العائلة .. السياسة والفساد في الجزائر

السياسي الجزائري المتهم بالفساد لا يذهب إلى السجن وحده، بل يأخذ معه أكثر من فرد من عائلته، قد يكون ابنه وزوجته وابنته وحتى صهره وحفيده، لدرجة أننا يمكن أن نكون أمام ثلاثة أجيال من العائلة نفسها، أمام المحاكم وغرف التحقيق، تنتهي في السجن، كلها متورطة في قضايا الفساد. هذا ما هو حاصل فعلا هذه الأيام، كما كشفت عنه تحقيقات العدالة، بعد انطلاق سلسلة المحاكمات لوجوه سياسية معروفة منهم، رئيس الحكومة، والوزير والقيادي الحزبي الوطني، والضابط العسكري والأمني الكبير.. حكموا الجزائر لوقت طويل، ففسدوا وأفسدوا.
عينة من الحالات، تثبت تورط العائلة بمختلف أفرادها، أصولا وفروعا، في الفساد المالي والسياسي. فمن هو المسؤول عن هذا الوضع يا ترى؟ هل السياسي الأب هو الذي يورط العائلة؟ أم العكس، أي أن العائلة بلهفتها على المال والامتيازات والتجاوزات من كل نوع، في وقت زاد فيه منسوب الريع، هي التي تورط الأب المسؤول؟ وما هو دور المرأة الزوجة والبنت؟ في مجتمع ما زال تقول فيه أغانيه المشهورة، بأن الخير مرا والشر مرا (امرأة) حتى إن مال إلى فرضية الشر مرا أكثر، كجزء من ثقافة ذكورية حاضرة، تصر على تحميل المرأة مسؤوليات فساد الزوج وإغرائه بالفساد.
وهل أن هذا الفساد كان دائما حاضرا؟ أم أنه جديد على الجزائريين؟ وما علاقته بنوعية التسيير المالي والاقتصاد السياسي للبلد؟ أسئلة كثيرة يمكن أن تكشف عنها بالتفصيل المحاكمات التي سترتفع وتيرتها عن قريب، لوجوه سياسية وأمنية متورطة في الفساد بأشكاله الكثيرة والمتنوعة، تسرب الكثير من المعلومات عنها إلى الإعلام من التحقيقات القضائية. معطيات أولية لم تفاجئ الجزائري، الذي كان يسمع بها ويعرف عنها الكثير، حتى إن صعقته الأرقام المالية المتداولة، في ملفات هذه القضايا.
لفهم الظاهرة قد يكون من الأفيد لنا أن ننطلق في البداية، من القاعدة الاقتصادية لهذا الفساد الذي استشرى بعد ظهور نمط معين من رجال الأعمال والقطاع الخاص، داخل نوع محدد من الاقتصاد الريعي، بداية من منتصف ثمانينيات القرن الماضي. علما بأن الفساد قد يكون أكثر استشراء داخل القطاع العام وليس الخاص للأهمية الاقتصادية لهذا القطاع كمصدر للريع المالي النفطي، بل إنه وسيلة من وسائل «خصخصة المال العام» الذي يقوم به الجيل «المقاول الجديد» الحاضر في القطاع الخاص، اعتمادا على علاقات الأب المسؤول، صاحب النفوذ داخل مؤسسات الدولة.
علما بأن تاريخ الجزائر القريب يخبرنا أن صورة البورجوازي التقليدي لم تكن مرتبطة بالفساد، لدى الجزائري كقاعدة عامة. مهما كان قطاع نشاطها، بالعكس فقد احتفظ الجزائريون بصورة إيجابية لتلك العائلات التي كونت ثرواتها لأجيال، وهي تمارس نوعا من التقية المالية، حافظت من خلالها على خصوصياتها العائلية، بعيدا عن العيون المسلطة عليها، في الحي ومكان العمل، أثناء العرس والجنازة والعودة من الحج. هي التي استمرت في العيش في الغالب بالقرب من شعبها، داخل هذه الحالة الكولونيالية العنصرية التي عرفت بها الجزائر تاريخيا.
