العزلة والعظمة: قصص اجتماعية من عالم الحيوان

طالت بنا العزلة، أو هذا على الأقل ما يفكر فيه السواد الأعظم من الناس بينما يتسرب منهم الصبر مع مرور أيام تدابير التباعد الاجتماعي والإغلاق – الكلي أو الجزئي – الذي طال معظم الأنشطة البشرية المعتادة.
قيل يوما إن الصورة تغني عن ألف كلمة، لكن اليوم صارت «الميمز» تغني عن آلاف الصور وملايين الكلمات. ومؤخرا ظهرت على الإنترنت تنويعة عربية على «ميم» السيدة الغاضبة التي تشير بإصبعها إلى قط يجلس أمامها بمنتهى البرود، في هذه التنويعة تصرخ السيدة في القط (هي تمثل الشعوب وهو الحكومات) وتذكره بأنه قد قال إن العزلة ستنتهي بعد أسبوعين، ليتنصل القط -وقد ظهرت على رأسه «طرحة» تجعله يبدو أكثر وأكثر كأم عربية أصيلة- ويرد: «لقد قلت إن شاء الله!».
هكذا اختصرت «الميم» ببراعة معتادة مشاعر أكثر الناس تجاه تلك العزلة وازدياد ضيقهم ونفورهم منها مع الوقت. لكن، ألا يعتاد الإنسان كل شيء كما يقول دوستويفسكي في الجريمة والعقاب؟ فلماذا إذن يبدو أننا لا نطيق اليوم اعتياد العزلة، ولماذا تتصاعد المزيد من نغمات الضيق والتذمُّر كلما طالت؟ هل صار الإنسان يعتمد على الحياة الاجتماعية إلى الدرجة التي يجد معها في نفسه استعدادا عجيبًا للمخاطرة بالحياة نفسها؟

الأثر الأول

يحكي الطبيب الأمريكي آيرا بيوك عن أستاذة الأنثروبولوجي مارجريت ميد حين سألها أحد طلابها عما تعتبره أقدم أثر يشير إلى ظهور حضارة البشر. كان من المتوقع أن تذكر له شيئا مثل إناء فخاري أو حجر طاحونة أو سلاح للصيد أو حتى صنم غابر، لكنها تمهلت قليلا قبل أن تجيبه: «عظمة فخذ آدمية، التأمَت بعد كسرها». شرحت ميد أن انكسار عظمة الفخذ يحمل -في المملكة الحيوانية حيث تهيمن شرائع الغاب- حكما شبه مؤكد بالموت. بفخذ مكسور لا يستطيع الكائن -لأسابيع على الأقل- أن يسعى طلبا للطعام أو أن يهرب ممن يطلبه كطعام! عثورنا على هذه العظمة العتيقة لا يعني سوى أن شخصا ما قد قرر البقاء مع رفيقه المصاب والاعتناء به حتى التئام الكسر. إن أول قرار بتقديم يد المساعدة الرحيمة -كما قالت ميد- كان إعلانا لبزوغ فجر الحضارة.

لهذا، يبدو من المتناقض أن تأتي هذه الحضارة اليوم وترجو من ملايين البشر أن يعزلوا أنفسهم قدر المستطاع عن الاختلاط بغيرهم، اتقاءً لمزيد من الإصابات بالوباء الفيروسي، الذي ربما يدين بالكثير من الفضل لأساليب حياة حضارتنا المعاصرة الاجتماعية في النجاح الكبير لغزوه الهائل والخاطف.
من المنطقي أن نعتقد أن هذا التباعد الاجتماعي المقصود ينافي فطرة كائنات تقوم معيشتها على التواصل والتبادل. وربما نحتاج عند تأمل هذه المسألة إلى اللجوء لجيراننا الأقدم على هذه الأرض والأكثر خبرة بحيل البقاء. فهل تمارس الحيوانات أيضا العزلة الاجتماعية إذا هددتها الأمراض؟

