العقوبات تجبر زعماء جنوب السودان على الرضوخ لنداءات السلام

حلت الذكرى السادسة لاندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان قبل أيام، واصطحبت معها بعض الإشارات التي تدعو إلى التفاؤل بتنفيذ اتفاق السلام بين طرفيها، الرئيس سلفا كير، وغريمه ونائبه السابق رياك مشار، حيث تعهد الجانبان، الثلاثاء الماضي، بتشكيل حكومة وحدة وطنية مع حلول فبراير المقبل، وتجاوز جميع العقبات التي حالت دون ذلك أكثر من مرة، ووضعت الدولة الوليدة على فوهة بركان قد تصل انعكاساته إلى دول مجاورة.
ويستجب الطرفان للكثير من الضغوط التي مورست عليهما لإجبارهما على الرضوخ لمتطلبات السلام، واستهان كلاهما بالنداءات الخارجية، بعد تحميلهما مسؤولية التعثر في استعادة الأمن والاستقرار، والتمسك بمواقف حالت دون تقريب المسافات.
في كل اللقاءات التي عقدت بينهما في جوبا أو أديس أبابا أو الخرطوم، لم تكن النوايا خالصة لتقديم تنازلات تنهي الحرب الممتدة لسنوات، وتوقف نزيف الخسائر في الأرواح، وتضع حدا لظاهرة المشردين والنازحين التي أصبحت تؤرق المجتمع الدولي، وتقف شاهدة على إخفاقه المستمر في إنهاء مأساة جنوب السودان.
أثمرت الضغوط المادية والمعنوية التي مورست من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وبعض دول المنطقة، في إجبار كير ومشار على التوصل إلى تفاهمات حاسمة لتشكيل الحكومة، بعدما تجاوزا الموعد السابق في 12 نوفمبر الماضي، ومددا المهلة مئة يوم أخرى، بما أثار مخاوف من استمرار الحرب الأهلية، بكل ما جلبته من مشكلات إنسانية في الدولة.
أضفى تعهد المسؤولين الواضح للمضي قدما في طريق الحكومة في كل الأحوال، “إذا لم تكتمل الترتيبات ستشكل حكومة انتقالية لتحسم القضايا القائمة”، بريقا من الأمل، يوحي بالعزيمة والرغبة في أن يكون هذا الموعد آخر حلقة في حلقات نقض العهود، لأن مواصلة الدوران في الدائرة المغلقة سوف تقود إلى مشكلات أشد وطأة.
جاء الاتفاق الجديد بعد يوم واحد من قيام وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات على اثنين من كبار المسؤولين في جنوب السودان، وهما وزير الشؤون الحكومية، مارتن إليا لومورو، ووزير الدفاع، كول مانيانغ غوك، وتم وضعهما على اللائحة السوداء للعقوبات، لدورهما في تغذية الصراع بالروافد التي تجعله مستمرا والاتهام بالثراء الشخصي وتأخير تشكيل الحكومة.
اتهمت وزارة الخزانة صراحة لومورو بتجنيد عصابات مسلحة محلية للهجوم على قوات معارضة، بينما قالت إن جوك أخفق في سحب قوات عسكرية من ميدان المعركة، مثلما هو متفق عليه، ما أجج العنف بين قبائل منافسة، وتجهيز ميليشيات متعددة لاحتمال تجدد أعمال العنف في أي وقت، وهي الإشكالية التي تجعل الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات الغامضة، وهو ما يؤرق المجتمع الدولي.
تصمم الولايات المتحدة هذه المرة على مواصلة ضغوطها وتبني خطوات أكثر حسما، وأبدت اهتماما بتفعيل العقوبات الدولية السابقة، لأن التأثيرات الاستراتيجية للحرب قد لا تستطيع واشنطن تحمل تكاليفها الباهظة، في ظل تنافس بعض القوى الكبرى، مثل الصين وروسيا، وحرصها على التمترس في جنوب السودان ومنه إلى دول أخرى في قارة أفريقيا.
أبدت واشنطن استعدادا لفرض إجراءات صارمة على كل من يتسبب في تأجيج النزاعات، وقيدت عملية منح التأشيرات لأي شخصيات يمكن أن تعرقل التوصل إلى سلام مستقر، ودعت مجلس الأمن إلى النظر في مسألة فرض عقوبات شديدة وواسعة، إذا فشل كير ومشار في الالتزام بتنفيذ بنود اتفاق السلام.
