الصحافيون جالسون في المنازل

أن تتحول غرفة الأخبار إلى المنزل إلى أمد غير محدّد، فذلك ما لم يتوقعه حتى الخيال المسرف في الابتعاد عن الواقع.
لكنّ ذلك هو الحال اليوم بسبب الاعتكاف الصحي شبه الإجباري أو الإجباري والاضطراري أحياناً.
صار معتاداً أن يكون الصحافي صديقاً للنافذة، وصارت حدوده الرسمية هي مدخل المنزل أو بوابة العمارة. أيّ جغرافيا هذه التي فرضت نفسها بقوة حتى تكيّف الصحافي وصار التحرير أونلاين والتحرير عن بُعد واقعا جديدا غير مسبوق.
رئيس التحرير ومدير التحرير والطواقم الأخرى صاروا يتواصلون مع كتّاب الأعمدة ومع المحررين والمراسلين على أساس انتقال غرفة الأخبار إلى البيت، وكذلك تتواجد بموجب الجغرافيا الجديدة غُرف المحررّين.
ربما هو واقع جديد غير مسبوق، أن يغادر المحررون المكاتب الرسمية ويجدون في البيوت بديلا مؤقتا، لكن هناك في المقابل منظومة متكاملة بدأت تغيّر وجه العالم إلى شكل جديد.
الأطفال والتلاميذ وطلاب الجامعات كلهم انخرطوا في التعليم عن بُعد وفي الغرف الإلكترونية، وصار إلقاء المحاضرات والحوار مع الأساتذة من الأمور الحتمية عبر الفضاء الرقمي والشاشات. في موازاة ذلك صارت تقنية التعرف على الوجوه أمرا واقعا بذريعة التعرّف على هوية المصابين بالوباء كما هو واقع في الصين.
كاميرات المراقبة وقراءة الوجوه والكاميرات الحرارية ربما ستكمل المشهد قريبا وأيضا تحت غطاء مكافحة عدو البشرية الأول، الفايروس.
الصحافيون الذين يرتدون البيجاما فيما هم يخاطبون جمهورهم العريض ويلاحقون التطورات من حول العالم صاروا يقدّمون نمطا مختلفا من الأداء.
حدّثني أحد الأصدقاء وكان قد صوّر فيلما وثائقيا عن شاعر معروف يعيش في بريطانيا أنه كان في كل يوم يستيقظ صباحاً، وما يلبث في ساعة محدّدة أن يكون مرتدياً زيّه الرسمي وكأنه ذاهب إلى العمل رغم أنه يعمل من المنزل، لكنّه يذهب إلى غرفة المكتب بكامل أناقته الرسمية ويستمر بالعمل حتى وقت الغداء ليتوقف بعض الوقت ثم يواصل. فهل يأتي زمن يقوم الصحافيون بنفس طريقة الأداء، يجلسون في مكاتبهم المنزلية وكأنهم جالسون في مكاتبهم الرسمية؟ واقعيّاً إنها قد تكون أطول فترة مرت بها أفواج الصحافيين في العمل من المنزل.
ليس هناك حتى الآن تقييم رسمي لنتائج هذه التجربة الفريدة سواء بالنسبة للتعليم عن بُعد أو بالنسبة للعمل الصحافي.
من جهة أخرى صار الهاتف النقال أداة مهمة لنقل تصريحات المسؤولين وهم معتكفون في المنازل.
شاهدنا رئيس الوزراء البريطاني وهو يتحدث إلى البريطانيين عبر رسائل مصورة قصيرة من هاتفه الشخصي النقال، ويشرح حالته الصحية وأهمية غسل اليدين فيما الوباء يتفشى في بلاده بلا هوادة ويحصد الآلاف من الأرواح، وكذلك شهدنا تطوّرات انتقال زعامة حزب العمّال المعارض وانتخاب زعيم جديد.
الحاصل أن الحكومات صارت تشارك الصحافيين الطريقة نفسها في إدارة أمورها، الجلوس في المنزل وإنجاز المهام بالتواصل عبر النوافذ الإلكترونية والرسائل المصوّرة.
لم يعُد مستغربا أن العديد من رؤساء الدول والحكومات صاروا يستخدمون الدوائر التلفزيونية المغلقة في الاجتماعات الأسبوعية أو اليومية.
الرئيس أو رئيس الحكومة هو الآخر جالس في المنزل ومن هناك يتوصل بالكاميرا مع وزراء حكومته ومع سائر المسؤولين.
هذا المشهد غير المسبوق عبر التاريخ سوف يؤسس من دون أدنى شك تطبيقا عمليا لاستخدام البدائل الاتصالية توفيرا للوقت والجهد والمال وتقليل مستويات التلوث والاستخدام المفرط لوسائل النقل بما يعنيه من انبعاثات سمّمت كل شيء من حولنا.
التقارير تتحدث عن رحمة نظرية “خليك بالبيت” وكيف أنها ساهمت بشكل فعّال في خفض الانبعاثات الحرارية ونسب التلوث وصولا إلى الاهتزازات الأرضية المُفضية إلى الزلازل.
الصحافيون الجالسون في المنازل يمضون في مهمتهم كما لو كانوا في المكاتب الرسمية، لا فرق سوى أنها مهمة جديدة وغير مسبوقة ومن المبكّر الحكم على مدى نجاحها وجدواها.

Related posts

Top