أنوف عديدة وحيوات مديدة

سنبدأ من الغوص في البحر الكاريبي، حيث كركند الكاريبي الشائك الذي طالما اعتمد أسلوب حياته العتيق على مشاركة رفاقه في معظم الأشياء، حتى السكن. وهو المناخ المثالي من وجهة نظر فيروس قاتل، يسمى PaV1، تخصص في استهداف هذا النوع من الكركند (أو جراد البحر، أو الإستاكوزا)، وينتقل بين أفراده بالتلامس، لكنه يحتاج إلى ثمانية أسابيع تقريبًا داخل جسد عائله قبل أن يتمكن من الانتقال منه إلى غيره، وهو ما يمكن أن يتم بسهولة تامة بالطبع عند مشاركة الأوكار. غير أن للكركند -وتشريح جسده في العموم يجعله في أنظارنا أقرب إلى مخلوق فضائي- حاسة شم غير عادية، تمتلكها «أنوفه» العديدة المنتشرة بطول جسده. وهي الحاسة التي يعتمد عليها بشكل شبه كلي في تسيير أمور حياته الطويلة. وقد رصد العلم أن الأفراد السليمة من كركند الكاريبي الشائك تلتقط -عن طريق الشم- انبعاث بعض المواد الكيميائية من الأفراد المصابين بالفيروس القاتل، بعد أربعة أسابيع فقط من حدوث العدوى (أي قبل بداية الطور المُعدي من الفيروس بأربعة أسابيع كاملة)، فتتغلب على طبيعتها الاجتماعية، وتتجنب الاقتراب من الأفراد حاملي الإصابة.
القدرة على تمييز المرض ضرورة في عالم الحيوان، خاصة حين يتعلق الأمر باختيار شريك التزاوج. تستطيع إناث الفئران مثلا أن تعرف إذا كان الذكر مصابا بعدوى طفيلية من رائحة بوله، فتعتزله إلى غيره من الأصحاء. يتعرض الذكور المرضى من أسماك جوبي إلى نبذ مماثل من الإناث، حيث تستقصي الأنثى الحالة الصحية للذكر من هيئة الزعانف ورائحة الجسد ودرجة لونه، وتدع في النهاية ما يريبها إلى ما لا يريبها.
لا يتوقف اعتزال المرضى في مملكة الحيوان عند التزاوج فحسب، بل يتجاوزه إلى نبذ الإخوة أنفسهم إذا دعت الضرورة. إذ تخبرنا التجارب أن شراغيف (صغار) ضفدع الثور الأمريكي تستطيع -بالاعتماد أيضًا على التقاط الروائح- تمييز أشقائها الذين تعرضوا لعدوى الفطريات، بغرض تجنُّب الملامسة، طمعا في النجاة من الداء المهلك. لكن ماذا عن المخلوقات التي تعتمد في بقائها على أساليب حياة أكثر اجتماعية، حتى صارت مضرب الأمثال في التعاون والتنظيم؟ هل يمكن أن تمارس إجراءات العزلة الاجتماعية مخلوقات مثل النمل والنحل؟

