته فيما يعمق ألمها، ويزج به إلى ليل السديم. هكذا لا تنفصل الرغبة في تطويق المنفلت والانتساب إلى البعيد عن التخلي عن اللغة، لأن كتابة المستحيل تشكل أحد رهانات اللغة، ووجها من وجوه غور آلامها السحيقة. يقول الشاعر في نص”غياب”:
ثم ماذا لو كان صديقي الغياب؟
فأرتقي لعليائي
سديم
سقوطي
لأفكر بكل الصبايا المتعبات بانتظاري
وأفكر بكل البحار المتعبات بمدي وجزري،19
أن نكتب يعني أن نعثر على الحيرة بداخلنا، حيث تتراجع اللغة أمام المد الهائل للانهائي. إنها “حالة اللامعرفة”، على حد تعبير جورج باطاي، من غير أن تعني اللامعرفة الجهل، “وإنما الذهاب بالمعرفة إلى أقصى حدودها، حيث يتلاشى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة. إنه وعي قلق يسائل ذاته باستمرار، ويكشف عن توتراتها الدفينة، إحساسا بضآلتها تجاه اللايحد”.20
إن مغامرة القبض على المنفلت لا تتأسس على إلغاء الحيرة، وإنما مصاحبة ألمها باعتباره جزءا من وجود ومن تجربة، فالألم يجذر الإحساس بالحياة، بخلاف فقدانه الذي يحيل على الجمود. ذلك ما يفسر الانتساب إلى الكتابة، إذ عبرها يعيش المبدع الألم في صمت ويدفع به إلى أقصاه. انتساب خبره الأوائل، وخصوه بتأمل باذخ. يقول جلال الدين الرومي:
“ليس لي شيء أكثر من هذه الكلمات الثلاث:
احترقت…احترقت…احترقت…”21
ألم جلال الدين الرومي يشهد على امتداده أكثر من نص في هذه المجموعة، دون إغفال حضور التوقيع الشخصي العميق للشاعر نور الدين ضرار:
ولي وحدي تباريحي،
وعشب أغنياتي،
ورماد احتراقي22
إن الاحتراق، الألم، الحلم، الاغتراب والموت، عناصر أساسية تحكم حب كل شاعر عميق لمغامرة الكتابة، فأن نكتب، بمنظور المتصوفة، معناه: “أن نحترق بألم شديد، أن نجعل من الحلم عملا للموت وتدميرا للذات”23، لتكون الكتابة، بهذا المعنى، عند نور الدين ضرار تعميقا لمسارات الاغتراب القصية المسكونة بالغياب والانفلات الصعب. لذلك تتغيا هذه المجموعة قارئا مغتربا، أي القارئ الذي “يربط بين الألم وبين فعل التفكير والقراءة”24، القارئ الذي يجعل من فعل القراءة منفذا لتجاوز ذاته والزج بها نحو المجهول والغريب، أي “أن يجعل من القراءة فعلا من أفعال الفناء الذاتي الذي تتداخل فيه عناصر الاغتراب والحب والمغايرة…”25

الهوامش:

1- بلقاسم خالد، الصوفية والفراغ: الكتابة عند النفري، المركز الثقافي العربي، ط.1 س.2012، ص.5
2- غزال محمد، اليد التي تكتب الرماد، مجلة بيت الشعر.عدد مزدوج13-14س.2009، ص.130
3- مجلة بيت الشعر، كلمة العدد، عدد مزدوج19-20س2012، ص.9
4- غزال محمد: مجلة بيت الشعر، عددمزدوج 13-14.م.س.ص.130
5- بنيس محمد، قصيدة التلاشي، ورقة ألقيت في الذكرى المئوية للشاعر بول إيلوار، الملحق الثقافي الاتحاد الاشتراكي، عدد 10821 س.2002
6- سبق للشاعر نورالدين ضرار أن كتب نصوصا شعرية عميقة ونشرها بمنابر إعلامية مغربية وعربية قبل إصدار مجموعته الشعرية الأولى” تسكعات في خرائط التيه”.
7- آيت البشير الشريف، مقتطف من الكلمة التي خص بها تقديمه للمجموعة الشعرية “تسكعات في خرائط التيه”، ظهر الغلاف.
8- بلقاسم خالد. الصوفية والفراغ: الكتابة عند النفري. م. س، ص.226
9- نفسه: ص.290
10- ضرار نورالدين، تسكعات في خرائط التيه. منشورات الصفريوي، ط.1س.1999، ص.38
11- بلقاسم خالد، الصوفية والفراغ: الكتابة عند النفري.م.س.ص.289
12- كيليطو عبدالفتاح، الأدب والغرابة، دراسة بنيوية في الأدب العربي، ط.10 س.2013، ص.72
13- محمد بن عبدالجبار بن الحسن النفري، كتاب المواقف ويليه كتاب المخاطبات، تحقيق آرثر آربري. مكتبة المتنبي. القاهرة. بدون تاريخ. ص.66
14- ضرار نورالدين، تسكعات في خرائط التيه.م.س.ص.53
15- نفسه: ص.10
16- بلقاسم خالد، الصوفية والفراغ: الكتابة عند النفري.م.س.ص.299
17- ضرار نورالدين، تسكعات في خرائط التيه.م.س: ص.58
18- نفسه، ص 10
19- نفسه، ص58
20- George Bataille «  L’expérience intérieure ». Gallimard.1943.Paris.p-p :15-16
21- منصف عبدالحق، الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج محيي الدين بن عربي. مطبعة عكاظ. ط.1 س .1988.ص.500
22- ضرار نور الدين، تسكعات في خرائط .م.س.ص.8
23- منصف عبدالحق، الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج محيي الدين بن عربي. م. س. ص.500
24- نفسه. ص. 502
25- نفسه. ص. 503

> بقلم: عبد السلام العبيسي

Related posts

Top