تخضع دولة جنوب السودان لعقوبات مختلفة منذ اندلاع الحرب الأهلية، ويتم تجديدها سنويا من قبل مجلس الأمن، وتشمل حظر توريد السلاح، وتجميد أصول وممتلكات تابعة لمسؤولين عن المعارك، وجرى توجيه اتهامات غير مباشرة لبعض دول الجوار بعدم الالتزام بالعقوبات، الأمر الذي ساعد في تقويض مبادرات التسوية.
يدور الخلاف الأساسي بين كير ومشار حول ترسيم الحدود في بعض الولايات، وجمع المقاتلين ودمجهم في جيش نظامي موحد، ولعبت المخاوف المتبادلة من نوايا الآخر دورا مهما في توسيع الهوة بينهما، وقادت إلى تعقيد الكثير من القضايا، وتصاعد حدة الاستقطاب لقوى مسلحة وسياسية وقبلية، بما ضاعف من المأزق، حتى ارتاح الطرفان إلى صيغة اللاحرب واللاسلم الراهنة، وفضلاها على امتلاك إرادة للحل السياسي الناجح، خوفا من دفع تكاليفه.
أصبحت مصداقية كير ومشار على المحك، بعد أن زاد تفاعل دوائر إقليمية ودولية مع ما يجري من تدهور في جنوب السودان، وتم تجاوز الصمت والتقاعس والتراخي السابق لأجل وضع حد لأزمة يمكن أن تلقي بالمزيد من التداعيات السلبية على الدول المجاورة. وأول اختبار حقيقي هو تشكيل الحكومة بصورة متوازنة وقابلة للحياة، فهذه ليست المرة الأولى التي تحدد فيها توقيتات معينة ثم يتم خرقها من جانب الطرفين أو أحدهما.يأتي الاختلاف هذه المرة من حرص قوى عديدة على وضع جنوب السودان على طريق التسوية السياسية الشاق، بما يتماشى مع التطورات المتلاحقة وتنامي محور السلام والتنمية في المنطقة، والتي شهدت تقدما ملحوظا في حل الصراعات، بين إثيوبيا وإريتريا، وكينيا والصومال، فضلا عن السودان الذي قطع شوطا كبيرا في تجاوز جزء من جراحه الداخلية، وشرعت السلطة الانتقالية في إيجاد توافقات مع الحركات المسلحة، من خلال محادثات جرت مقاطع كبيرة منها في جوبا نفسها.
تعرض الرئيس سلفا كير الفترة الماضية لحملات سياسية ضارية شككت في توجهاته نحو السلام، وأثرت على الدور الذي يقوم به في المفاوضات بين الخرطوم والجبهة الثورية السودانية، وألمحت بعض الجهات الإقليمية إلى سحب البساط من تحت قدميه بخصوص هذا الملف، باعتباره “غير جدير بالثقة”، والأولى به أن يتفاهم مع معارضيه، ويجد حلا نهائيا لأزمة حادة نخرت بنيان الدولة، وباتت تهدد مستقبلها.
يشعر كير بأنه أضحى في مفترق طرق؛ فإما أن يتفاهم مضطرا مع خصمه اللدود رياك مشار، وإما أن يتعرض لعقوبات دولية، كما تعرض مسؤولون في حكومته أخيرا، وربما تشمل جهات نافذة في الدولة، وتترتب على ذلك تداعيات سياسية، مثل سحب ملف الحوارات بين الجبهة الثورية، كممثلة للحركات المسلحة، والخرطوم، بما يضعف الثقة في إدارة جوبا، ويعمق جراحها في المنطقة، ففي الوقت الذي تتجه فيه معظم دولها إلى تسويات مرضية سوف يمثل سلفا كير لحنا سياسيا شاذا في هذا المجال، وتتسلط عليه أضواء الممانعة والتمرد والرفض، وربما العقوبات.
يبدو الاهتمام الدولي هذه المرة أكثر جدية، فقد أثارت الحرب الأهلية في جنوب السودان ذعر دوائر كثيرة، وحاولت تقديم مقاربات لوقفها، غير أنها لم تكن في غالبيتها جادة، واقتصرت على تهدئة الشق الإنساني، حيث سبب إزعاجا لبعض القيادات، وحتى قرارات مجلس الأمن والتلويح بفرض عقوبات لم تأخذ طابعا جديا يجبر طرفي النزاع على التجاوب مع جهود السلام، واعتمد كل منهما على قوى إقليمية تناصره، بشكل أسهم في تمديد الصراع.
تحتاج جملة المواقف الجديدة إلى درجة عالية من تحييد العناصر الإقليمية التي ارتاحت لصيغة التنافر بين كير ومشار، وتحديد الدول التي تغذي الصراع بصراحة ودون تلميحات، لأن سد المنافذ الخارجية أولى أدوات تحقيق السلام، خاصة أن لعبة الحرب بالوكالة التي برعت فيها بعض القوى وسادت
المنطقة لفترة بدأت تتقلص، فالأعباء الناجمة عنها أصبحت مكلفة. ولذلك سيرضخ كير ومشار للسلام للهروب من العقوبات.

Related posts

Top