ممالك النظام

نعرف جيدا أن النمل يعتمد تمامًا في تسيير أمور معيشته على التنظيم الاجتماعي، لكننا قد لا نعرف ما كشفه رصد العلم لقيام النمل -عند إدراك وجود إصابات معدية في صفوفه- بتطبيق العزلة الاجتماعية بكفاءة لم نصل إليها نحن البشر. تضم جحور النمل مئاتٍ أو آلافا من الأفراد المتجاورين في مساحات ضيقة يمكن أن تصبح بسهولة مرتعا لوباء متسلل. لولا أن سلوك النمل، عند رصد العدوى، يتغير تمامًا وسريعا، كما أخبرتنا مشاهدات نمل الحدائق الأسود. لا تتوقف التدابير هنا عند اجتناب الأصحاء للمرضى، وإنما لوحظ أن المرضى أنفسهم يطبقون نوعا من العزل الذاتي، ويتجنبون -من طرفهم أيضا- التواصل مع الآخرين. يتجاوز الأمر هذا إلى فرض حراسات صارمة حول مَن يُخشَى عليه الإصابة أكثر، كالملكات واليرقات، لعزلهم عن الأفراد المكلَّفين بالخروج للاستكشاف وتدبير الحصول على الطعام.
بالانتقال إلى النحل؛ يعرف مَن يربي نحل العسل أن واحدا من أسوأ الأمراض المعدية التي تصيبه هو مرض تعفن الحضنة الأمريكي الذي تسببه بكتيريا تدعى بينيباسيلاس لارفي، قد تتسلل أبواغها (خلاياها الجرثومية التكاثرية) في خفاء تام إلى أقوى مستعمرات النحل، فتنتقل من أفواه العاملات إلى اليرقات التي تحمل إليها غذاءها وهي في مخادعها، ثم تنتشر بين الحضنات الجديدة فتهلك أكثرها قبل أن تبلغ اليرقة طور الخادرة، ما قد يفضي في النهاية إلى هلاك المستعمرة بأكملها. لهذه الأبواغ قدرة عجيبة على الصمود تحت درجات حرارة شديدة الانخفاض أو شديدة الارتفاع، ولأزمنة قد تطول إلى خمسين عامًا!
لكن الدراسات كشفت أن اليرقات المصابة تطلق -كصيحة إنذار أخيرة- بعض الفيرومونات (وهي مواد كيميائية تفرزها أجساد بعض أنواع المخلوقات، بغرض التواصل مع أفراد من نفس النوع) تلتقطها حواس بقية النحل فتدرك وقوع الإصابة المهدِّدة لمستقبل المستعمرة، وتبدأ في تتبع هذا النوع الاستثنائي من الفيرومونات (وله اسم يحمل رنينا مشئوما هو النكرومون، أو فيرومون الموت) لتقبض على المصابين وتلقي بهم -هكذا ببساطة- خارج الخلايا، إلى الموت الحتمي!

