الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة

سي علي صحافيا..

في مثل هذا اليوم، يفتح التاريخ دفة كتابه ليعود بنا إلى سي علي الصحفي الذي اجتمع فيه ما تفرق في غيره. فضمن ما ميز المسار النضالي لرفيقنا الراحل إتقانه للعمل الصحفي الذي مارسه متشبثا بمبادئه، ومسلحا بمعاييره الأخلاقية، وبالنزاهة والمصداقية، لا يرضى لكتاباته غير الاستناد إلى الاستقلالية والموضوعية، متشبعا بمهارة فن الكتابة وبزاد معرفي وثقافي لا ينضب.

كان سي علي، من خلال متابعتنا لكتاباته أو لتوجيهاته يعتبر الصحافة في مقدمة المهن التي تعكس صورة المجتمع بتجاربه ومشكلاته وظواهره، ويرى أنه حري بالصحافة أن تحترم البيئة الثقافية للمجتمع، وألا تتجاوز المبادئ والقيم المتعارف عليها حتى تؤدي وظيفتها بشكل يستجيب لحاجات الناس وتطلعاتهم، وتمنحهم الفرصة ليحظوا برؤية أكثر وضوحا لواقعهم. فأخلاقيات العمل الصحفي تصبح بلا فائدة ما لم تعكسها سلوكيات عملية على أرض الواقع.

في اجتماعات التحرير اليومية، وحين كنا نتطرق لموضوع قد يورط شخصيات بارزة أو مقربة، كان سي علي، بحدسه الصحفي، يلح على ضرورة  الالتزام بجملة من المبادئ والقيم التي ترتقي إلى واجباتنا المهنية، بعيدا عن التجريح، حتى نصوغ مقالات تنتصر لقضايا المواطنين والوطن، مع الحفاظ على جسور علاقات الجريدة بالطرف الآخر ممتدة، لا يساورها شك ولا يعتريها غموض، مبنية فقط على ما ينتصر للمصلحة العليا للبلد.

بالنسبة لسي علي تختلف الصحافة عن باقي المهن الأخرى بكونها رسالة قبل أن تكون مهنة، ودورها لا يتوقف على مجرد أداء لوظيفة اجتماعية أو ممارسة لهواية تثقيفية، بل هي أبعد من ذلك بكثير، وفي غاية الأهمية من حيث تأثيرها في الفرد وتنمية الوعي لديه ومساهمتها في بناء المجتمع ونهضته.

ولعل التاريخ لن ينسى مقالات بيان اليوم وافتتاحياتها التي كرست هذا التوجه المبدئي، ما جعل من بيان اليوم مدرسة متفردة، اقترن ذكرها دوما برجل لم يغير قط مواقفه، ولم ينحرف عن مسار خط تحريري نضالي قوامه كرامة الشعب المغربي وحقه في العيش في دولة يتقاسم أبناؤها خيراتها بصفة عادلة.

نعم. التاريخ لا ينسى وهو يكتب اسم رجل وطني دعا دوما، كصحافي، إلى العض بالنواجد على كل شبر من تراب الوطن. فقد كرس حياته لقضية الوحدة الترابية التي دافع عنها، في افتتاحياته، بقوة، بل وترك مقر الجريدة ليكون في الصفوف الأولى للمسيرة الخضراء، مرددا دوما عنوان افتتاحيته لأول عدد من بيان اليوم: “الوطن يأتي قبل الصراع الطبقي”.

رفض سي علي دوما مطالعة “صحف العام زين” التي كنا نتوصل بها يوميا ضمن جرائد وطنية أخرى. بالنسبة لعلي يعته لا تستقيم الصحافة إذا كانت منتوجا إعلاميا باهتا يلفه الجمود، منفصلا كليا عن واقع الناس، ولا يحقق لهم نفعا.

الصحافة بالنسبة لسي علي نبش دائم، بحثا عن أخبار تسلط الضوء على جانب مخفي من المجتمع وكشفه للناس على حقيقته، ومنح المجتمع الفرصة ليرى ذاته عن قرب.

 الصحافة بالنسبة لمديرنا ورئيس تحريرنا الأسبق سي علي يجب أن ترقى بالمستوى الحضاري للشعب المغربي، وأن تكون مقياسا محددا لمنسوب الحرية التي يتوفر عليها والذي يجب النضال من أجل رفعه من خلال صحافيين ملتزمين، مستعدين قبل كل شيء لما يعترضهم من مخاطر عند أداء عملهم ومتحملين لمشقات يكابدونها، معتصمين بالصبر على احتمال المكاره. ولعلنا نذكر ما تعرض له زملاء سابقون في بيان اليوم من تضييق ومحن لم يكن يخفف من ثقلها سوى الإحساس بمجاورة قامة كبيرة كسي علي الذي كان بحق صحافيا مرموقا وبارعا فيما يقدمه من معلومات لا يتسرب إليها الشك ولا يعتريها الخطأ أو النقصان، وكانت دوما على النحو المطلوب لصناعة رأي عام مستنير وواع. وهو ما جعله يحوز ثقة خصومه قبل رفاقه، وجمهوره العريض لأنه كان دوما في عمق أخلاقيات المهنة وآدابها.

بهذا السلوك النبيل والسامي، خلف الراحل علي يعته مدرسة صحفية تضع المواطنات والمواطنين فوق كل اعتبار، تدافع عنهم وتدعو لإقرار الديمقراطية وحقوق الإنسان سبيلا لذلك. مدرسة متشبثة بقيم الممارسة الديمقراطية التي تنبذ العنف والانتهازية، وترفض السياسة السياسوية، وتغلب مصلحة الوطن والشعب.

في ذكرى وفاته الـ 25، تنحني هيئة تحرير بيان اليوم إجلالا لسي علي الذي غرس بين صحافيي هذه الجريدة الغراء روحا متشبعة بالقيم والمبادئ الوطنية الأصيلة. وسيظل بالنسبة لنا، نحن تلامذته، علما  يستحق أن نقف على اجتهاداته ونضالاته في وقت لم يكن فيه العمل الصحفي سهلا.

* مصطفى السالكي

Top