بدأ الجزائريون في الحديث عن الفساد المالي، عندما بدأ الخلط بين المجالين العام والخاص، بداية من العهدة الثانية للرئيس الشاذلي بن جديد، عكس مرحلة بومدين، الذي أبعد بشكل صارم أفراد عائلته، عن كل حضور سياسي أو إعلامي عام وصل في بعض الأحيان إلى حد ظلمهم. بومدين الذي لم يعرف أغلبية الجزائريين اسمه العائلي الحقيقي ـ بوخروبة – إلا بعد وفاته. في حين قد تكون حالات فساد بعض أبناء خليفته الشاذلي بن جديد وأصهاره من زوجته الثانية، من القضايا التي ساعدت على إثارة الرأي العام ضده، كما برز ذلك بقوة أثناء أحداث أكتوبر 1988.
العائلة التي عادت إلى الظهور مع حكم الرئيس بوتفليقة بشكل مفضوح، لم يكن معروفا داخل النظام السياسي الوطني. تسبب في الأخير في إبعاده من السلطة بشكل مشين، أوصلت الأخ ـ المستشار إلى السجن بتهم كثيرة. هو الذي تحول إلى عراب فعلي للفساد داخل هذا النظام الريعي الذي غابت فيه الفروق بين العام والخاص.
البقاء على مستوى سطح الحياة الاقتصادية، قد لا يفيد كثيرا في فهم ظاهرة الفساد ودور العائلة داخلها، إذا لم نعرج ولو بعجالة إلى مستويات أكثر عمقا كالمصاهرة والجهوية اللتين تكونان الأرضية السوسيولوجية لهذا الفساد الذي تحكم في رقاب الجزائريين، فقد تبين من الحالات التي تمت حولها التحقيقات القضائية، حتى أن المال والمصلحة المحصل عليها خارج إطار القانون أي الفساد، يخترق الجهوية، على أهميتها في تفسير الكثير من السلوكيات والمواقف السياسية، داخل النظام السياسي الجزائري. في حين استمرت المصاهرات العائلية صامدة، في وجه الفساد الذي اخترقته هذه العلاقات القرابية، وهي تتجاوز بدورها، في العديد من الحالات، البعد الجهوي ولترتكز عليه في حالات أخرى. باختصار الفساد أكثر من أي ظاهرة أخرى، يمكن أن يساعدنا كثيرا، كمفتاح في قراءة وفهم الجزائر الجديدة بخريطتها الطبقية والمصلحية.
فساد استشرى بعد التحولات القيمية والأخلاقية السلبية، في الغالب التي عاشها ولا يزال المجتمع الجزائري، هادن فيها وسكت عن مظاهر الثراء الفاحش التي تظهر فجأة على أفراد العائلة، فلم يسأل عن مصادرها، لا عن حلالها ولا حرامها. ظهرت على البنت أو الأخ او الزوجة، ناهيك عن كبير العائلة، الذي برع في استعمال أسماء افراد عائلته في التهرب الضريبي وتحويل الأموال وتكديسها، تعلق الأمر ببيع مواقع ترشيحات في حزب السلطة، أو تزوير انتخابات بين افراد هذه الطبقة السياسية ـ من أصول شعبية في الغالب – التي ابتلي بها البلد.
بعد أخلاقي في علاقته بالسياسي هو الذي كان وراء انفجار الثورة الشعبية التي بادر بها الشعب الجزائري منذ عشرة أشهر، ما زالت مستمرة، بدون أن يستوعب هذا السياسي الفاسد لماذا تستمر في مطالبها ولا ترضى بالمقايضات التي اقترحت عليها بتغيير الوجوه، بدل مطلبها بتغيير النظام ومؤسساته المنتجة للفساد، ثورة ترفض أن تطالب بالاقتصادي والاجتماعي، الذي تقدم لها كشكل من أشكال الرشوة، برع فيها النظام على الدوام اعتمادا على المال العام، ثورة تريد أن تؤسس للبناء على هذه اللحظة التاريخية كلحظة أخلاقية، قبل كل شيء، وهي تتجسد في يوميات الحراك الشعبي نفسه، وهو يصر على سلميته واحترامه للمرأة وللرأي السياسي والفكري المختلف، مثلما وهو ينظف شوارع المدن بعد المسيرات، في انتظار تعميم هذه السلوكيات الإيجابية خارج أيام الجمعة والمسيرات، لإنجاز تلك القطيعة الأخلاقية المطلوبة مع الفساد والمفسدين.

 ناصر جابي

كاتب جزائري

Related posts

Top