في ظلال الإنسان

يأخذنا تصاعد ردود الأفعال هذا إلى أحد أذكى الحيوانات وأكثرها تعقيدا؛ قردة الشمبانزي (أو البعام). تصحبنا الإنجليزية جين جودل التي سافرت عام 1960 -وهي في السادسة والعشرين وبلا مؤهلات علمية- إلى كينيا، حيث التقت بأستاذ الأنثروبولوجي البارز لويس ليكي الذي ساعدها للحصول على منحة تفرغ لدراسة سلوك الشمبانزي في محمية جومبي الطبيعية بتنزانيا، أملا في أن يساعده ولعها بمراقبة تلك الحيوانات في بيئاتها الطبيعية على بناء صورة أوضح لما كان عليه سلوك البشر في فجر تاريخهم.
لم يخب أمل ليكي، فسرعان ما أرسلت له جودل بملاحظة عجيبة لم يسجلها -وربما لم يتخيلها حتى- أي عالم من قبل. كان شمبانزي عجوز ذو لحية خطها الشيب -ولهذا أطلقت عليه جودل اسم ديفيد جرايبيرد– يجرد غصنا رفيعا من أوراقه ثم يبلله بلعابه قبل أن يدفع «سنارته» اللزجة تلك إلى فتحات الثقوب الظاهرة في جحور النمل الأبيض، ليستخرج «صيده» الثمين من الأعماق! وبعد أيام فقط كانت العشيرة كلها تحذو حذو العجوز ذي اللحية الرمادية، الصياد وصانع الأدوات والمعلم! وفي نوفمبر 1960 عادت برقية برد لويس ليكي: «الآن يجب أن نعيد تعريف الأداة (نقطة) أو نعيد تعريف الإنسان (نقطة) أو نقبل الشمبانزي من البشر».
في عام 1966 رصدت جودل سلوكا لا يقل عجبا. شمبانزي عجوز آخر (اسمه مكجريجور) كان قد التقط عدوى فيروس شلل الأطفال (هذه المرة انتقل الفيروس من الإنسان إلى الحيوان!) وفقد التحكم في رجليه وصار يجر جسده بقوة ذراعيه فقط. منذ ظهور تلك الإصابة الفادحة قررت بقية العشيرة اعتزاله، بل شوهد بعضهم يضربه على ظهره مع «تكشيرة رعب قبيحة» بتعبير جودل، التي تذكر كذلك تلك المرة التي سحب مكجريجور فيها نفسه إلى بعض رفاقه الذين كانوا يستمتعون بجلسة تنظيف وعناية شخصية جماعية، ومد إليهم يدا مع خوار بهيج، أملا في استمالة لمسة من عطفهم. لكنهم سرعان ما فروا منه إلى شجرة عالية بلا لحظة تردد، بينما ظل مكجريجور يتابعهم من مكانه بالأسفل بنظرات خرساء لدقيقتين كاملتين. تصف جودل المشهد الحزين في كتابها «في ظل الإنسان» وتعلق: «بينما كنت أراقبه يجلس هناك وحيدا تغيم نظري، وحين نظرت إلى رفاقه أعلى الشجرة، داهمني شعور لم يخالطني من قبل -ولا من بعد- هو أقرب ما يكون إلى كراهية الشمبانزي».
تتجلى هنا العزلة الاجتماعية في أقسى صورها، وأكثرها شبها بما قد يقترفه الإنسان. لكن جودل تعود وتحكي مشاهدات عن بعض حالات الإصابة الأخرى بفيروس شلل الأطفال تعرض أصحابها لمعاملات أقل قسوة وأكثر ترحيبا. حتى العجوز مكجريجور نفسه لم يحرم تماما بعض مشاعر التراحم، فقد ظل حتى أيامه الأخيرة -كما تحكي جودل- يحظى بدرجة ما من الصحبة، منحه إياها همفري –اعتقدت الباحثة أنه كان شقيقه- الذي حرص طوال الأسابيع الأخيرة من حياة مكجريجور على البقاء بجواره. لم يكن يلامسه أو يقترب منه أكثر من اللازم، لكنه لم يبعده قط عن مجال رؤيته، ولم يدع أحدا يتعرض له بالأذى.

عظام أخرى

لا يسعنا الآن إلا أن نعاود التفكير في مسألة عظمة الفخذ الآدمية التي اعتبرتها مارجريت ميد أقدم آثار الحضارة، وفي كلمات برقية لويس ليكي التي تدعو إلى إعادة تعريف البشرية نفسها، وفي المقدمة الصامتة المهيبة لفيلم ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء» التي تصور لنا معركة حامية بين كائنات شبيهة بالقردة، يكتشف فيها بعضهم -لأول مرة- إمكانية استخدام الأدوات، للقتل هذه المرة، ويقذف القاتل في نشوة انتصاره بسلاحه المكتشف، الذي لم يكن سوى عظمة فخذ أيضا! ثم تذوب اللقطة من تصوير العظمة وهي ترتفع وتشق الهواء ثم تعيدها الجاذبية إلى الهبوط، إلى تصوير فضاء تسبح فيه مركبة فضائية لا يبتعد شكلها أو لونها كثيرا عن عظمة الفخذ، وتبدأ مقطوعة شتراوس «على ضفاف الدانوب الأزرق الجميل» في التعالي شيئا فشيئا، بينما يشرق كوكبنا الأزرق الجميل وسط السواد العظيم، ويتهادى في عزلته التي لا يخترقها سوى بياض القمر وتلك المركبات المتناثرة كشظايا عظمية، التي نجحت الحضارة البشرية -أيا كان الغرض- في جعلها تفلت أخيرا من قبضة قانون الجاذبية الأرضية.
(عن موقع “حبر”)

Related posts

Top